لماذا الإطاحة بمفردات النص/ العرض التقليدي؟ هل نعدّ هذا هجومًا للنيل من قيم النص الأساسية التي تعطي العرضَ شرعيته؟ أظنّ أنَّ عمليات التوالد والتكاثر السريع للعروض التجريبية التي تحذف النص، تصادره، تلغيه… هي عروضٌ طارئة، فالتشكيل الأدائي -كما نراه في هذه العروض- هو تكويناتٌ بصرية لا مسرحَ فيها، صورةٌ لا استمرار ماديًا لها، فتدمير النص المسرحي هو ما يذهب إليه أكثر المخرجين المسرحيين، لأنَّ العروض صارت تخلو من الحكاية التي هي عصب كلِّ نصّ، وعصب كلَّ عرض؛ كيف نعثر على إنسانيتنا التي قمعتها الأنظمة المطلقة، إذا المسرح تخلَّى عن الصراع، تخلَّى عن الحكاية؟ هل نعثر عليها في الفلسفة، في الرياضيات، في الكيمياء والفيزياء؟!
ولو تتبَّعنا تاريخَ المسرح، من التراجيديات اليونانية إلى شكسبير حتى بريخت؛ فإنَّنا سنجد أنَّ النص المسرحي لا يخلو من الحكاية، ويذهب إلى النقد، والنقد الفكري، لأنَّه يلعب دور خلق الوعي الجمالي. لقد شاهدنا عروضًا تجريبية عن نصوص ليوربيدس وشكسبير وبريخت.. تتفتَّت، تتمزَّق، لا يبقى منها شيء سوى حوارات ركيكة، وكأنَّ المخرج يقوم بمحوِهم، بإبادة مثل هؤلاء المؤلفين المسرحيين. وكأنَّ هذا المخرج لا يدرك أن النص المسرحي يبرز صورة الإنسان العقلانية، فالفرد/ الشخص/ الإنسان هو -أيضًا- عصب النص؛ العرض. والمخرج هو من يلتقط ويبرز الثراء الروحي للشخصيات، مثلما يفرجينا مساحة الدمار التي تحلّ بها، تحلّ بنا. يفرجينا القوَّة الدرامية للجمال الذي حرمنا من التمتّع به مقابل انقلاب البشاعة العدمي. ما الذي فعله النص، أو ما هي الجريمة التي ارتكبها، ليجهز المخرج على الحدود المكوِّنة له، من حكايةٍ وصراعٍ وسياقٍ مادي، مع أنَّه ليس هناك قارئ محايد ولا متفرِّج محايد. إذ لا يمكن أن ننفصل عن العمل، سواء أكان نصًا أدبيًا أو عرضًا مسرحيًا، فنحن طرف مسؤول، تقع علينا مسؤولية المشاركة، بالتالي من حقِّنا أن نحاسب المخرج كما المؤلِّف، فلا شيء يصنع، سواء أكان رغيف خبز، أو وردة، أو منزلًا، أو مدرسةً، أو معبدًا، أو عرضًا مسرحيًا؛ لولا حاجتنا- حاجة الناس إليه. لذا من المستحيل أن يقوِّضَ المخرج أو أحدٌ ما علاقتنا بهذه الحاجات، فنحن شركاء.
في العديد من العروض المسرحية العربية، في سورية والجزائر والكويت وعمان ولبنان ومصر وغيرها.. يتمّ توظيف الصور واللقطات السينمائية والخدع البصرية، وحتى النفايات المنزلية على أنَّها النص، أو عوض من النص؛ عروضٌ تقاوم الاندماج مع المتفرِّج، فلا تولِّد أيَّ حوار في صورتها/ مشهدها. ممثِّلون يتلاعبون بأجزاء جسدهم وأطرافه، فيغلقون ما يفتحه المتفرِّج من معنى، إذ لا نص، بل كأنَّنا مع ألعاب وتشكيلات تجميعية تدفعنا إلى أن نسأل: ما معنى هذا، وإلى أين تذهب هوية الشكل المسرحي؟ وما الذي يمكن أن تولِّده مثل هذه الأعمال من قراءات، وإلى أين ذهبت الصراعات، وما هي التفاعلات التي يدفعنا إليها المخرج؟؟ هل هو السعي لاختزال النص/ العرض المسرحي التقليدي ونسفه، أم هو بحثٌ/ تجريب؛ بحثٌ عن جوهر؛ بحثٌ عن شكل جديد؟ وفي كلتا الحالين، أليس ما يقوم به هذا المخرج هو إلغاءٌ لـ (الغاية) وللدور الاجتماعي والأخلاقي الذي يقوم به المسرح، بل إنَّه إفسادٌ لهذا الفن في محاولة وسعي لمعاداة الحياة.
