مسـتقـبل البشـريَّـة
حواران بين ديفيد بوهم و جِدُّو كريشنامورتي
سمير كوسا
يجد القارئ في هذا الكتاب الصغير[1] حوارين من الحوارات العديدة التي أجراها ديفيد بوهم وجِدُّو كريشنامورتي على مدى سنوات وتمَّ نشرُ بعضها في عدد من الكتب، مثل: يقظة الفطنة، كلية الحياة، وخاصة: الحقيقة والواقع وإنهاء الزمن[2].
ج. كريشنامورتي (1895-1986)
كريشنامورتي فيلسوف هندي الأصل. وكلمة “فيلسوف” ليست دقيقة تمامًا هنا: فغالبية الفلاسفة يقومون، انطلاقًا من مسلَّمات يقبلون بها وتشكِّل نواةَ فلسفتهم، ببناء صرح نظري قد يطبِّقونه على النشاطات الإنسانية وعلى الطبيعة كافة. أما كريشنامورتي فهو ينطلق من معايشة داخلية تمكِّنه من رؤية خيوط الـ”أنا” العنكبوتية. فكل منا يشكِّل مجموعةً واسعة من الإشراطات والذاكرات التي تراكمت عِبْرَ السنين منذ بدء البشريَّة والتي نرثها من خلال الجسم والتربية والمجتمع إلخ؛ ومن هنا فإن كلَّ سلوك نسلكه هو حصيلة لهذه المجموعة. والسؤال هو في معرفة إنْ كان الإنسان قادرًا على العيش حرًّا من هذه الإشراطات كلِّها (على المستوى النفسي)؟ وفي عبارة أخرى: هل يوجد “حقل” للوعي لا يخضع للإشراط يمكن للإنسان أن يحيا على إيقاعه؟
يجيب كريشنامورتي عن هذا السؤال بالإيجاب. وقد جاب العالم، منذ نهاية عشرينيات القرن الفائت حتى وفاته، يلقي المحاضرات في مختلف البلدان والأوساط لكي يبين كيف أن العنف والتناقض والخوف تنتج كلها عن المجموعة الآنفة الذكر.
د. بوهم (1917-1992)
أما ديفيد بوهم، فلا شك في أنه من ألمع الفيزيائيين المعاصرين؛ وكان يحظى باحترام الجميع وتقديرهم (حتى بين خصومه الفلسفيين). وقد قام بدراسات نظرية أساسية وعلَّم الفيزياء في العديد من الجامعات الدولية. اهتم بوهم اهتمامًا عميقًا بالبحث عن معنى الفيزياء الحديثة، وعمل منذ الخمسينيات على إيجاد دروب جديدة، جسَّدها قبل وفاته بسنوات في مفهومه حول “النظام الضمني” Implicate Order؛ وهو محاولة جذرية يهدف من خلالها إلى تفسير الفيزياء الحديثة وإيجاد قاعدة مشتركة للوعي والمادة في تجلِّياتهما كافة.
في نهاية الخمسينيات، قرأ بوهم مصادفةً كتاب كريشنامورتي الحرية الأولى والأخيرة[3]، فلفتتْ نظرَه طريقةُ معالجة المؤلِّف لمسألة “المراقِب” و”المراقَب” (الراصد والمرصود)، وهي مسألة أساسية في الفيزياء المعاصرة. في أعقاب ذلك، سعى بوهم إلى لقاء كريشنامورتي الذي ربطتْه به صداقةٌ عميقة وطويلة. وقد قال بوهم إنه، منذ اجتماعه الأول مع كريشنامورتي، شعر بارتياح كبير: إذ لا توجد لدى هذا الأخير حواجز، فضلاً عن انفتاحه على الآخرين ويقظته وحريته. وأضاف بوهم أن هذا كلَّه ذكَّره بشخصية أينشتاين[4]. وساهم بوهم في ما بعد في التعليم في مدرسة بروكوود في إنكلترا التي تستوحي أساليبُها التربوية الحرة فكرَ كريشنامورتي، حيث تسود علاقةُ مساواة بين التلميذ والمعلم تسمح لكلٍّ منهما بأن يتحرَّر من إشراطاته ويعي ذاته. يقول بوهم:
إن فكر كريشنامورتي يتخلَّله ما يمكن له أن يُسمَّى جوهر المقترَب العلمي، منظورًا إليه في صورته الأسمى والأنقى. إذ إنه ينطلق من حقيقة من حقائق طبيعة سيرورات فكرنا. وهذه الحقيقة يتم التأكد منها عِبْرَ انتباه لصيق، يتضمن إصغاءً متأنيًا إلى سيرورة الوعي ومثابرةً على رصدها. وفي هذا يتعلَّم المرءُ بصفة دائمة؛ ومن هذا التعلُّم ينتج الاستبصار في الطبيعة الإجمالية أو العامة لسيرورة الفكر. ثم يتم الفحص عن هذا الاستبصار: يتأكد المرء، أولاً، من أنه متماسك تماسُكًا عقلانيًّا؛ ثم يتأكد المرءُ أنه يقود إلى النظام والاتساق، وذلك مما ينضح عنه في الحياة ككل.
