في التاسعة والسبعين من عمره، يواصل العاني سبر أغوار الخط العربي وإبراز مكامن الجمال فيه، حيث حول شقته الباريسية إلى مرسم ورواق ومزار لعشاق هذا الفن. واعترافا بجهوده، حصل العاني عام 2009 على جائزة اليونسكو، باعتباره أول من عرّف الغرب بفن الخط العربي.
الجزيرة نت زارت العاني في مرسمه وأجرت معه هذا الحوار:
•- من العراق إلى باريس، هل هي رحلة لنقل كنز من كنوز الشرق -وهو الخط العربي- إلى الغرب؟
هذا ما حاولت فعله في وقت كان فيه الغرب يجهل هذه الكلمة. جئت إلى فرنسا طالبا مبتعثا. كنت الأول على العراق في شعبة القانون، فسجلت دكتوراه في جامعة السوربون، لكن قبل أن آتي إلى باريس كنت قد حصلت على إجازة من عميد الخط العربي في الشرق، وهو هاشم الخطاط، وتعهدت له بأني لن أترك الخط بعد مجيئي إلى فرنسا.
تعهدي للأستاذ هاشم كان له أثر كبير على تمسكي بهذا الفن، بل في نقل تجربتي إلى الجامعة الفرنسية؛ لذلك وبالموازاة مع دراستي الأكاديمية، لم أفرط أبدا في هذه الوصية. تطور الأمر وبدأت أُدرّس هذا الفن في عدد من الجامعات الفرنسية من بينها السوربون، وحين عُقدت دروس في الفن في بلدية باريس على عهد جاك شيراك كان الخط العربي من ضمنها.
•-لكن كيف كان تفاعل الفرنسيين وغير العرب عموما مع ما كنت تقدمه لهم من فن بلغة لا يعرفونها؟
لعل ما أثار انتباهي هو أن الإقبال لم يكن فقط من العرب بل من كل الجنسيات. فكنت تجد في الفصل الياباني والصيني والفرنسي والعربي، وكان هناك تنوع كبير في الجنسيات والأعمار؛ هذا التقبل الجميل للفن الذي كنت أقدمه هو الذي دفعني للبقاء.
أنا جئت إلى فرنسا بغرض الحصول على شهادة الدكتوراه وقد فعلت، وكان بالإمكان أن أعود، لكن بقائي ارتبط بهذا الفن. وهذه الآلاف المؤلفة من اللوحات التي تراها في بيتي هي نتاج نصف قرن من العلاقة مع هذا الفن.
ورشة عمل الخطاط العاني الغنية بالأعمال الفنية القائمة على فنون الخط العربي (الجزيرة) |
•-كيف تفسر هذا الاهتمام بالخط العربي من طلاب لا يعرفون اللغة العربية؟
إنه حب الجمال الموجود في الخط العربي. هذا الخط يتميز بسر كبير، قالتها لي مرة إحدى طالباتي وهي سيدة إسبانية كبيرة في السن. اعترفت أنها تجد في الخط العربي أسرارا جمالية وروحية كبيرة، ولذلك أقول دائما إن الخط هو هندسة روحانية وإن ظهرت في آلة جسمانية، هي اللوحة.
•-حصلتم على جوائز كثيرة، كان أهمها ربما جائزة اليونسكو للثقافة العربية. ما أهمية هذا الجائزة بالنسبة لك؟
هذه الجائزة منحتها لي اليونسكو عام 2009 باعتباري أول من عرّف الغرب بالخط العربي، وهي وإن كانت الأهم لأنها حملت اعترافا بجهود امتدت قرابة نصف قرن، فإنها لم تكن الوحيدة، حصلت على جائزة الدوحة وجوائز أخرى كثيرة.
•-الآن في عصر التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل السريع، هل ترى أن الخط العربي ما زال قادرا على التطور؟
يمكنني أن أؤكد لكم أن الخط يكتسب مزيدا من الاهتمام أكثر فأكثر. ما زال التلاميذ يدرسونه، وما زال يثير اهتمام الطلاب والمتعلمين من العرب وغيرهم. التقدم التقني لن يغير من أهمية هذا الفن، والآلة ليست جديدة وهي لم تقض يوما على الكتابة.
•-دعنا نعد إلى سؤال البدايات. كيف كانت بداية علاقتك بالخط؟
البداية كانت من المدارس القرآنية. كنت في صغري أحفظ القرآن الكريم مثل بقية الأطفال، وكان المعلم حريصا على أن نتعلم تجويد القرآن نطقا وكتابة. في يوم الجمعة -وهو يوم عطلة- كنت أتوجه إلى مساجد بغداد الكبيرة مثل مسجد الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي كانت فيه كتابات عظيمة على جدرانه. كنت معجبا بها تماما، وكنت أقضي وقتا طويلا أتأملها وأقلدها.
ولأنني كنت من عائلة فقيرة، كنت ملزما بالاشتغال في صغري، وكان حظي أني اشتغلت عاملا في تنظيف القطارات. فكنت أستعمل السخام الذي ينزل منها مدادا. لاحظ أحد الأصدقاء شغفي بالخط فأخذني إلى هاشم الخطاط عميد الخطاطين العرب وقتها، ومن ثم بدأت تعلم فن الخط على أصوله، حيث توج بحصولي على إجازة منه، هي الوحيدة التي قدمها لطالب.
•-الآن بعد هذه الرحلة الطويلة، أما زالت الرغبة في العودة إلى بغداد قائمة؟
أعيش في باريس منذ خمسين عاما، وأعتبر أني خلقت بغداد في شقتي، حتى في بغداد نفسها لن تجد هذه اللوحات التي تلخص عصورها جميعا.