في أحد أيام عام 1734، نشب حريق هائل في القصر الملكي بمدريد دمر أجزاء كبيرة من القصر، في ذلك الوقت كان القصر يضم الكثير من الروائع الفنية والتحف النفيسة، لذلك كانت الأسرة المالكة حريصة على إخراج أهم هذه التحف من القصر قبل أن يدمرها ذلك الحريق. وكان ضمن هذه الآثار تحفة الفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز (1599- 1660) المسماة “وصيفات الشرف” التي رسمها عام 1656. لكنها لوحة ضخمة، يبلغ حجمها ما يزيد عن ثلاثة أمتار إلى أكثر من مترين ونصف، وكان من الصعب إخراجها وإنقاذها، لكن يبدو أن القصر الملكي كان يعرف جيدا قيمة هذا العمل الفني النادر. نجت الوصيفات بأعجوبة من خطر الزوال الذي كان قريبا جدا، لتصبح فيما بعد أكثر اللوحات التي أثارت الجدل والتساؤلات والتحليلات في تاريخ فن الرسم.(1)
عندما رسم فيلاسكيز الوصيفات كانت مكانة الرسم في ذلك الزمن تعتبر أقل أهمية من باقي الفنون، إذ كان يُنظر إلى الفنان على أنه حرفي، مقلد، شخص يعمل بيديه، لا بعقله ولا قلبه، ولا يتضمن عمله أي عمق فكري أو فلسفي. ويبدو أن هذه النظرة للفن لم ترُق لفيلاسكيز الذي كان يعمل رساما للبلاط الملكي في عهد الملك فيليب الرابع لمدة تقرب من ثلاثين عاما، كان فيلاسكيز في ذلك الوقت في سن متأخرة من حياته، لكنها كانت سنواته الأكثر توهجا ونضجا وعطاء. كان عازما على وضع كل معارفه وموهبته في هذه اللوحة “دفاعا عن فن الرسم”، فظل يعمل على هذه اللوحة التي قيل عنها فيما بعد إنها بمنزلة “الأساس اللاهوتي لفن الرسم”. ومنذ ما يزيد عن ثلاثة قرون، يثير النظر إلى هذه اللوحة المزيد من الأسئلة وكذلك التفسيرات، لكن لم يصل المحللون والنقاد إلى معنى نهائي لها حتى الآن.(2)(3)
“القليل من اللوحات في تاريخ الفن التي نُسج حولها الكثير من التفسيرات المتنوعة كما حدث مع ذروة أعمال فيلاسكيز “وصيفات الشرف”
(جوناثان براون، مؤرخ الفن)
الأميرة الصغيرة المغمورة بالضوء مارغريت تريسا هي أول ما ستقع عيوننا عليه ونحن ننظر، ثم سوف ننتبه إلى أن هناك من ينظر إلينا! إنه الرسام نفسه ينظر باتجاه المُشاهد خارج اللوحة. كذلك هناك الوصيفات على يمين ويسار الأميرة، كما نرى على الجدار الخلفي مرآة تعكس صورة لشخصين غير واضحي المعالم بما يكفي، يبدو أنهم موضوع اللوحة التي يرسمها الفنان في الداخل والتي تحتل الجزء الأيسر من المشهد الذي نراه نحن. كذلك على اليمين هناك فتاة صغيرة وقزم وكلب، وفي الخلف تقف الراهبة إلى جوار رجل يختفي وراء الظلام. خلف كل هؤلاء نرى شخصا يقف عند الباب المفتوح في الخلف أو يخرج منه لكنه ملتفت وراءه. يدخل ضوء ناعم إلى اللوحة من نافذة نراها على اليسار، كما نرى أن الباب الذي يقف عنده الزائر أيضا مضيء لكن نوره لا يؤثر. ببساطة نحن في محترف الفنان، ويبدو أنه قرر أن يتلاعب بالجميع.
