“لمدة ثلاث ليال لبثت مستيقظا أرسم وأذهب للنوم في الصباح، لطالما بدا لي الليل أكثر حياة وأكثر غنى بالألوان من النهار، أما عن استعادة الأموال التي دفعتها لمالك المسكن عن طريق الرسم، فأنا لا أحاول أن أثبت أي نقطة من خلال اللوحة، بل أعتبرها أكثر ما رسمته قبحا، إنها مساوية لـ “آكلو البطاطا” لكن في سياق مختلف. لقد حاولت أن أعبر عن شهوات البشر الفظيعة عن طريق الأحمر والأخضر، الغرفة ذات أحمر دامٍ والجدران ذات لون أصفر باهت، وطاولة بلياردو خضراء في المنتصف، وأربعة مصابيح ذات لون أصفر ليموني وتوهج برتقالي وأخضر، تناقضات وتشابكات لونية في كل مكان، من درجات الأخضر والأحمر المختلفة، يتعارض الاحمرار الدموي والاخضرار المصفر لطاولة البلياردو مع الاخضرار الرقيق للمنضدة التي تستقر فوقها باقة زهور وردية”
من مسكنه في أرل، فرنسا، أرسل فينسنت فان جوخ لأخيه ثيو خطابه المعتاد، يشكره على مساندته المعنوية والمادية، ويشرح له أحواله المعيشية، ويصف له آخر أعماله الفنية “مقهى ليلي”. في هذا المقطع من خطاب أرسله في سبتمبر/أيلول عام 1888، يصف فينسنت شعوره تجاه لوحته قبل أن يستطرد في وصفها تشكيليا ولونيا، ويبدأ وصف لوحته بجملة تعبر عن قبح عمله، بل بأنه أقبح ما رسم، ويقارنها بلوحته الشهيرة “آكلو البطاطا”. تضع تلك المقارنة لفظ القبح في سياق مختلف عن القبح الشكلي للفن الذي يمكن أن يتوقعه القارئ، قبح أكثر إنسانية وموضوعية، قبح أن تختبر كونك حيًّا في العالم الحديث المقلق، أكمل فان جوخ توصيفه لقبح اللوحة بوصف استخدامه للألوان لبيان تلك القتامة التي يختبرها شعوريا، وبدراسة خلفية فان جوخ الفنية يمكن فهم أن وصف الأعمال الفنية بالقبح يملك طبقات أكثر من مجرد انعدام القيمة الجمالية.(1)
في القرن العشرين وبعد اختراع جهاز يسمح للإنسان أن يلتقط الطبيعة كما هي على ألواح زجاجية سمي بالكاميرا، واجه فن الرسم معضلة كبيرة، فإذا كان هناك ما يمكنه أن يرسم الطبيعة كما تراها العين البشرية، فما وظيفة الرسم الآن؟ جاء الرد سريعا بمجموعة من الحركات الفنية منها الحركة الانطباعية أو التأثيرية، متأثرة بالاكتشافات العلمية الحديثة، صاغت الحركة أسلوبا آخر للرسم، أسلوبا يبعدها عن الواقعية التصويرية التي تهدف لنقل الواقع بتفاصيله وألوانه، وتقترب أكثر من التعبير عما يراه الفنان بداخل هذا الواقع، يتجلى تأثر الانطباعيين بالنظريات الحديثة عن الضوء والرؤية في استخدامهم لتقنيات تمكنهم من تصوير انعكاس الضوء على الموجودات، فلا يمكن للإنسان رؤية الألوان دون الضوء، وانعدام الضوء هو انعدام اللون.
لذلك أولت تلك الحركة اهتماما خاصا بالعلاقات اللونية، واهتماما بالوسيط اللوني ذاته حتى أصبح امتدادا لعين الفنان، لكن حتى مع نبذ الانطباعيين للواقعية، جاء جيل جديد يعتقد أنهم يولون اهتماما أكبر من اللازم لتصوير التأثير الطبيعي للون والضوء، وسمي ذلك الجيل المعترض بما بعد الانطباعيين، اهتموا باستخدام الألوان الجريئة والمميزة مثل سابقيهم لكنهم استخدموا أساليب أكثر تعبيرية وشعورية، شوهوا في الأشكال والمناظير، فيمكن للسماء أن تكون حمراء، ويمكن لليل أن يتحرك، ويمكن للون أن يعبر عن الحالة النفسية للفنان، ينتمي إلى تلك الحركة الهولندي الشهير فينسنت فان جوخ، الذي طوّر لنفسه أسلوبا لم يلقَ الدعم والترحيب الكامل في عصره لكنه وجد كل المجد بعد مماته وأعيد اكتشاف عبقريته.(2)(3)
لوحة “ليلة مرصعة بالنجوم” لفان جوخ والتي يظهر فيها ميله لاستخدام الألوان الصارخة والإيحاء بالحركة (مواقع التواصل) |
صارع فان جوخ في حياته داخليا وخارجيا، علم أنه لا بديل له عن الفن لكي يحيا، لكنه لم يحتمل ثقل تلك الحياة، تصارعه الأوساط الفنية التي لا ترى لأعماله أي ثقل جمالي، فهو عشوائي وصارخ، ألوانه صاخبة ومتنافرة، ضربات فرشاته سميكة غير متجانسة، لا يمكن وصف تلك التراكيب اللونية والتشكيلية بالجمال تحديدا، فهي لوحات مثيرة للاهتمام وللحواس، لكنها تكتسب قيمة الجمال كلما تمعنت في النظر فيها، عند رؤية لمعة الشمس على حقول القمح، أو كيف تتحرك النجوم في ليل أزرق قاتم.
