إن تتبع بدايات الأشياء تعتبر من أصعب المعارف في العادة , خاصة في حالة غياب النص خاصة بناء تسلسل معقول لتطور الخط العربي منذ عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما بعده, أمر يحتاج لصبر وأناة لمحاولة رسم الصورة في هذا الجانب
على أن تتبع الخط العربي بعد ذلك قد يصبح هينا يسيرا إن توفرت الشواهد الدالة عليه بحيث يعطي الصورة تفاصيلها التي قد تكون أكثر تعقيدا، بسبب ما رافق الخط العربي في العصر الأموي والعباسي من تطورات متسارعة زادت من المسألة، بسبب طول الفترات الزمنية المقصودة هنا.
فقد بدأ عصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنزول القرآن الكريم وبقي النص مرويا شفهيا إلى أن استقرت الدعوة الجديدة ورافقها تدوين النص بتكليف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما قام به “كتبة الوحي” من تدوين القرآن على الورق أو الخشب أو العظم وغيرها من المواد المتوفرة لهم، فضلا عن كتابة مراسلات الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الحكام والملوك والأمراء.
وعن أصل الخط العربي في البدايات الأولى للقرن الهجري الأول يرى بعضهم أنه من “الخط النبطي”، ويرى آخرون أنه متأثر “بالخط السرياني” وقيل إن العرب كتبوا بمكة بخط يسمى “الخط المكي” المشتق من النبطي، وفي المدينة كتبوا بخط يسمى “الخط المدني”، وفي الكوفة يسمى “الخط الكوفي”، ومع انتشار الإسلام ظهر ما يسمى “بالخط الدمشقي” و”البغدادي” و”المصري” و”القيرواني” و”الأندلسي”……إلخ.
متجر في سنغافورة يعرض لوحات بالخط العربي على الطريقة الصينية (رويترز) |
والمصادر التاريخية قد تسعف أحيانا في مسألة تتبع الخط وتطوره من فترة إلى أخرى، ولنا من ابن خلكان رأي يقول فيه “إن الناس يقرؤون في مصحف عثمان نيفا وأربعين سنة إلى أيام عبد الملك بن مروان، ثم كثر التصحيف وانتشر في العراق ففزع الحجاج إلى كتَابه وسألهم أن يضعوا لهذه الحروف المشتبهة علامات، فعبر الناس بذلك زمانا لا يكتبون إلا منقوطا فكان مع النقط يقع التصحيف فوضعوا الإعجام.
ومهما يكن من أمر، فقد بقي الخط العربي الذي شاع في صدر الإسلام قائما في أوائل العصر الأموي، أي منذ خلافة معاوية إلى بدايات خلافة الأسرة الأموية الثانية “المروانية” بمعنى أن الانقلاب الكبير في الخط والكتابة وربما اللغة حدث إثر وصول قوات الفتح الإسلامي إلى خارج إطار الجزيرة العربية وبلاد الشام، فحملت الخيول العربية الخط والكتابة إلى شتى الأصقاع التي وصلوها ومع تكون الدولة الأموية وزيادة متطلبات الكتابة والتدوين، الأمر الذي سارع في نشأة وتطور وتشكل الحرف.
الاستعراض السابق يقودنا إلى إلقاء الضوء على أهم خصائص الخط العربي في القرن الهجري الأول والثاني أي الأموي والعباسي، فنجد على العموم أن الخطوط اتخذت مسارين هامين هما الخط الجاف والخط الصلب أو اللين أو ما يسمى (الكوفي البسيط)، وإن كانت المادة التي يكتب عليها لينة مال الخطاط إلى التدوير، وهذا يمكن مشاهدته على شاهد قبر عثر عليه في أسوان، فنجد الكاتب ضيق في السطور الأولى وعندما انتهى النص بقي الفراغ واسعا فأسرع الكاتب فمال إلى الليونة، رغم قساوة المادة المدون عليها.
وسارت الخطوط على تلك الشاكلة تميل نحو الليونة لسهولتها إلى أن مر الخط العربي في أكثر مراحله تطورا في العصر العباسي، حيث وضع الخطاط “علي بن مقلة” الأسس الهندسية للحروف العربية منذ النصف الثاني من القرن الهجري الثالث حين وضع خط الثلث والنسخ والبديع. وبدراسة الروايات التاريخية يمكن الاستدلال على أن ابن مقلة قد طور الخط الذي يطلق عليه أحيانا “نصف الكوفي” حيث وضع قواعد هندسة الحرف، مضيفا عليها الليونة بمقادير موزونه.