فيما يلي عرض موجز، تقريبي، يلزمه الكثير من الشرح والتدقيق، للحوارين المنشورين في الكتاب.
يبدأ المتحاوران في الحوار الأول بعرض الوضع الراهن للبشرية، من حروب وبطالة وتمزُّق ومجاعات إلخ، ويبحثان في أسباب هذا كلِّه. ولا شك في أن هذا الوضع يتأتَّى من وعي البشرية الراهن. فما هي، بالتالي، طبيعة هذا الوعي الذاتي؟
يتوصل المتحاوران إلى أن الوعي الذاتي هو حصيلة للذاكرات والمعتقدات والطقوس والتجارب والمخاوف والأفراح والأتراح إلخ. في عبارة أخرى، فإن الوعي الذاتي هو محتوى هذا الوعي. وتنعكس طبيعةُ الوعي الذاتي هذه على الأنشطة والأصعدة كافة. ويقوم هذا الوعي بالبحث عن مأوى، عن الأمان؛ وبهذا يخلق التجزئة والفرقة بين البشر تحت أشكال مختلفة: دول، معتقدات، أنظمة، إلخ. وهكذا نجد أن في أمان الذات هلاكَ الإنسان. فكيف يمكن لنا أن نبدِّل من طبيعة الوعي الذاتي هذا؟ كيف يمكن لنا أن نتجاوز الفكر التجزيئي؟
لدى محاولتنا إعطاء إجابة فعلية عن هذه الأسئلة، تواجهنا مزالق عدة: منها الاعتقاد أن في إمكاننا، بواسطة الأنا (أو الوعي الذاتي)، التأثير على الوعي الذاتي نفسه. فإن كانت الطبيعة تشهد تطورًا على المستويين الجسماني والبيولوجي، فإن التطور غير موجود على مستوى الذات: إذ إن مستقبل الوعي الذاتي سيكون مماثلاً تمامًا لماضيه، وسيشهد النشاطاتِ والأفكارَ ذاتَها وفقًا لنموذج يتكرر في استمرار مهما ازدادت المعارفُ وتبدَّلت الأفكار.
ويمكن القول أيضًا أنه إذا كان زمن الساعات (الوقت) حقيقيًّا، أي ذلك الزمن الذي يلزم للانتقال من مكان إلى آخر أو لتعلُّم لغة جديدة، فلا وجود لـ”زمن ذاتي” يسمح لنا بالانتقال من وعينا الذاتي الحالي إلى نموذج آخر. فعلى هذا المستوى، يكون المراقِب (الراصد) هو المراقَب (المرصود) ذاته. وهنا من المفيد أن نعلم أن جميع البشر يتصفون بالأساس (الركيزة) النفسي عينه: ففي كلٍّ منَّا نجد العمليات النفسية ذاتَها والمحتوى النفسي بعينه. فوعي البشرية على هذا المستوى كلٌّ متَّحد، وكلٌّ منَّا يمثل هذا الوعي. فكيف يمكن، بالتالي، تجاوُز الفكر والوعي الذاتي مادام لا وجود للتطور ولا للزمن على هذا المستوى؟!
قد يكون الجواب محيِّرًا عند مَن لم ينظر عميقًا في ذاته ويفحص عنها. فعندما نعي تمامًا عدم جدوى سائر المحاولات الرامية إلى تبديل الذات جذريًّا وعبثيتها، يبقى هناك نوع من الإدراك الآني مستقل عن حركة الذاكرة، لا تشوبه ردَّات الفعل والذاكرات؛ وفي عبارة أخرى، يوجد، بحسب المتحاورَين، نشاط فطين، غير فكري، يحتويه ويتجاوزه. ويبدو الإنسان أمام هذه الفطنة الحية أشبه بآلة مبرمجة عِبْرَ مئات السنين لتكون هندية، إنكليزية، إلخ، ولتسلك دائمًا وفق الآليات إياها.
