في وقت قياسي، وبظروف صعبة، أنجز المخرج الكبير نجدة أنزور ملحمة سينمائية جديدة عرّى فيها تنظيم «داعش» الإرهابي ومن ورائه الدول الداعمة للإرهاب، وما أكثرها، وجسد بطولات الجيش العربي السوري، وأضاء على التضحية الكبيرة التي قدمها الشهيد خالد الأسعد.
مساء الإثنين، قدّم أنزور منتجه السينمائي الجديد أمام كوكبة كبيرة من الصحفيين في بادرة أعادت الذاكرة إلى سينما أيام زمان، وتحديداً عندما كان القائمون على الفن السابع حريصين على تخصيص العرض الأول للإعلام والمسمى بعرض «بروفة جنرال».
وصور الفيلم خلال 25 يوماً فقط بين مدينتي ريف دمشق وتدمر، ويمتد لساعتين مشوقتين من الأحداث مع مزيج من التوثيق والدراما.
وتبدأ العروض الجماهيرية للفيلم في الخامس عشر من الشهر الجاري وتستمر لشهر.
البطولات الجسام
الفيلم يتحدث عن أبرز أوابد المدينة الأثرية التي دمرها تنظيم «داعش» الإرهابي، ويوثق سيرة حياة عالم الآثار الشهيد خالد أسعد الذي أعدمه هذا التنظيم الإرهابي وهو يدافع عن كنوز مدينة تدمر رافضاً المغادرة وتركها للسلب والنهب، فدفع روحه ثمناً لذلك.
كما يتحدث عن البطولات الجسام التي ساهمت في تحرير تدمر من الإرهاب، متناولاً الجرائم التي ارتكبها التنظيم الإرهابي بحق الأوابد الأثرية، وكاشفاً المخطط الهمجي الذي كان وراء تدمير أبرز معالم المدينة الأثرية ومن يقف وراءها.
كما يستحضر الفيلم شخصية وعظمة الملكة زنوبيا مع الطفل خالد الأسعد من خلال التلاقي ما بين الماضي والحاضر.
نخيل تدمر
لشجرة النخيل في تدمر قيمة تاريخية واقتصادية، لكنها تضررت بنسبة لا يستهان بها بسبب همجية الإرهابيين، فنزفت حزناً وكمداً مثلها مثل الأوابد الأثرية التي نهبت ودمرت.
ويعتبر التمر التدمري من أجود أنواع التمور بالعالم رغم مناخ المنطقة الصحراوي القاسي والأمطار الشحيحة حيث أطلق على تدمر مدينة النخيل كما يؤكد اسمها المحرف (تاد/مور) أي بلد النخيل كما سميت بالميرا وتعني النخيل.
وقد نشأت واحة النخيل في تدمر منذ آلاف السنين وكانت استراحة ومحطة للقوافل التجارية بين العراق والشام.
واهتم التدمريون كثيراً بشجرة النخيل واعتنوا بها عناية فائقة وأصبح لدى معظم المزارعين خبرة في رعايتها إلا أن اعتداءات الإرهابيين وسرقة مضخات وأنابيب مياه الآبار أديا إلى تراجع عدد الأشجار والثمار.
اسم الفيلم يختصر حكاية تلك الأشجار التي نزفت لكنها بقيت صامدة وحافظت على وجودها وإنتاجها رغم كل ما عانته من حرق وتخريب.
حضارة العالم
خلال مؤتمر صحفي عقدته أسرة الفيلم بعيد عرضه، أكد مدير المؤسسة العامة للسينما مراد شاهين أنه من واجب هذه المؤسسة تسليط الضوء على التضحيات التي قدمها الجيش العربي السوري في سبيل تحرير الأراضي السورية من القوى الإرهابية الظلامية.
وأشار إلى أن الفيلم يسرد أحداث أحد أهم مفاصل الحرب الإرهابية على سورية، خاصة أن تدمر تختزل جزءاً كبيراً من حضارة العالم وليس سورية فقط.
وكشف أن الإنتاج جاء بالشراكة مع مؤسسة نجدة أنزور لتشجيع القطاع الخاص على الدخول في عملية الإنتاج السينمائي، وفي الوقت ذاته لتجاوز الكثير من العراقيل التي تواجهها المؤسسة في تنفيذ مفاصل العملية الإنتاجية والفنية.
