سوف تعرض قاعة “تيت أرت” للفن المعاصر في لندن خلال ربيع العام الجاري، من 27 مارس/آذار وحتى 11 أغسطس/آب القادمين، أكبر مجموعة من لوحات فان غوخ (1853-1890) في المملكة المتحدة منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
يضم المعرض أكثر من 45 لوحة من لوحات فان غوخ، ومنها بعض أعماله الأكثر شهرة مثل “ليلة مرصعة بالنجوم فوق نهر الرون” ولوحته الأيقونية الأشهر “عباد الشمس”، كما يستعيد المعرض لوحات بعض الفنانين البريطانيين الذين ألهمهم فان غوخ، مثل فرانسيس بيكون وديفد بومبيرغ.
قضى فان غوخ في بريطانيا ثلاث سنوات، اكتشف خلالها كتابات شكسبير وتشارلز ديكنز ورسوم كونستابل وجون ميليه، وأثرت رؤيته الفنية على فناني بريطانيا، وساعدت على وضعهم على طريق الفن الحديث.
لماذا نحب فان غوخ؟
رغم مرور 129 عاما على وفاة فان غوخ، فإنه لا يزال من أهم أيقونات الفن الحديث، وساهمت سيرته الشخصية ورسائله إلى شقيقه ثيو في التعرف عليه بشكل إنساني، والاقتراب أكثر من أزماته الوجودية والنفسية وتساؤلاته عن الفن والحياة، بالإضافة إلى القصة الأشهر بشأن قطعه أذنه قبل أن يهديها إلى إحدى فتيات الليل، وقصة موته أو انتحاره التي لم تحسم حتى الآن.
كل ذلك ساهم في صنع شخصية أسطورية تحتمل الكثير من التأويل والتعاطف والجدل إنسانيا وفنيا، وتلامس مشاكل وأزمات الإنسان البسيط، من اعتلال في الصحة، ونقص في المال والموارد، وفشل متكرر في العمل والدراسة والحياة.
اعلان
رغم تأثير فان غوخ الكبير في الفن المعاصر حتى إنه يعد علامة فاصلة بين ما قبله وما بعده، فإن رسومه تظل قريبة من الإنسان البسيط في موضوعاتها، حيث اختار دائما أن يرسم الفقراء وعمال المناجم والفلاحين والوجوه البشرية المعتادة والمقاهي البسيطة، بعيدا عن الموضوعات الأرستقراطية والقصور والملاهي والحفلات الصاخبة، التي كانت معتادة منذ بداية عصر النهضة وحتى ظهور المدرسة الانطباعية التي ينتمي فان غوخ إليها.
بالإضافة إلى ما سبق، لم يكن فنّ فان غوخ تجريديا يصعب التواصل معه من قبل الإنسان البسيط، لكنه فنّ ملون وتشخيصي واضح العناصر، من دون رموز أو تأويلات، يصعب فهمها من طرف الإنسان العادي غير المتخصص في الفن التشكيلي، لذلك استمر حب الناس للوحات فان غوخ حتى بعد ظهور مدارس فنية متعددة بعده مثل التجريدية والتكعيبية والسريالية، وحتى بعد انهيار الفواصل بين المدارس الفنية في مرحلة زمنية لاحقة (ما بعد الحداثة) حيث لم يستطع الجمهور العادي التواصل معها بشكل كبير.
ولد فان غوخ في براينت جنوبي هولندا، وكان والده يعمل كاهنا في أبراشيات المنطقة، وكان أفراد أسرته يتمنون له حياة مستقرة تبعا لأخلاقيات الطبقة البرجوازية التي رغبوا في الانتماء إليها، لكن حياته لم تسر طبقا للخطة الموضوعة، وتنقّل بين عدد كبير من المهن، ومنها عمله واعظا إنجيليا في مناجم الفحم البلجيكية.
لكن اختلاطه الكامل وتماهيه مع الفقراء والمرضى والمصابين لم ينل رضا اللجنة الإنجيلية، واعتبروه غير كفء لممارسة الخطابة والوعظ الديني، وفُسخ تعاقده للوعظ، مما ضاعف شعوره بالإحباط والقلق والتشكيك في أفكار المسيحية.
احتراف فان غوخ للفن
من خلال عمل فان غوخ في مؤسسة “جوبيل” لتجارة الفن بلندن منذ عام 1873 وحتى 1876 وجد فرصة للاقتراب من عالم الفن ومشاهدة الأعمال الأصلية لكبار الفنانين، حتى قرر أن يصبح رساما بدعم مادي ومعنوي من أخيه ثيو، وبدأ في محاولات التعلم الذاتي عن المنظور والنسب والتشريح، وعمل على استنساخ اللوحات والمطبوعات التي كان يرسلها له أخوه.