يعود المتحاوران في حوارهما الثاني إلى هذه القضية، فيسلِّطان الضوءَ عليها من زاوية أخرى. يطلق كريشنامورتي على الفطنة السابقة اسم “الذهن” Mind، ويقول إن الذهن منفصل عن عمليات المخ الاعتيادية وإنه ليس خاصًّا بشخص بعينه. أما العلاقة بينه وبين المخ، فإنها تقوم لدى انتهاء حركة هذا الأخير المشوشة غير المنتظمة.
لقد بُرمِجَ المخُّ خلال مئات السنين ليتطابق مع نموذج معين. وفي هذه الحقيقة تكمن أصول المشكلات الإنسانية وعلَّة انقسام الإنسان على ذاته. يقول كريشنامورتي:
لنأخذ، على سبيل المثال، أزمة أو مشكلة ما. حسبما نعلم، ينجم أصلُ المشكلة عن شيء يعتمل فينا. ونحن نستقبله بذاكرات الماضي كلِّها، أي على نحو منحرف، وهلمَّ جرا. وهكذا تتفاقم المشكلة. قد نتمكن من حلِّ مشكلة واحدة. إلا أنه في حلِّ مشكلة خاصة تنبثق مشكلاتٌ أخرى، كما يحصل في عالم السياسة، وهكذا دواليك…
فهل في الإمكان، إذن، تجديد خلايا المخ والتحرُّر من كلِّ برمجة؟ أو هل من الممكن أن نواجه مشكلة من دون أن تتدخل الذكريات والأفكار والإسقاطات كلُّها؟ يكمن الحل في إدراك صافٍ لما هو موجود وللواقع. ومن خلال الانتباه اليقظ، يؤثر الذهنُ على مادة المخ ويحوِّل خلاياه وينهي برمجتَها.
في مقدمة الكتاب يحاول ديفيد بوهم توضيح أهمية المفهوم الأخير (وهو في نظر كريشنامورتي حقيقة اختبارية). يقول بوهم:
لو كان الذهن مقيدًا بإحدى حالات المخِّ لكان مستقبل البشرية قاتمًا. لكن الذهن حرٌّ من التشويهات الناجمة عن إشراطات المخ. ويمكن من خلال البصيرة المتولِّدة عن انتباه غير موجَّه، لا مركز له، إحداث تبدُّل في خلايا المخ ووضع حدٍّ للإشراط المدمِّر.
ويضيف:
إن كان هذا صحيحًا فمن الجوهري أن يكون لهذا الانتباه حضور، وأن تُبذَل من أجل هذه المسألة الطاقةُ نفسها التي نخصِّصها عادةً للنشاطات الحيوية الأخرى في الحياة.
ويقول أخيرًا:
توفِّر الأبحاثُ الحديثة عن المخ وعن الجملة العصبية سندًا متينًا للقول بأن البصيرة تُحدِث تبدلاً في خلايا المخ. فمن المعروف، على سبيل المثال، أن الجسم يحتوي على مواد هامة، كالهرمونات والنواقل العصبية، التي تؤثر تأثيرًا رئيسيًّا على وظائف المخ والجملة العصبية كافة. وتستجيب هذه المواد في كلِّ لحظة لما يعرفه الفرد ولتفكيره ولما يعني هذا كلُّه في نظره. ومن المعلوم في وضوح أن خلايا المخ ووظائفها تتأثر تأثرًا عميقًا بالمعرفة وبالمشاعر. ويصير من الممكن، على هذا النحو، للبصيرة، التي يجب أن تأتي في حالة ذهنية ذات سوية طاقية وشعورية مرتفعة، أن تغيِّر خلايا المخ تغييرًا عميقًا.
لا أخفي، في نهاية هذا العرض، إعجابي بكلٍّ من كريشنامورتي وبوهم اللذين يرفضان جميع الحلول الناقصة، السهلة والخادعة، لقضايا الإنسان، مسلِّطَين الضوء على هذه المسائل في صورة جديدة، عميقة وأصيلة.