شعراء وأدباء مشهورون بلغ أدبهم الآفاق، من خلال الروايات المدهشة والدواوين الشعرية اللافتة، التي وضعت بصمة في أذهان القراء وجمهور الأدب حول العالم، لكن رحيلهم أحدث مرارة وحزنًا واسعًا، وقد ترك بعضهم خلفه رسالة أخيرة، قبل أن يغلق ستار حياته وتنطفئ شمعة أدبه التي كانت تتجدد باستمرار. هذه الرسائل الأخيرة أذهلت القراء، فمعظمها قد حملت المأساة، ووصفت مرارة العيش والحياة، تلك التي تظهر جليًا على الحبر الذي كُتِبَت به، رسائل اختزلت الحزن والظروف القاسية التي شكلت إبداعًا في تكوين حروفهم وأدبهم، وأحدثت تلك الرسائل ضجيجًا هائلًا، بل شكّلت فنًا خاصًا يندرج تحت أدب الرسائل.
“سوف أحاول استخراج الجمال من الشر”، هذا ما قاله شارل بودلير، فور ظهوره على الساحة الشعرية، قبل أن يصبح لاحقًا الشاعر والناقد الفرنسي المعروف والأكثر شهرة، بل أصبح من أبرز وأهم شعراء القرن التاسع عشر. في عام 1845 كتب بودلير رسالته الأخيرة، وقال فيها: “حين تسلم الآنسة جان لومير إليك رسالتي هذه، سأكون قد فارقت الحياة، سأموت في قلق مضنٍ، أنتحر لأني ما عدت قادرًا على العيش، معاناة في النوم ومعاناة أخرى لأستيقظ ما عدتُ أتحملهما”، كتب بودلير هذه الرسالة قبل أن يطعن نفسه، لكنه لم يغادر الحياة بسبب هذه الطعنة الضعيفة، حيث عاش بعدها 22 عامًا، وفي مزاد أقيم عام 2018، داخل فرنسا، تم بيع رسالة انتحار بودلير بمبلغ 234 ألف يورو، في المزاد الذي نظمته دار (أوزنا)، فيما توفي بودلير عام 1867، بعدما أصيب بمرض الزهري.
أما الكاتبة الشهيرة فرجينيا وولف التي وُلِدَت في منزلٍ إنجليزيّ ثريّ عام 1882، وتربّت من قبل والدين متحررين فكريًا، وتعدّ أحد مؤسسي الأدب الحديث، فقد تركت حصيلة مؤلفات يتردد صداها حتى الآن بقوة، وقبل انتحارها في 28 آذار/ مارس عام 1941، ارتدت فرجينيا معطفها، وملأته بالحجارة وأغرقت نفسها في نهر أوس، إذ كانت تعاني الاكتئاب الشديد، وجدت السلطات جثتها بعد ثلاثة أسابيعٍ من انتحارها، وقد تركت وولف رسالة أخيرة تخاطب زوجها، تقول فيها: “عزيزي، إنني متيقنة بأنني سأجنّ مرة أخرى، لا أظن بأننا قادرون على الخوض في تلك الأوقات الرهيبة مرة أخرى، ولا أظن بأنني سأتعافى هذه المرة، لقد بدأت أسمع أصواتًا، وفقدت قدرتي على التركيز، لذا سأفعل ما أراه مناسبًا، لقد أشعرتني بسعادة عظيمة، وقد كنت كل ما يمكن لأي شخص أن يكون، لا أظن أن أي أحد قد شعر بسعادة غامرة كما شعرنا نحن الاثنان، إلى أن حلّ بي هذا المرض الفظيع، لستُ قادرة على المقاومة بعد الآن”.