اسم اللوحة “وصيفات الشرف”، لكن يبدو أنها لا تدور حول الوصيفات، إذ إن الأميرة مارغريت هي التي تقف في مركز اللوحة وينصب عليها جل الإضاءة. كذلك فإننا نرى الفنان يمسك بفرشاته وينظر باتجاه مشهد غير مرئي بالنسبة لنا، لكنه معروف أنه كان يرسم الملك والملكة التي تنعكس صورتهما في المرآة الخلفية للمشهد الذي نراه نحن، خصوصا وأن اللوحة كانت مخصصة للملك وكان يعلقها في مكتبه، فهل كان يرسم الملك والملكة حقا؟ إنهما أقل عناصر اللوحة ظهورا، انعكاسهما في المرآة باهت وغير واضح. فمن كان يرسم إذن؟ إنها كما يقول أورهان باموق “لوحة داخل لوحة”، يرسم الفنان نفسه ممسكا بفرشاته داخل محترفه المحاط بلوحاته المعلقة على الجدران. كما يفسح مساحة ليجعلنا نشاهد ظهر اللوحة التي يعمل عليها، إنه “فنان وسط فعل الإبداع”، فهل اللوحة عنه؟ هل هي بورتريه لفيلاسكيز نفسه؟ لا أحد يعرف!(4)
جزء من اللوحة يظهر فيه الرسام على اليسار والمرآة التي تعكس وجه الملك والملكة والأميرة ووصيفتها (مواقع التواصل ) |
من الواضح أيضا أن فلاسكيز لم يلتزم بالمنظور، كأن كل ما يقوم برسمه هو مجموعة من الوجوه المختلفة، كل وجه منها ينظر في جهة مختلفة بعيدا عن الآخر، كل شخص منغمس في عالمه، يشعرنا هذا بالصمت، رغم وجود الكثيرين في المكان نفسه. إذ إن كل من فيها لا يتحدث أحدهم إلى الآخر، حتى الراهبة التي تتحدث إلى جارها هو لا يستمع إليها أبدا، كما أنها من أكثر الشخصيات غير الظاهرة في اللوحة والتي أخفاها الرسام في الظل. ورغم كثرة الحركة التي نراها فإن الصمت يسيطر على المشهد. إن هذه اللوحة تجمع مجموعة من العوالم المختلفة داخلها، هي فقط لحظة التُقطت فيها هذه العوالم. تبدو اللوحة بحركة كل شخصياتها تشبه صورة فوتوغرافية حديثة التقطت بعفوية. يؤكد هذه العفوية أن كثيرا من الشخصيات تنظر خارج إطار اللوحة، نحو المشاهد، لكنها بالتأكيد لم تُرسم بعفوية أبدا.
تدب الحياة في الأشياء عندما تجتمع المتناقضات، لذلك قسّم فيلاسكيز اللوحة إلى ثنائيات متقابلة: رجل وامرأة، هما الملكة والملك في المرآة، والراهبة والرجل بجانبها يبدو أنهما زوجان، وكذلك الرسام والوصيفة بجانبه. كما ظهرت الأميرة والوصيفات، كذلك الظلام والنور والحركة والسكون. فعلى على اليمين يوجد امرأة تقف بلا حركة، وكذلك الأميرة التي تقف في هدوء، وإلى جوارهما فتاة صغيرة تعتني بالكلب وتلاعبه، فيصبح المشهد أكثر حيوية. في الجدار الخلفي الغارق في الظلام فتح الرسام بابا يدخل منه الضوء، نتساءل لماذا رسم الفنان هذا الباب بهذه الطريقة؟ ربما لكي يمنح اللوحة بعض الحركة كي لا نشعر بالجمود، وكذلك لكي يكسر الظلام ويبتعد باللوحة عن تقاليد التكوين التقليدية في الرسم، “وهكذا نحس أن اللوحة تتنفس”. (5)(6)
