هل خذل عالم الفنّ في الوطن العربي الجمهور؟
كانت إجابة صديقي الفنان مفاجئة؛ أريد مشاهدة أعمال فنية ومفاهيمية ومعاصرة، لست مهتمًا بمشاهدة تاريخ الفن، الأهم اليوم هو الفن المعاصر، هذا ما تركز عليه المؤسسات الفنية الجديدة في المنطقة العربية، دعنا نذهب لـ باليه دو طوكيو.
فتوجهنا مباشرة إليه، وقف صديقي مدهوشًا مما يراه من أعمال تركيبية وفيديوهات وغيرها من الروائع الفنية المعقدة الفهم، التي ترتكز على الفكرة كجوهر للعمل الفني، وبدأ صديقي بالتقاط الصور هنا وهناك لتلك الأعمال، مشيرًا لي في كل مرة أن هذا العمل أو ذاك يمثل مادة إلهام مهمة له ولأعماله الفنية، من دون أي خوض في نقاش يخص الأعمال الفنية وفلسفتها ولغتها والمفهوم الذي ارتكزعليه الفنان في تحقيقها. فطرحت عليه ذلك السؤال المحير؛ “ماذا تقصد بأعمال فنية مفاهيمية ولماذا أعمال بالتحديد؟ فكانت إجابته أنه يقصد الأعمال التي تواكب روح العصر وتجذب المشاهد بغموضها وتعقيدها. أما لماذا أعمال مفاهيمية، فقال: هذا هو الدارج الآن في المنطقة العربية وهذا ما تطلبه المؤسسات الفنية والمتحفية وجمهورها، وأنا الآن أركز على تلك النوعية من الإنتاج، فعندما أشاهد أعمالًا من هذا النوع أستطيع استلهام أفكاري منها؛ “لكي تكون فنانًا مشهورًا في المنطقة العربية يجب عليك تقديم أعمال عصية على الفهم وأنيقة في مادتها، وأدواتها”.
اقرأ أيضاً: المفهوم إجابة للمتخيّل والصورة مجسّدة له
استفزني هذا التعبير المجحف بحق الفن وجمهوره والنظرة السطحية لدى الفنان الذي كان همّه الأوحد نسخ ما يشاهده من أعمال فنية، بصرف النظر عن الفنان الذي أبدعها في الغرب، وتقديمها للجمهور باعتبارها تمثل الواقع وتستشرف المستقبل، خصوصاً في ما يتعلق بإنجاز أعمال فنية تواكب طلب المؤسسات الفنية والقيمين عليها من دون الالتفات لعين الحقيقة في الفعل الفني ألا وهو إحساس الفنان الشخصي المجرد.
تشعب النقاش بيننا عن الفن العربي والجمهور والمؤسسات الفنية، ودافعت عن الجمهور المتمثل بالمشاهد الذي يبحث من خلال العمل الفني عن تحقيق توازن فكري بينه وبين واقعه وتاريخه، فسألت صديقي الفنان: “ألا ترى معي أننا في المنطقة العربية نريد اللحاق بالعصر قفزًا من دون إعطاء الفرصة لأنفسنا لبناء الواقع بصورة تراكمية؟ وأنه من الاجحاف الاحتفاء بالمنجز الفني الحالي على حساب التاريخ الفني العربي؟. فكيف لنا أن نقدّم للجمهور أعمالاً فنية مفاهيمية، من دون إعطائه الفرصة ليتعرف على تاريخه الفني الممتد على مدار أزيد من قرن، وعلى مبدعيه الروّاد؟”.
من المؤكّد أن عالم الفن الغربي متصالح إلى حدّ ما مع جمهوره، وذلك ناتج من فعل تراكمي للمعرفة الفنية وبنائية تفاعلية بين المنجز الفني والفنان والجمهور امتدت على مدار قرون من الزمن.
وهذا عكس ما يشاهد اليوم على الساحة الفنية العربية، حيث الثالوث الفني المتمثل بـ “الفنان المنجز للعمل والمؤسسة الفنية التي تقدمه والجمهور الذي يتلقاه” قد تحول إلى ثنائي تمثل بـ”الفنان والمؤسسة”، واستثني من تلك المعادلة الجمهور، بحيث أصبح يتلقى ما يُقدم له من دون مراعاة حقيقة تغييب تاريخه الفني عنه من قبل عالم الفن العربي. فإلى الآن ما زال الجمهور يجهل كيف تأسّس الفن العربي وما هي السياقات التاريخية والاجتماعية والسياسية التي حفّزت هذا الإبداع والعلاقة التي تربطه بالفن الغربي، وتأسيسه لهوية فنية عربية مستفيدًا من التواصل والتأثر بالحركات الفنية العالمية. فجُل ما يقدم للجمهور اليوم، هو استنساخ لما يقدّم في الغرب، وهناك حيز صغير جدًا يكاد أن يكون معدومًا يقدم فيه تاريخ الحركة الفنية العربية للجمهور.