وتكمل وولف في رسالتها إلى زوجها الكاتب والناقد الاقتصادي ليونارد وولف، الذي كان إلى جانبها دومًا، وقرّرا أنهما سينتحران معًا، إذا ما استطاعت ألمانيا احتلال إنجلترا خلال فترة الحرب العالمية الثانية عام 1940، وقد تهدّم منزلهما خلال تفجير الألمان للمدينة، فتقول: “أعلم أنني أفسد حياتك، وبمعزل عني ستستطيع العمل، أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد، لا أستطيع أن أقرأ، جل ما أريد قوله هو أنني أدين لك بسعادتي، لقد كنت جيدًا معي وصبورًا علي، والجميع يعلم ذلك، لو كان بإمكان أحد ما أن ينقذني؛ فسيكون أنت، فقدت كل شيء عدا يقيني بأنك شخص جيد، لا أستطيع المضي قدمًا في تدمير حياتك بعد الآن، لا أظن أن اثنين شعرا بالسعادة كما شعرنا بها”.
أما الشاعر الروسي سيرغي يسينين، الذي لم يعش إلا 30 عامًا، واستطاع ترك بصمة واضحة في الأدب الروسي، وترجمت قصائده إلى 32 لغة، وصدرت في عدة بلدان مثل الولايات المتحدة واليابان، ففي إبان نشاطه وشهرته، ترك كل ذلك خلفه في 27 كانون الأول/ ديسمبر 1927، في فندق (إنغليتير) في مدينة بطرسبورغ، وعُثر عليه معلقًا بحزام حقيبة على أنبوب للتدفئة المركزية بالفندق، كان الجميع متأكدًا من انتحاره، خاصة أنه كان مدمنًا على الكحول، لكن بعد سنوات بدأ البعض يشكك فى هذا الانتحار، ويذهب إلى أن السلطة قد قتلته، وقد وضع يسينين قصيدة أخيرة قبل أن يرحل، يختتم بها مسيرته الإبداعية، قال فيها: “وداعًا، يا صديقي، وداعًا، حبيبي، أنت في صدري، إن الفراق المرتقب يعِد بلقاء فيما بعد. وداعًا، صديقي، بلا كلام ولا سلام، لا تحزن ولا تقطّب حاجبيك، ليس جديدًا أن نموت في هذه الدنيا، وأن نعيش –بالطبع- ليس جديدًا أكثر”.
الأديب الألماني هاينرش فون كلايست، عبّر في رسالته الأخيرة عن سبب كراهيته للحياة وحبه للموت، ومنها قوله في رسالة إلى أخته أولريكه، 1803: “عزيزتي، إن ما سأكتبه إليك قد يكلفك حياتك، ولكني لا بد.. لا بد.. لا بد أن أكتبه إليك. لقد تناولت في باريس عملي على قدر ما تم فيه، وراجعته ورفضته، ثم مزقته، والآن انتهى كل شيء”. ثم يكتب في رسالته الأخيرة إلى أخته: “إلى أولريكة فون كلايست.. إلى صاحبة العصمة، لا يمكنني أن أموت قبل أن أتصالح راضيًا تمامًا، على نحو ما أنا الآن مع الدنيا كلها…. في الواقع لم تعد في الدنيا وسيلة لمساعدتي. والآن أقول لك وداعًا. ولعل السماء تمنحك ميتة فيها نصف ما في ميتتي من الفرحة والبشاشة التي لا سبيل إلى التعبير عنها، هذه هي أخلص وأحب أمنية أستطيع أن أتمناها لك”.
إن الرسائل الأخيرة للأدباء والشعراء من أكثر الأمور التي تثير اهتمام القراء، ليس لقيمتها الأدبية والفنية فحسب، بل لأنها تشكل وثائق مهمة تؤرخ للأحداث التي عايشوها في فترة ما من حياتهم، خاصةً اللحظات الأخيرة قبل رحيلهم، وبفضول إنساني من القرّاء يسعون دائمًا للتعرف إلى الجوانب المجهولة من شخصيات أدبائهم المفضلين، والتي لم تكشفها كتاباتهم، فكشفتها رسائلهم، الأمر أشبه بالوصف الذي ذكره الباحث الفرنسي ألكسندر جيفان، ذات يوم، حيث تحدّث عن الاطلاع على رسائل الأدباء بأنه “اكتشاف الكاتب والتعرف إليه في محيطه العائلي، وكأننا ندخل غرفته دون أن نختلط به، ودون أن نسيء إلى وضعه”.