وأكد أن المؤسسة كانت وستواصل إنتاج هذا النوع من الأفلام لتوثيق هذه الأحداث التي جرت في هذه المرحلة المهمة من تاريخ سورية وتقديراً لتضحيات الشهداء.
ذاكرة سينمائية
بدوره قال المخرج نجدة أنزور إن الفيلم يصب في صناعة ذاكرة سينمائية للحرب على سورية، مشدداً على ضرورة التركيز على ما تتعرض له سورية لتكون بمثابة وثيقة مستقبلية للأجيال القادمة.
وأكد أنه قدم مفهوم الشهادة في سبيل الوطن ومركزاً في الوقت نفسه على استمرار الحياة بفضل تضحيات الجيش العربي السوري، إضافة إلى إبراز شخصية العالم الشهيد خالد الأسعد الذي رفض أن يخرج من تدمر وفضل الموت مرفوع الرأس.
أنزور قال بأن إرادتنا كصناع للفيلم اتجهت نحو تخليد معنى الشهادة وهي الثيمة الأساسية للفيلم، مؤكداً أن استمرار الحياة الطبيعية في وطننا الحبيب ما هو إلا نتيجة طبيعية لجهود هؤلاء الشهداء، وركزنا في الفيلم على شخصية العالم الشهيد خالد الأسعد الذي قام بفعل وطني عظيم برفضه التعاون مع داعش.
كما أكد المخرج أن أهم رسالة وردت في الفيلم هي ما جاء في التلمود اليهودي عن الشر الذي يضمره أصحابه لتدمير سورية والمنطقة العربية بكاملها وتجلى ذلك من خلال وجود «داعش» وأمثالها.
وركز على ضرورة فضح الدول الداعمة للإرهاب وما قامت به بحق البشر والحجر من تخريب وسلب ونهب، مع الإضاءة على بطولات الجيش العربي السوري في صد العدوان العالمي.
وكشف أن رسالة الفيلم بأن هناك من يستشهد كرمى البلد ليكمل الباقي الطريق.
رسائل عميقة
أما الكاتبة ديانا كمال الدين فأوضحت أنها ابتعدت عن التوثيق إلا بالأحداث المتعلقة بشخصية الشهيد الأسعد، مبينة أن الفيلم يتضمن رسائل إنسانية ووطنية عميقة للداخل والخارج.
وبينت أن قصص الجنود الثلاثة الذين استشهدوا في نهاية الفيلم اختزلوا قصصاً لمئات الأبطال والشهداء في الجيش العربي السوري.
العوالم الداخلية
وبين المؤلف الموسيقي رعد خلف أن السينما صناعة والموسيقا هي أحد مكوناتها الأساسية لإيصال الإحساس للمشاهد، وحاولنا من خلالها رصد العوالم الداخلية لإيصال ما يواردهم من أفكار وقلق وحنين.
عمر الفرا حاضراً
في حديثه لـ«الوطن»، علق الزميل نزار الفرا على أشعار والده، الشاعر الكبير الراحل عمر الفرا التي كانت حاضرة خلال أحداث الفيلم وأضفت جمالية ورمزية في المكان والزمان المناسبين.
وشدد الفرا على أن اختيار شعر والده من القائمين على الفيلم كان دقيقاً ومناسباً لعدة اعتبارات، أولها الاعتبار المكاني والجغرافي بحكم أن والده ابن هذه البيئة التدمرية، فتم توظيف شعره واستثماره بالحدث عن مواضيع تتعلق بتدمر، خصوصاً أننا كما لاحظنا أن الأجيال تتناقل وتحفظ شعره من كل مناطق سورية، حيث أدى الجنود الثلاثة الأبطال مقاطع من هذه القصائد وكانوا يحفظونها غيباً وهم أبناء محافظات وبيئات مختلفة.
وتحدث الفرا عن الاعتبار الثاني المتعلق باختيار نوعية القصائد وطبيعتها الذي اتسم بالدقة أيضاً، حيث كما هو معروف يقسم شعر عمر الفرا إلى قسمين، الشعر المحكي العامي والشعر الفصيح، فكان اختيار النوع الأول لإعطاء دلالة مكانية، واستخدمت مقاطع من أربع قصائد يجمعها عامل مشترك بأن فيها شيئاً من العنفوان والعزة والتحدي مثل قصيدة «حمدة» التي تمثل تحدياً للعادات والتقاليد والموروثات السيئة.