اقرأ أيضاً: صبرا وشاتيلا في الفنّ؛ الجسد متداعٍ على نفسه
ثياب الإمبراطور أم غياب المأسسة؟
وفي أحد المعارض التي تقدم للفن المعاصر في إحدى المؤسسات الفنية العربية المهمة، توجهت بسؤال في نهاية المعرض لعدد من الأصدقاء الذين زاروا المعرض، ويمثلون شريحة عادية من الجمهور العام، حول رأيهم في المعرض وما الذي فهموه منه، كانت إجابات الغالبية العظمى منهم: “جميل وغريب”، وعند إصراري على معرفة ما فهموه من المعرض كانت الإجابات مشتتة ومبهمة، فالكثير منهم شاهده من زاوية بصرية تجميلية، وبذل جهدًا كبيرًا في فهم النصوص المرافقة للمعرض، التي كتبت بلغة فلسفية معقدة. بعد إلحاح، اعترف بعضهم بأنهم لم يفهموا شيئًا مما يقدمه المعرض، ولكنهم شعروا بالخجل من الاعتراف بذلك. كان هذا الاعتراف صادقاً وجيداً في ذات الوقت، فلا ضير في ألّا نفهم عملا فنيا. ولكن لماذا لا يفهم الجمهور العمل الفني؟
الإجابة بالتأكيد تأتي من التراكمية البنائية التي يجب أن يحصل عليها متلقي الفن، كي يدرك مكمن العمل الفني. هذه التراكمية غير محققة إلى الآن في عالم الفن العربي، خاصة في ما يتعلق بتقديم المرحلة الحديثة للفن العربي، والتركيز فقط على الإبداع المعاصر. فالمؤسسات العربية المتحفية والفنية، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، افتتحت أبوابها منذ فترة بسيطة، والفعاليات الفنية السنوية مثل أرت دبي وبينالي الشارقة وغيرها، ذات عمر لا يتجاوز عقدا من الزمن تقريبًا، ولكن رغم هذا ما زالت تلك المؤسسات والفعاليات شبه عاجزة عن تقديم تاريخ الحركة الفنية العربية بشكل واضح للجمهور، فالقسم (الصغير) المتعلق بالفن العربي الحديث في أرت دبي تم استحداثه مؤخرًا على سبيل المثال.
كما أن الجامعات التي تعني بتدريس تاريخ الفن العربي بدأت خطواتها الأولى منذ سنة تقريبًا، وما زال عدد منها يتخبط في تلك الخطوات، لكن ثمة مبادرات رائدة وفاعلة كما تفعل سلوى مقدادي في تأسيس دراسات تاريخ الفن العربي في جامعة نيويورك أبوظبي، كما أن مشروع موسوعة الفن العربي الذي أسسته الدكتورة ندى شبوط في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة يعد مشروعًا مهمًا وواعدًا في تأسيس مرجعية تاريخية عن تاريخ الحركة الفنية العربية. كما أن جامعة السوربون في أبو ظبي بدأت تدريس تاريخ الفن في العالم العربي هذه السنة.
لذلك فإن سرد تاريخ الفن في العالم العربي يعدّ أهم مرتكزات الرقي بذوق الجمهور وفهمه للفن المعاصر العربي، كما أن وعي الفنان العربي بتاريخه الفني، سيساهم بشكل فاعل بالخروج من عباءة التقليد والنسخ التي يتسم بها الكثير من الفنانين العرب المعاصرين. فالفنان المبدع هو انعكاس لخبرة فنية طويلة تطورت عبرها لغته الفنية ووعيه بالواقع المحيط به لكي ينتج أعمالا فنية تأتي مقنعة للمشاهد، وخير مثال على ذلك الفلسطينية منى حاطوم التي أبدعت لغة فنية شخصية خاصة بها استطاعت أن تخاطب من خلالها عامة الجمهور، وراكمت خبرة فنية امتدت على مدار ما يقارب الأربعين عامًا بدأتها ببحث فني دؤوب توافق مع مجريات الأحداث الشخصية التي مرّت بها والواقع الاجتماعي الذي عايشته بين بيروت ولندن.
من المؤكد أن وجود تلك المؤسسات والمبادرات هو فاعل في ربط الجمهور بالفن، وهذا من أساسيات التوافقية الاجتماعية بين الجمهور وصورة واقعه وتاريخه ومستقبله. تبقى الكيفية التي يتوجب على عالم الفن العربي تحقيقها في ربط الجمهور بالفن. وهنا يمكن أن نعتبر أن عالم الفن العربي قد خذل الجمهور إلى حد ما عبر تغييب مسألة التاريخ الفني والتعريف بحيثيات التأسيس الأولى للفعل الفني العربي وقصة الإبداع العربي البصري.
ما زلنا نعوّل على تلك المؤسسات والقائمين عليها في تحقيق التوازن بين الفن العربي الحديث والفنون المعاصرة بشتى أشكالها لكي تتاح الفرصة للجمهور لكي يتصالح مع الفن ومع المؤسسات التي تقدمه، وكذلك لكي تتاح الفرصة للفنان أن يعكس حقيقة إحساسه الفني الخالص.
فمن حق المؤسسة المتحفية أن تبني جسور التفاهم بين المجتمع والمنتج الفني، ومن حق الفنان أن يُفهم ومن حق المشاهد أن يفهم.
(مؤرخ وناقد فني فلسطيني)