بعد ذلك سجّل نفسه في دورة للدراسة الأكاديمية بعنوان “الرسم من الآثار”، لكنه واجه انتقادات تتعلق بأسلوبه البدائي وعدم معرفته بأساسيات المنظور والتشريح، فلم يكمل دراسته الأكاديمية، وكان حانقا على الدراسة الكلاسيكية، وحاول استكشاف وسائله وتقنياته الشخصية في التعبير.
اعلان
نوبات الجنون والإبداع
في عام 1887 سافر فان غوخ إلى آرل جنوبي فرنسا، وبعد أقل من عام في ديسمبر/كانون الأول 1888 أصيب بانهيار عام وألمت به نوبة جنون، وفي العام التالي دخل مصحة عقلية، لكنه استمر في الرسم خلال فترات الصحو حيث أنجز أهم لوحاته، ومنها لوحة “غرفة الفنان في آرل” التي رسمها في واحدة من نوبات الإبداع الحادة، التي شعر فيها برغبة في رسم أشياء متواضعة ومألوفة لم يلتفت لها أحد من قبل.
تمثل اللوحة غرفة نومه في “المنزل الأصفر” الذي سكنه في آرل، بجدرانها ذات اللون البنفسجي الشاحب، والأرضيات الحمراء الباهتة؛ الألوان هي كل شيء في اللوحة لأنها تعطي انطباعا عميقا بالراحة والنوم، خاصة مع خطوط الأثاث العريضة، والتفاصيل الحميمية الموزعة في اللوحة والجدران المعلق عليها منشفة ومرآة وصور وبعض الثياب.
الظلال في اللوحة مطموسة كأنها تشكلت عبر طبقات رقيقة غير مقيدة من الألوان، بشكل أقرب للصور اليابانية المطبوعة، لم يكن مهتما فيها بالتصوير الفوتوغرافي الدقيق للطبيعة، وضخّم عناصر معينة مثل السرير الذي رسمه بمنظور المناظر الطبيعية العميقة التي تحمل المتفرج إلى خط الأفق، مع كل تلك السلسلة من الخطوط المتسارعة في اللوحة، والأثاث المتناثر الذي يعزز الحركة، رغم الثبات الظاهر في اللوحة من النظرة الأولى، خاصة مع اكتظاظ عناصر اللوحة بالكامل، باتجاه النافذة من الخلف.
عدم وجود ظلال بالإضافة إلى المنظور المشوه الملتبس جعل الأثاث والجدران تبدو غير ثابتة وكأنها ستسقط، وأصبحت اللوحة أقرب لمقصورة في بحر عاصف، ذلك الإحساس الذي عززته ألوان اللوحة القوية البدائية، وتباينها الذي يظهر في لون السرير البرتقالي، ولون الجدران الأزرق الفاتح، وغطاء السرير القرمزي، بينما تتوسط اللوحة النافذة ذات الإطار الأخضر.
تأثير فان غوخ في الفن المعاصر
كان فان غوخ يصبو إلى فن بسيط، قريب من المتذوق البسيط، وكان يريد للوحاته أن تكون ذات تأثير قوي ومباشر، واستوعب دروس الانطباعية، ومزجها بتنقيطية جورج سورا، مع استخدام ضربات اللون الخالص الكثيف.
لم يستخدم فان غوخ الفرشاة لنقل اللون فقط، بل لنقل انفعالاته وهواجسه التي تسيطر عليه، وكتب لأخيه ثيو عن ذلك قائلا “إن الانفعالات تكون من القوة أحيانا بحيث أعمل من غير أن أكون واعيا، وضربات الفرشاة تأتي متسلسلة ومتماسكة مثل كلمات خطاب أو رسالة”.
اعلان
لم يكن معنيا بالتصوير الصحيح، واستخدم الألوان ليفصح عما يشعر به تجاه الأشياء التي رسمها، وعما رغب في أن يشعر به الآخرون، نقل المشاهد والشخوص كما يراها، برؤية ثورية، واختار مشاهد تساعده على استكشاف وعرض تقنيته الجديدة، التي يقوم فيها بالتلوين بالفرشاة، وبسط اللون بكثافة وقوة على قماش الرسم، مما جعله أول رسام يكتشف جمال الحقول المحصودة، والسياجات الشجرية، وأشكال شجر السرو الشبيهة بألسنة اللهب، ونفذ بتلك الطريقة أشهر وأهم لوحاته، مثل: “غرفة الفنان في آرل” (1889)، و”حقل القمح وشجرة السرو” (1889)، و”ليلة النجوم” (1889)، و”بورتريه للطبيب غاشيه” (1890).
المصدر : الجزيرة