بدأت اللوحة تثير جدلا فلسفيا مع ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما لاحظ مجموعة من النقاد أن المرآة التي تعكس صورة الملك والملكة ربما لا تعكس الصورة المرسومة على الحامل كما كان متوقعا لها، إنما رسمها الفنان لتعكس مشهدا هو خارج اللوحة أصلا، مشهدا غير مرئي لنا، وهذا الاحتمال يعني أن الملك والملكة موجودان في الغرفة نفسها. بل إنهم موضوع هذا المشهد كنماذج أو متفرجين. من هذه الفكرة تنطلق أهمية اللوحة في العصر الحديث، إذ إن الملوك لو كانوا موجودين في الغرفة بالفعل، فهم يجلسون في موقعنا نفسه -نحن المشاهدين- من العمل. هكذا جعل الفنان المشاهد في مكان الملك نفسه. لقد كانت هذه الفكرة نقطة تحول في تقدير اللوحة فتحت الكثير من الاحتمالات التفسيرية الجديدة. لقد أصبحت وصيفات الشرف تمثل تأملا عميقا بين الحياة والفن.(7)
يدعم محتوى اللوحات المعلقة على النصف العلوي من الجدار الخلفي، والتي لا يظهر منها سوى القليل جدا، هذه الفكرة التي تولي اهتماما خاصا لمكانة الرسم. يقترح البعض بناء على ما هو ظاهر من هذه اللوحات، وكذلك تاريخ اللوحة نفسها، واللوحات التي اختار الفنان أن يعلقها، أن اللوحات هي للفنان “بيتر بول روبنز”. اللوحة التي على اليمين يتحدى فيها الإنسان “مارسياس” الإله “أبولو” في مباراة لعزف الناي. وعلى اليسار تتحدى الإنسية أركني الإلهة “أثينا” في مباراة للخياطة. من الواضح أن موضوعات اللوحات عبارة عن مبارزتين بين البشر والآلهة حول موضوعات الفن. في النهاية يخسر مارسياس وتربح أركني، لكنّ كليهما يُعاقب من الآلهة في نهاية المطاف، لأنهما فشلا في الوعي بالمصدر الإلهي في الأعمال الفنية. لقد أراد فيلاسكيز أن يجعل الرسم لا يقل مكانة عن الشعر والموسيقى. وسوءا كان مصدره العمل الدؤوب أو الإلهام الإلهي فإن اللوحة تقول بوضوح: انظر ما الذي يمكن لرسمي أن يفعله؟(8)
“إن عيني الرسام في اللحظة التي تضعان فيها المشاهد في حقل رؤيتهما تمتلكانه وترغمانه على الدخول في اللوحة مخصصتين له مكانا هو في آن واحد متميز وإجباري”
(ميشيل فوكو، الكلمات والأشياء)
في الفصل الأول من كتابه “الكلمات والأشياء” يخصصه ميشيل فوكو للحديث عن هذه اللوحة، يقول: “إنه محض تبادل: إننا ننظر إلى لوحة وفيها رسام يتأمّلنا بدوره. لا شيء أكثر من وجه لوجه، من عيون تفاجئ بعضها، من نظرات مستقيمة تتراكب حين تتقاطع. ومع ذلك فإن هذا الخيط الرفيع من الرؤية يحتوي بالمقابل شبكة معقدة من الشكوك والمبادلات والتهرب. فالرسام لا يتجه بعينه نحونا إلا بمقدار ما نوجد في موضوعه الرئيسي. ونحن المشاهدون لسنا إلا مجرد زيادة. وإذ نستقبل هذه النظرة، فإنها تطردنا، ليحل محلنا ما كان منذ بدء الأزمنة يوجد هناك قبلنا: النموذج نفسه”.(9)
“على الصورة أن تخرج من الإطار”
هذه النصيحة التي تركها باشرو العجوز لتلميذه فيلاسكيز عندما كان يعمل في محترفه في إشبيلية، يبدو أنه طبقها حرفيا بأكثر الطرق غرابة وغموضا. (10)