مرونة الخط العربي شجع مصممة الأزياء اللبنانية شيرين خضرا بإدخاله في تصاميمها للأزياء (رويترز) |
وقد ظهر الفرق بين الخط الكوفي واللين واضحا عند ابن البواب أواخر القرن الهجري الرابع حيث وضع الحروف الموصولة في ربط محكم قاعدته الأساسية تسير بقلم إلى الأمام لإظهار الحرف في نهاية الكلمة بصورته الكاملة لانتهائها، علما بأن بعض الحروف لاتتصل بما يليها مثل الألف والذال والدال والراء والزاي والواو.
الجدير بالذكر أن الخط العربي في العصر العباسي كانت له أصوله غير الاعتباطية التي تخضع لميول وأهواء الخطاطين، ولكنه خط موزون مدروس متوازن, فظهرت بذلك قيم جمالية وفنية وزخرفية بالخط العربي وفق نسب مضبوطة، وهذا ما يلاحظ على العديد من مخطوطات العصر العباسي.
وقد مر الخط العربي بمزيد من التطور في مناطق أخرى في العالم الإسلامي ففي الأندلس في شبه الجزيرة الأيبيرية، حينما استقر فيها لثمانية قرون. و تذكر الباحثة الألمانية زيغريد هونكه “أن الخط العربي سار على بساط من نبات المسك والعنبر يتثنَّى”.
وكان في الأندلس من بين تلك الاختراعات آلة الطباعة الحجرية التي كانت مستعملة في القرن التاسع عشر، فقد كان لعبد الرحمن كاتب اعتاد أن ينشئ الرسائل الرسمية في منزله، ثم ينفذها إلى ديوان خاص يصير فيه إظهارها على الورق، وهو نوع من الطباعة فتصدر في نسخ متعددة، توزع على عمال الدولة.
وبذلك أصبح الكتاب العربي في كل بيت، وأصبح المخطوط العربي في كل مكتبة، ولا يمكن أن يخلو شارع من شوارع غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من مدن الأندلسي من مكتبة تحوي نفائس المخطوطات المدونة بنفائس الخطوط العربية.
كذلك اعتنى الفاطميون في مصر بالخط العربي عناية كبيرة، قد كتبوه على المآذن والقباب والأروقة وقصور الخلفاء.
ثم ما لبث الخط العربي أن أصبح أهم ما ورثه العثمانيون، وأصله عندهم من مدرسة تبريز التي ازدهرت ليس في الخط فحسب، وإنما في صناعة الكتاب أيضا، ونال الخطاطون احترام الخلفاء، فنالوا منهم الحظوة وجعلوهم من المقربين منهم، وأسندوا إليهم العمل في الدواوين التابعة للدولة. لكنهم رغم هذا لم يبلغوا ما أوصلهم إليه العرب من مكانة حين عيّنوهم في الوزارة، كما حصل مع الخطاط ابن مقلة في العصر العباسي مثلا.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم وبقوة هل ساهمت الحداثة في نشر وتطور الخط العربي؟ وهل كان لآخر عهوده العثمانية دور في عدم مواكبة التقدم التكنولوجي؟ أو هل كان هناك عوائق في هذا الخصوص؟
وعند محاولة الإجابة على هذه الأسئلة يتبين أن الخطاطين العثمانيين قد ورثوا المنهج القديم في رسم الخطوط العربية مع تطور طفيف أضافوه على ما سبق حفاظا على قدسية الخط الذي كان في أصله خطا قرآنيا بامتياز، مما أدى إلى عدم دخوله وتطوره في منظومة التقنيات الحداثية.
لوحات بالخط العربي بطابع آسيوي في أسواق سنغافورة (رويترز) |
ومن جانب آخر فإن على المؤسسات ذات الصلة اليوم التصدي لمثل هذا الأمر، مما يسارع في وضع أشكال الحرف العربي بصورة محوسبة قد تساعد كثيرا في انبعاث ما قد نسميه بالخط العربي المحوسب, وهذا ما يمكن أن يدفع بظهور أشكال فنية جديدة أكثر مقاربة مع العصر الحديث، مما قد يؤسس لثورة جديدة في مجال تطور الخطوط العربية، خلافا لما هو منتشر في برامج الحواسيب اليوم.
إن مثل هذا المنحى قد يدفع من جانب آخر فئة من أصحاب المدرسة التقليدية للوقوف أمام منهج الحداثة، وربما يقولون إن تدوير الحرف بما أوتيت اليد من مرونة تسمح بالتصرف أكثر مما يفوق إمكانات الحوسبة الحديثة، وهم على حق في مثل هذا الأمر, ولكن في السياق ذاته لا بد للحداثة أن تأخذ نصيبها.