إفسادٌ يدفعك إلى أن تشعر بأنَّ هذه العروض التي لا تتأسَّس على نص، إنَّما تحاول الهيمنة والسيطرة على العقل لتدجينه، وللحدِّ من طاقاته وقدراته، مما يتيح لأيديولوجيا القطب الواحد استباحته، وقتل كل الأفكار النقدية التي يحملها. هذه الأيديولوجيا تسعى دائمًا لإخفاء استغلالها، وللربح، وللاحتفاظ بالقوَّة. عروض، تمرينات حركية، تداعيات، تكوينات، لعب، أصوات وأصداء، إضاءة مبهرة وخافتة، موسيقا… ثمَّ ماذا؟ هل للتفريق بين الكائن والفكر وسيطرة الأقوياء، وهيمنة الشر، وانتشار وتوسّع الأنظمة والعقل الشمولي. ألا يكفي: عنفٌ في الشارع، عنفٌ في المدرسة، عنفٌ في البيت، عنفٌ في دور العبادة، عنفٌ في القبر! المسرح ينبذ العنف، وكأنَّ العنف غدا إنتاجًا من المستبد ليستهلكه الشعب. فمسرح المؤلِّف المخرج يستحيل أن يفرجينا على هذه الحال شخصياتٍ بغاية التجريد والصفاء والعزيمة الروحية التي هي عمود كل عرض مسرحي. لذا فلا حرب ولا سلم، ولا عنف فاعلًا أو منفعلًا، كما في التراجيديات اليونانية والشكسبيرية، ولا عنف فطريًا أو غريزيًا، سواءً كان ناعمًا أو خشنًا، ساخطًا أو ساخرًا، ملجومًا أو ساكنًا. لذا ستعيش طويلًا وكثيرًا شخصيات مثل: أوديب، أنتيغون، الكترا، هاملت، ماكبث، عطيل، ليس لأنَّها شخصيات أنموذجية أو استثنائية في المسرح، بل لأنَّها غير مخترَعة أو مصطنَّعة، والعنف الذي تمارسه، إن في النص أو على خشبة المسرح/ العرض، عنفٌ يسكنها- ينبع غريزيًا من أعماقها في عملية ردِّة فعلٍ على شراكٍ تنصب لها، أو تفترضه. وهي كثيرًا ما تقوم بكبح جماح غضبها، لأنَّها ضدَّ الظلم.
في المسرح التجريبي (مسرح ما فوق النص) لا نرى هذه الاندفاعات الغريزية، ولا نعرف عنفًا أيَّ عنفٍ يمارس عليها، ولو باسم الحق والعدالة. لأنَّه ليس هناك من شخصيات فوق الخشبة تحسّ بالظلم فتدافع عن حقِّها، إنَّنا مع مسرحٍ، كما ذكرنا من قبل، من صورٍ وذكرياتٍ وتداعيات، وهنا أتساءل: إذا كنَّا نرفض آدمَ القديم وحواءَ القديمة في المسرح/ في النص اليوناني والشكسبيري، فأين هو آدم الجديد وحواء الجديدة في النص والعرض المسرحي المعاصر؟
أخيرًا: لماذا مسرح الصورة، وهو المسرح الذي يلغي النص، يلغي الكلمة، يلغي الحوار! هل ليذهبَ إلى مسرح ما قبل الكلمة؟؟ إلى اكتشاف الأصوات والألوان وسبر الأحلام واستعادة الكوابيس؟ ربَّما. ولكن على أن تقوم الصورة بالتعامل معنا كـ “مفتِّحين” وليس كـ “عميان” ولا سيما أنَّنا ندرك؛ أو أننا على يقين بأنَّ أكثر المثيرات الحسِّية هي حاسَّة البصر. ولذا كان المسرح أوَّل خطاب بصري، مثله مثل المباريات الرياضية في أثينا؛ حيث الديمقراطية؛ حيث ربَا الفن– صار يَربو ليجيء الصوت تاليًا، والذي يشكِّل مع الصورة ذاك الخطاب المسرحي التقليدي. وهنا نسأل: هل المخرج المسرحي الأوَّل، حين حوَّل النص إلى عرض، كان يفكِّر بالصور؟