من عصر الرواية إلى عصر بلاغة الرواية
قراءة في كتاب “الرّواية والبلاغة” للباحث محمد مشبال
مصطفى رجوان
لقد ودّع العربيّ عصر الشّعر إلى عصر آخرَ جديدٍ هو عصر الرّواية، لكنّ العقل العربيّ لا يزالُ يرى البلاغةَ، خاصة الأدبية منها، مقترنةً بالشعر. ولا يزالُ يرى البلاغة مقصورةً على اللغة الشّعرية العالية ويعجزُ عن اكتشاف مكامن البلاغة والجمال في سواها. وقد كان النقاد العربُ القدماءُ يهمشون السرد تهميشاً لأنّ لغته دون لغة الشّعر، إلا المقامات فقد كُتبت بتلك اللغة التي يحبّها الناقد العربي القديم. وهكذا جار الشّعر على غيره من الأجناس. وقد رأينا أنّ بعض المحاولات التي كتبت في بلاغة الرّواية أنزلت مقولات الشّعر على الرّواية وهذا لا يستقيم. والواقع أنَّ البلاغة ذاتُ طبيعةٍ دينامية، وقد وجدَ الخطابُ ثمَّ وجد علم البلاغة الذي يصفهُ، وليسَ يصحُّ في الأفهام أن نسقطَ جماليات الشّعر على الرّواية، فلكلّ خطاب جمالياته الخاصة وبلاغته الخاصة.
يحاولُ هذا المقال أن يقدّم إلى القارئ العربيّ كتاب “الرّواية والبلاغة: نحو مقاربة بلاغية موسّعة للرّواية العربيّة”، 2019، للباحث المغربيّ والبلاغيّ محمد مشبال، والفائز بجائزة كتارا للرواية العربية، تقديماً مركّزاً على خطوطه الكبرى بوصفه المحاولة الحقيقية الأولى في بلاغة الرواية العربية في رأينا.
إنَّ مجرّد تجاور الرواية والبلاغة يثير في ذهن الباحث زوبعةً من التساؤلات وغيمةً كبيرةً من الشكّ في صدق دعوى عنوان الكتاب، ويشكّل أفقٌ كبير للانتظار خاصّة عند الباحث المختص في البلاغة، الذي يطرحُ أسئلة ملحّة من قبيل:
– ما مهمة التحليل البلاغي للرواية؟
– هل بلاغة الرواية محصورةٌ في بلاغة الحجاج؟
– كيفَ تحلّل البلاغةُ الرّواية جماليّا دونَ أن تمسّ اختصاص السرديات وأن تختلط بالشّعرية؟
يمكنُ أن نستشفّ من المقدمة أن هذا الكتاب كان تدخّلاً من الباحث عندما رأى مجموعةً من الدراسات تجاور بين البلاغة والرواية ادعاءً أو مجازاً أو تحاولُ مقاربة الرواية بلاغيا دون تمثّل سليم لمفهوم البلاغة، مع تنويهه بمجموعة من الدراسات التي لامست أفق بلاغة الرواية وقدّمت إسهامات في الموضوع بنى عليها الأساس النظري للكتاب. ويمكنُ القول إنَّ هذا العمل انطلاقةٌ فعليّة للبحث في بلاغة الرّواية العربية، بحثاً يكشفُ عن جماليات جديدة فيها ويستوعبُ التخييليّ والحجاجي التداولي الموجود داخل عوالمها الممكنة.
الدّافع الآخر هو تجديد البلاغة العربية وإحياؤها من خلال تقريبها من المستوى العالمي: بلاغة الرواية مع واين بوث، وبلاغة الحجاج مع شايم بيرلمان، وشعرية السرد مع جماعة مو وجيرار جنيت، ومن خلال ربطها بجنس الرواية الجنس الأدبي المنتعش قراءة وتلقيا؛ فالبلاغة إذا أرادت الحياة لا بدَّ أن تشتغل على الأجناس العصرية ولا بدَّ أن تواكب مستجدّات العصر. فمن غير المعقول أن تظلّ البلاغة متعلّقة في ذهن العربي فقط بالشعر والخطابة والقرآن الكريم، وأن يقول إن الرواية لا بلاغة فيها لا لشيء إلا أنّه لم يجد فيها ما في تلك الخطابات من جماليات. وحكمةُ الباحث كذلك تقتضي أن ينصت للجنس البلاغيّ وأن يحاولُ اكتشاف جمالياته المكتشفة وغير المكتشفة بعد.
لقد تمّ تفكيك البلاغة بعد أن كانت إمبراطورية شاسعة حتى صارت تتحرّك في رقعة صغيرة هي الاستعارة. ويعدّ توجّه البلاغة الموسّعة تحرّكاً مضادّاً لهذا الاختزال الذي طالها. إنّ الفكرة تتمثّل في الخروج من ضيق الوجوه الأسلوبية الجزئية والوسائل الحجاجية إلى وصف البنيات السردية والأسلوبية والخطابية والحجاجية …، ويتعلّق الأمر أيضاً بالانفتاح على الحقول الأخرى مثل السيميائيات والشعرية والتداولية … والاستفادة من منجزاتها وضمّها إلى التحليل البلاغي. ولا تعودُ عبارة “البلاغة الموسّعة” إلى العنوان الفرعي لكتاب “الرّواية والبلاغة” فحسب، فليست مستحدثة؛ إنَّها مبدأ وركيزةٌ أساسٌ في المشروع البلاغي لمحمد مشبال وخيطٌ ناظمٌ لأعماله البلاغيّة. فالباحث بصدد مشروع متنام يطلقُ عليه في الأوساط الأكاديمية مشروع “البلاغة الرحبة”.
