كيف يُصنع الإبداع؟! نظرةٌ وانطباعٌ فيما يُكتب الآن
كثرت في الآونة الأخيرة أسماء تزجّ نفسها في خانة الأدباء والكتّاب وتلقب ذاتها بالإبداع والمجددين وتسمّي نفسها بما شاءت من الألقاب الأدبية والفنية الفخمة ؛ وقد استغلت فوضى النشر العائمة حاليا وحظيت بفرصة الحرية المتاحة التي وفرتها السوشيال ميديا ومواقع التواصل الاجتماعي وغيرها من صحف الإلكترون والمواقع الهزيلة التي تتلقى كل ما يُكتب لحشو مواقعها بكل غثّ مُسِفّ من نسج كلام قبيح ومتهرئ خالٍ من الطعم والرائحة والمذاق الشهي للنفس التوّاقة الى كل ما هو مبتكر .
بداهةً نقول اننا كلّنا محبّو التجديد في الكتابة ولسنا ضد حرية الإبداع الأخّاذ المدهش بل يروقنا ان نقرأ ونستمتع بكل ماهو جميل ومبتكر لنغذي نفوسنا متعةً جديدة ونشبع عقولنا فائدةً ؛ فالكلمة يمكن تشبيهها بالكائن الحيّ الذي يتغلغل في الأعماق ويؤنسها وقد تمكث طويلا في الذاكرة ويدوم وقع حروفها في النفس طالما هي انبثقت من ضمير ووجدان وروح الكاتب الصادق في تجاربه حكمةً كانت ام دليلَ حياةٍ او منهجاً أخلاقياً مؤطرا بصياغات أدبية فنية تلفت الأنظار .
ولأقولها علناً وبصراحة وأبوح ما عندي وأطرحه على بساطٍ أحمدي كما يقال ؛ فما حاجتي لكاتب او شاعر او فنان لا يدهش ولا ينقلني الى عالم من الخيال والمتعة ويفرش لي ورود الجمال والهناء وينقلني الى فضاءات لم يسبق لي ان جنحت فيها ؟؟
الفنان والكاتب الحقيقي المبدع من عمل بيده وعقله وقلبه ليخلق شيئا لم نألفه سواء كانت لوحةً ام نصا أدبيا شعرا كان او قصة او مسرحية او تمثالا أو اية صنيعة فنية .
فمن عمل بيده عملا مألوفاً نسميه عاملا ، اما من صنع بيده وعقله فهو صانعٌ ، ولكن من عمل بيده وعقله وقلبه مبتكرا فهو فنّان .. اجل هكذا يجب ان نقيّم ما ينتجه الآخرون .
ونرى في اعتقادنا ان الكلمة الرائقة هي كائن حيّ تطوف في الفؤاد وتبقى طويلا ، وليس كلّ من حمل قلما وكتب نصوصا معينة يستطيع امتلاك القدرة على توصيل رسالة او فكرة اختزنها عقله .
وكم من الكتابات والأعمال الفنية والأدبية التي تسمى جزافا مجدّدة تمر مرور الكرام دون ان يهتز لها عرش القلب ولم تحرك سواكن المشاعر والأحاسيس ولم نعبأ بحروفها ، فالكلمة – كما يقول جدّنا الجاحظ اذا خرجت من قلب الأديب الأريب تصيب قلب المتلقي وإذا خرجت من اللسان لم تتجاوز الأذان .
وما أقلّ النصوص التي تعلقنا بها وبقيت وشما راسخا في ذاكرتنا ولازال صوتها ووقعها مدويا في نفوسنا لأنها خرجت من ضمير ووجدان ويد الكاتب الماهر الصائغ حروفه عقدا من لؤلؤ الكلمات المنتظمة اللامعة ؛ فليس كل أديب يمتلك من الأنامل السحرية الحساسة ما توقظ الجسد وتجعله نابها مستشعرا الألفة والمتعة والمؤانسة لا لشيء إلاّ لأنها خرجت من ضمير وروح ووجدان الأديب والفنان المبدع الناضج فكريا والمعنّى تجربةً صادقةً والمميّز عن أقرانه إبداعا ، يضاف اليها مقدرته على تآلف وصياغة حروفه لتشكّل في النهاية نصوصا كأنها لوحة فسيفساء متقنة مبهرة للمتلقي .
تلك هي الكتابة التي تبقى وان مات قائلها حيث تُخلده ويبقى صانعها يحيا بها ذِكْـرا وخلودا طالما ظلّت مرآة صادقة نقية لم تصبْ بالخدش والتشويه وتغدو جسرا رابطا بين المبدع وقرّائه ولو غادر الحياة جسدا لأنها ببساطة همزة الوصل بين القرّاء وكاتبهم على مرّ العصور والأجيال ، وكم وضعنا شارات همزات القطع لكتّاب وشعراء ومما يسمونهم فنانين لم نحظَ منهم سوى الصداع والملل والرتابة ومضيعة الوقت ، والأجدى بالعمل الإبداعي ان يكون جميلا وباعثا على البهجة خاصة ان حياتنا مترعةٌ بالأحزان والمنغّصات من أجل تهدئة وإراحة نفوسنا وتخفيف الألم والإنهاك فينا سعيا لأزاحتهما بحيث يبقى الجمال والمتعة وحدهما بلسما شافيا ومطببا سريعا لنا .
كم كان صادقا شاعرنا العباسيّ دعبل الخزاعي حينما قال :
يموت رديء الحرف من بعد قولهِ
وجَـيّـدهُ يـبـقـى وإن مـات قـائِـلُــهْ