لكي ينتج تلك التأثيرات البصرية والنفسية صارع فان جوخ عقله هو نفسه، فلقد عانى على مدار حياته من أمراض نفسية وعقلية جعلت فاعليته في المجتمع غير مستقرة، وإنتاجيته غير ثابتة، لكنه رغم ذلك أنتج مئات اللوحات في حياته، تنتقل موضوعاتها وأجواؤها من توصيف الريف الفرنسي الحالم والمدن الرومانسية إلى محاولات لتصوير قبح العالم وعدم استقراره، فالعالم في نهايات القرن التاسع عشر كان زوبعة غير متوقفة من القلق والفزع بالإضافة إلى القلق الذي احتل عقل فان جوخ، من خلال تلك السياقات وسياقات أوسع يمكننا فهم لماذا يمكن لفنان أن يصنع عملا قبيحا بكامل إرادته.
“تصبح الألوان المكملة حلفاء منتصرين عندما يتم وضعها بجانب بعضها البعض، وتصبح أعداء متصارعين عندما يتم خلطها ببعضها البعض”
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وجد فنانو الانطباعية مرجعا لا غنى عنه لفنهم، وهو دراسات الكاتب الفني شارل بلان عن نظرية اللون، اعتكف فان جوخ على شرحه لكيفية تناغم وتنافر الألوان، وأثر تلك التركيبات على المتلقي.
ومن أهم تلك الإضافات والنظريات التي يمكن تطبيقها على لوحة فان جوخ “مقهى ليلي” هي كيف أن دمج أو مقاربة لونين مكملين لبعضهما البعض من الممكن أن يكون قمة في التناغم أو العدائية إذا استُخدم بشكل آخر، والألوان المكملة هي المصطلح الذي يطلق على اللون الثانوي الذي يقابل لونا أساسيا في دائرة الألوان، ولتوضيح أكبر يمكن أن نلخص دائرة الألوان بشكل مبدئي بأنها تتكون من ثلاثة ألوان أساسية لا يمكن تكوينها من أخرى، فهي ألوان موجودة بصيغتها الأصلية في الطبيعة، وهي الأحمر والأزرق والأصفر، وينتج من كل لونين فيهما ثلاثة ألوان فرعية، فلكي نعلم اللون المقابل أو المكمل نلتفت إلى اللون الناقص في التركيبة، فإذا أخذنا الأحمر مثالا وهو اللون المسيطر على لوحة “مقهى ليلي” فإن اللون الذي يقابله هو الذي يتكوّن من اللونين الآخرين أي الأصفر والأزرق وناتجهم الأخضر.
لكي يصب جام غضبه وقلقه في تلك اللوحة، استخدم فان جوخ درجتين فاقعتين من لونين متقابلين، لكنه لم يستخدم الأخضر في صيغته النقية بل أضاف إليه اللون الأحمر، فتنافر اللونان كألدّ الأعداء حسب نظرية بلانك، وتجلى معنى القبح الذي كان يقصده فينسينت، فهو ليس قبحا تقنيا أو ما شابه، لكنه شعور غير مستقر بالرهبة والقلق يجتاح الناظر إلى التجانسات المؤلمة، فلكي تؤدي الألوان المكملة دورها كعناصر لتناغم التكوين يجب استخدامها بحرص شديد بجانب بعضها البعض، وهو ما كسره فان جوخ عمدا، فلقد استخدم الممنوع في النظرية لكي يحقق مبتغاه ورؤيته.(4) (5)
يصعب بأي حال من الأحوال تحديد معايير صارمة لتفريق الجميل من القبيح، خاصة حينما يتعلق الأمر بتوصيف الأعمال الفنية، لكن يمكن لتاريخ الفن أن يضع سياقا لتلك التوصيفات، فقديما كان من الطبيعي لفنون مثل الرسم والتصوير والنحت أن تقابل المعايير الأكثر انتشارا للجمال والقبول بالإضافة إلى قرب العناصر المصورة من الواقع، فالأجساد ممشوقة ومثالية والطبيعة ساحرة ومتلألئة، لكن مع دخول العالم الحديث في ويلات القلق والحروب أخذ الفن مناحي أبعد من تصوير الطبيعة وأصبح أكثر ذاتية يتأثر بالحالة النفسية والاجتماعية للفنان.
فعبّر التعبيريون في ألمانيا عن مخاوفهم ومآسي حيواتهم وأراضيهم بخطوط حادة مخيفة وألوان قاتمة وتصوير للعناصر بعيدا عن واقعية أشكالها، ثم جاء الانطباعيون برؤيتهم الشخصية للعالم من حولهم لكنها لم تخلُ من جماليات رقيقة، أما ما نجح في تنفيذه فان جوخ والذي على حد قوله أقبح ما رسم، لم تكن لوحة قبيحة لأنها منفذة بدون مهارة ولكن لأنها تترك إحساسا لاذعا في نفس من يراها، ربما كانت صراحته في توصيفها بالقبح مدخلا لفهم الفن الحديث بل والمعاصر، وكيف تحوّل من مجرد مشاهد تسر الناظرين إلى شيء يثير التفكير بل والتقزز والخوف أحيانا.