“الجمال سيُنقذ العالم”[1]
(فيودور ديستويفسكي، الأبله)
في روايته الشهيرة “الأبله” (The Idiot) يُقدّم فيودور ديستويفسكي أحد أهم الحلول الناجزة لإنقاذ العالم؛ ألا وهو: الجمال. في كلمة واحدة بلا خُطب ملحمية أو شعارات حماسيّة، إلا أنّ هذا الحل أتى أشبه بالسهل المُمتنع؛ على قدر بساطته على قدر استحالته.
فإذا كان الفن أو الجمال هو فعل نقوم به موضحين الطريقة التي نرى ونختبر بها العالم، وإذا نجح الإنسان في توصيل أفكاره ومشاعره للآخرين باستخدام وسائل مُعينة تُعينه على فتح آفاق جديدة لرؤية الماضي والواقع والمستقبل، فماذا يحدث إن سُدّت تلك الآفاق أو بُترت أو شُوّهت؟
هُناك عدد مِن البشر يُغرقوننا كل يوم بالتحليلات الفلسفية والشروح السياسية حول الحال الذي صار إليه العالم، ويرسمون لنا عالما يستحيل فيه الوقوف على تعريف محدد للأشياء، ويذهب بنا الحال أحيانا للشعور أنه لن يكون هناك معرفة البتة.
فكل محاولة للوقوف على معنى تذهب أدراج الرياح، بل إن كل ما تقف عليه البشريّة مِن معارف كليّة ليس سوى أطروحات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المعاصر لها، والحقائق مُختلفة باختلاف العصور والمجتمعات أو بالأحرى كما يقول نيتشه: “لا يوجد حقائق يوجد فقط تأويلات”[2]، فالتمسك بأي نمط أخلاقي أو سردية ميتافزيقية هو محض اختيارات وتفضيلات شخصية.
في كتابه “بعد ما بعد الحداثة مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن”، ترجمة أماني أبو رحمة، يقول المفكر الألماني راؤول إيشلمان: “تعرض ما بعد الحداثة فخا محكما استثنائيا لا مفر منه فيما يتعلق بالمعنى، وأي محاولة يبذلها المرء في رحلة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح، لأن كل علامة تعد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى، فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل إنه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائيا. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة، وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل، وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مُغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية”[3].
إذا كان العالم قد وصل إلى حالة من التشظي تغرق فيها الجماليات في بحور النسبية والتعدد، هل يصير أي عمل فني، لوحة مثلا، سوى لطخات ملونة على القماش؟ مُجرد ألوان تنساب لا تقف على معنى ولا ترسم حدودا لأي شيء! هل هذا ما صرنا إليه؟
هل صار كل معنى تأسيسي لأي نوع من الجماليات نسبيا تماما، يقتصر على صاحبه فقط ولا أحد مضطر للإيمان به أو تحمل تبعاته الأخلاقية؟ هل صار أي جمال، مهما كان عدد البشر المتفقين على أنه جمال، غير قادر على إنقاذ العالم؟ رُبما، فالعالم، الذي يسود فيه العقل التنويري العلمي على كافة الميادين، لا يقبل بأي أبعاد صوفية أو روحية لفكرة. فكل ما مِن شأنه أن يظهر على أنه مُقدس أو يُثير “حس التقوى” يُقلق العقلية التنويرية العلمية، التي بالتالي ترى وجوب “نزع السحر عن العالم”. لكن على الجانب الآخر، تفتح التجربة الجمالية أو الفنية نافذة للمُقدس ليطل علينا من جديد!
إن حس الجمال يحمل الممارس للتجربة الجمالية مِن باحة الواقع ويحلق به في عوالم أخرى، فيصير المرء بعدها حرا في اختيار نظامه القيمي والأخلاقي، وهذا ما يؤسس بدوره لكافة أشكال التواصل الإنساني. فالجمال هو الشيء الوحيد القادر على خلق نظام أخلاقي يعمل كشبكة تُظِل تحت سقفها عددا من المؤمنين بذاك النظام.
وهذا بالتحديد ما يُعطي عبارة “إنّ الله جميل يحب الجمال” قيمتها، بوصف الجمال مؤسسا لكل نظام لا يشوبه شائبة. وبالعودة لما قاله ديستوفيسكي عن “أنّ الجمال سيُنقذ العالم”، كيف يُنقذ الجمال عالما لا يعترف بحتمية جمال أي شيء؟
“تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية”[4]
(راؤول إيشلمان)
وإذا كان الجمال هو السبيل لمعرفة الحقيقة والوصول للإيمان، أفلا يكون وضعنا الحالي، كأرواح تعيش حالة من النسبية والعدمية مُحاصره في الظلام، دليلا على أننا لا نؤمن بأن “الجمال ينقذ العالم”؟