وقال إن أداء الجندي لقصيدة «الثأر» جاء كتحدٍ للمجتمع أيضاً، ووظفت في مكانها الصحيح خاصة عندما يقول: «اغلي السمن يما، اغلي السمن تيشتعل، واحمي حديدة عالجمر، صبي السمن جوا الجرح، ما تنحمل، نار تعلق جوا الجرح، وبي الصوت، وانعي للبشر كلهم، وليدك يا يما، فارس وميت غدر»، وبالفعل هذا الجندي كان فارساً وقتل غدراً على يد والد صديقه.
وأضاف: في المقطع الثالث الذي ردده الجندي التدمري، استخدمت قصيدة «الذيب» وفيها الكثير من العنفوان، وهي ليست من القصائد المشهورة ومن وظفها بحث مطولاً لتناسبها مع حال الجندي الجريح في قلب الصحراء فيقول: «اقنص معي يا ذيب، جوعك مثل جوعي، يا نفترس هالليل يا يطحنو ضلوعي، حلو الصبر يا ذيب، حين الدهر يرخم، لما العتم يلتم، تبكي!، ليس البكا يا ذيب، خلي الدمع غالي».
وختم الحديث عن قصيدة «الوطن» الشهيرة التي هي بالأساس وصية من أب لابنه ليتمسك بوطنه ويحبه، فأوضح: استخدم المخرج هذه القصيدة بكل معانيها وتفاصيلها في المشهد الختامي على المسرح الروماني استخداماً دقيقاً، مع تسليط الضوء على من بقي أحياء من أبطال الفيلم بوجود الطفل الذي يرمز إلى استمرار الحياة والتحدي عند الأجيال القادمة، حيث هناك من ضحى ليعيش هذا الطفل وسواه.
مقومات النجاح
في تصريحها لـ«الوطن»، قالت الزميلة هيام الحموي: قرابة ساعتين لم أشعر بلحظة ملل ولم أفكر بالنظر إلى ساعتي، هي متعة الفرجة المتكاملة ما بين أداء الممثلين المنتقين بعناية، و«هضامة» الحوار والسرد المطعّم بالأشعار الجميلة لشعراء سورية المبدعين، عمر الفرا ونزار قباني.. ما أعطانا فكرة عن فداحة خسارة الوطن لشبابه الأنقياء.
وأضافت: هنالك إتقان لمختلف مقومات نجاح الفيلم السينمائي بشكل عام، ما بين الموسيقا والتصوير والديكور والملابس وحتى اللهجة المحكية المتنوعة تنوع المكوّن البشري في أرض سورية، وكذلك تنوعها لدى الدواعش المرتزقة القادمين من مختلف الانتماءات الدولية، كما أن عنصر التشويق كان حاضراً بقوة من دون إطالة.
وأكدت أنه لم يكن هنالك فجاجة في تصوير المشاهد العنيفة التي كان لا بد من حضورها في سياق السرد، مشيرة من جهة أخرى إلى أن مرور شخصية زنوبيا «السوريالي» كسر فيض الواقعية الذي كان يمكن أن يكون شديد الإيلام، وشخصية خالد الأسعد آسرة.
وختمت: باختصار رسائل الفيلم الإيجابية وصلت بسهولة وبساطة للمتفرج السوري، لكن ربما لن تصل بالسهولة ذاتها لمشاهد لم يعش هذه المرحلة، فبعض التفاصيل ليست بديهية للغريب عن يومياتنا، مثلاً دلالة حلاقة الشنب لدى شخصية الشيخ «الخائن»، بمعنى أنه إذا كان من أهداف الفيلم أيضاً التأثير على متفرج غير سوري، فالأمر لن يكون سهلاً… لكن بالمجمل، بالنسبة لي كسورية بكل خلايا كياني، وكعاشقة للسينما، أعترف بأني استمتعت جداً بهذا الفيلم وشكراً لصانعيه.
بطاقة الفيلم
إخراج: نجدة إسماعيل أنزور
كتابة: ديانا كمال الدين
تمثيل: لجين إسماعيل- جوان خضر- مصطفى سعد الدين- جهاد الزغبي- محمد فلفلة- عدنان عبد الجليل- مجد نعيم- عامر علي- قصي قدسية- محمود خليلي- ليلى بقدونس- سيوار داود- حمادة سليم- نبيل فروج- إيمان عودة- مجدي مقبل- ياسر سلمون- فادي عبد النور- علي الماغوط- أوس وفائي- نور خلف- محمد الويسي- والطفل علي السملوتي.