والواقع أنَّ الكتاب كانَ مغامرةً محفوفة بالمخاطر ومليئة بالفخاخ المعرفية. ويتمثلّ العائق الأكبر في المتن الرّوائي والمقاربة البلاغية كليهما. بالنسبة للرواية، فهيَ فضاءٌ لغويٌّ شاسعٌ، معقّد، متشابك الأصوات، ويستندُ على التفجير والتجاوز لا المعيار. وقد تغلّب الباحث على هذه المشكلة بمجموعة من الإجراءات منها تطبيق منظور أسلوبي موسّع يتحكّم في عالم الرواية كلّه من خلال آليات مثل الصورة الروائية والاستعارة والتمثيل والتقابل. أمّا بالنسبة للمقاربة البلاغية، فمفهوم البلاغة نفسه عاش تحولات تاريخية ومعرفية كثيرة. فتستعملُ البلاغة تارة بوصفها مجالاً للبحث في الأسلوبية الأدبية والمحسّنات الجمالية للخطاب، وتستعملُ تارة بوصفها مجالاً للبحث في تقنيات الحجاج. والواقعُ أنَّ البلاغة بعد انحطاطها المرير تم تجديدها تحتَ مُسمى البلاغة الجديدة مع شايم بيرلمان الذي حصرها في دراسة تقنيات الحجاج، المسمى نفسه أطلقته جماعة مو والشعريون مثل جيرار جنيت فصارت مجالاً لدراسة التقنيات الأسلوبية الجمالية للنصّ المغلق. في حينَ حاول محمّد مشبال استعادة المفهوم الأصيل للبلاغة، وهو المفهوم العربيّ القديم قبل الاختزال، أي أن تكون ذلك العلم الكلّي والمنطقة المشتركة التي يجتمع فيها التخييل والتداول، مع الميل إلى الجانب التخييلي فيكون التداول والحجاج جزءاً من التخييل وخادمين له، لأنَّ الرّواية جنسٌ تخييليّ، فيكونُ الحجاجُ خادماً للحبكة وكاشفا عن شخصيات العالم الرّوائي، مع إمكانية الميل ناحية المكوّن التداولي الحجاجي في رواية الأطروحة فيصبح السرد خادماً للحجاج.
ويمكنُ من خلال قراءتنا للكتاب أن نستخلص مفهوم بلاغة الرواية عند الباحث. تعني بلاغة الرواية لديه الجماليات التي تصنع الرواية والتي تنفردُ بها منها ما رصدته التخصصات الأخرى والتي لم ترصدها. وتعني كذلك تمثيل العوالم الممكنة وإقناع القارئ بها وجعله ينخرطُ فيها عقلاً ووجدانا، وكذلك التمرير الناعم للأفكار والقيم عن طريق الكنايات والاستعارات والتقابلات وغيرها من الوسائل البلاغية.
يجدُ القارئ لمجمل أعمال محمد مشبال بلاغة الرّواية تشغله منذُ وقتٍ طويل، وأنَّهُ دائم التفكير فيها، منذ الكتاب الأول وصولاً إلى كتابه الأخير، فيكونُ هذا الكتاب نتاجَ تفكير طويلٍ في الموضوع ونتيجة تجربة كبيرة وخبرة واسعة بالمقاربة البلاغية. هذه الإشارات نجدها في كتب مُتقدّمة مثل كتاب “مقولات بلاغية في تحليل الشّعر” (1993)، وكتاب “أسرار النقد الأدبي” (2002)، وكتاب “البلاغة والأدب: من صور اللغة إلى صور الأسلوب”، كما نجدُ محاور في الموضوع، مثل دراسته للحجاج في الرواية في كتابه “في بلاغة الحجاج”، فضلا عن ترجمته، بالاشتراك، لكتاب “الصّورة في الرّواية” لستيفان أولمان (1995)، ونجدُ هذا الهاجس يمتدّ إلى كتب بعيدة عن مجال الرّواية والنقد الحديث، مثل كتاب “البلاغة والأصول: دراسة في أسس التفكير البلاغي العربي – نموذج ابن جني” (2007).
لا نملكُ أن نقولَ إنَّ هذا العملَ قد قارب الرواية مقاربة بلاغية شمولية ومثالية، لكن نرى فيه الشرارة الحقيقية والأرضية المنهجية التي يمكنُ أن ينطلقُ منها الباحث البلاغي وأن يتعرض لها بالنقد والإضافة والتطوير. ونظنُّ أنَّ الباحث قد قصدَ من عمله هذا حثّ الباحثين على التفكير في منحىً جديد لمقاربة الرّواية العربية منحى يجمعُ بين التخييل والتداول، فالعالم الرّوائي ليس فقط تقنيات جمالية بل إنّهُ أيضا عالمٌ ممكن للعالم يمثّل العالم وتتشابكُ فيه الأصوات ويحاولُ إيصال الأفكار والأيديولوجيا.