صورة الأدب الأفريقي في الغرب
ترجمة: طارق فراج
يحاول الروائي الأفريقي الأمريكي توبي فولارين (Tope Folarin)(1)، في هذا المقال، أن يُفصِّل كيف استطاع الأدب الأفريقيّ المُهاجر أن يجذب الانتباه في الأرض الجديدة، وذهب إلى أن ثمة أسباب متنوعة ساهمت في ذيوع هذا النوع من الأدب وفي قدرته على الوصول، بطريقة سهلة وجاذبة، إلى أيدي القراء. يركز فولارين على مصطلح (accessibility) أو “القدرة على الوصول” محاولًا إبرارزها في كتابات بعض الروائيين الأفارقة الذين هاجروا بأدبهم إلى أميريكا موضحًا أنهم كتبوا أدبًا أفريقيا بلغة وأسلوب موجّهيْن إلى قاريء أبيض لا يعرف شيئًا عن أفريقيا. قال مايكل وارنر (Michael Warner) أستاذ الأدب الإنجليزي والدراسات الأمريكية بجامعة ييل، في مقالٍ له تحت عنوان “أساليب الجماهير الفكرية” متحدثًا عن قدرة الأدب على الوصول: “لمن يكتب الكاتب؟ وأين يقف بالنسبة لجمهوره؟ لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة مسبقًا لأن اللغة الموجهة إلى الجمهور يجب أن تنتشر بين الغرباء؛ ولا يمكن إهمالها، على الرغم من أن الإجابات تظل بالضرورة ضمنية في الغالب. إنه ليس أبداً السؤال البريء؛ إنه يبدو كما لو أنه يطلب من شخص ما أو شيء ما أن يكون “متاحًا” حتى يتمكن الجمهور من “الحصول عليه”. السؤال نفسه يعني شيئًا خطيرًا حول ما إذا كان “العامة” أو “القارئ العادي” يتم إعداده ليكون متهيئًا لتلقي الأدب”. قال الشاعر جوشوا ماري ويلكينسون (Joshua Marie Wilkinson) “انا اتساءل عن الجمهور؛ إنني أتشكك في أي عمل يحاول تخيّل جمهوره مسبقًا بدقة. ثم مرة أخرى، ربما يكون من المستحيل عدم التفكير في الجمهور بطريقة ما. ولكني أحاول أن أتخيل ما إذا كان لجمهورٍ ـــ قارئ أو مستمع أو مشارك في المعنى ـــ قادر على التفكير والشعور أن يبدو لي وكأنه فشل في استيعاب العمل”.
أشياء تتداعى:
هل هناك منهاج محدد للروايات الأفريقية؟ وإذا كان هناك مثل هذا المنهاج، أي الروايات استطاعت أن تصنع القائمة؟ هناك طرق عدة للإجابة عن هذه الأسئلة ـــ أكثر من مجرد عدة روايات يجب وضعها في الاعتبار ـــ وأول الطرق للإجابة عن هذه الأسئلة هي قول الأشياء ببساطة.. تلقى الروائي “تشنوا أتشيبي”(2) ردودًا عديدة بالرفض، لدى محاولاته الأولى لنشر إنتاجه الأدبيّ، كما أن روايته “أشياء تتداعى” لم يتم نشرها مباشرة بشكل كلاسيكي إلا بعد نشرها بشكل محدود من قبل دار نشر “هينمان” بولاية “نيو هامبشاير” وذلك عام 1958. ثم حظيت الرواية، في السنوات التي تلت صدورها، بإشادة الكتاب المؤثرين ونقاد الأدب في الغرب؛ أولئك الذين أدركوا متأخرا أهميتها ـــ، وبطبيعة الحال، حظيت بإعجاب القراء. وفي خطى سريعة، تم بيع الرواية، وفي الوقت المناسب، تم استقبال أتشيبي باعتباره عبقريًا، باعتباره الكاتب الذي تمكن، بطريقة ما، من مزج التقاليد الأفريقية والغربية في نص واحد. ومع مرور الوقت، أصبحت الرواية أكثر شعبية وأكثر تأثيرًا. وفي أوائل ثمانينيات القرن الماضي، حققت “أشياء تتداعى” مكانة رسمية، وذلك عندما أصبحت عنصرًا أساسيًا في مناهج المدارس الثانوية والكليات في جميع أنحاء العالم… الآن، وبعد مرور سنوات، أضحت بلا شك أكثر الروايات الإفريقية قراءة على نطاق واسع في العالم. إنها، على الأرجح، واحدة من الروايات الأفريقية القليلة التي يعرفها معظم الأميركيين. وفي معظم الحالات، إنها الرواية الأفريقية المفضلة لمؤلفك الأمريكي المفضل.
على الرغم من أن آتشيبي قد عمل على التعريف بالأصوات الأفريقية الأخرى ـــ في المقام الأول من خلال إشرافه على سلسلة الكتاب الأفريقيين؛ المجموعة الرمزية التي تضمنت كتابا أفريقيين موهوبين بشكل كبير مثل الكاتب “عثمان سيمبيني” والكاتبة “بيسّي إيميلي هيد” ـــ ظل أتشيبي في الولايات المتحدة، على الأقل، هو صوت أفريقيا السائد. وهذا يعني أن أتشيبي ظل الصوت الذي يمكن الوصول إليه. من المهم في هذا المنعطف أن أصف ما أقصده بعبارة “مُتاح أو يسهل الوصول إليه”. لا أقصد بذلك “السهولة”، أو “عدم التهديد” ، أو “الحرمان الفني”. كلمة أخرى ربما يمكنني استخدامها، ألا وهي “المتوقع”. لكن هذه الكلمة لا تعبر تمامًا عن علاقة فنان الأقلية في الغرب ـــ الفنان الأسود، الفنان الإفريقي ـــ بمجتمع يقبله ويقبل الفن الذي ينتجه على مضض. يمكن القول أن الفنانين السود الذين يعيشون في الولايات المتحدة أو ينتجون فنًا يستهلك في الولايات المتحدة “يُتوقع” أن يخلقوا أنواعًا معينة من الفن، لكن السبب في وجود هذه التوقعات هو أن بعض الفنانين السود قد أنتجوا عملًا رائدًا يستطيع، لأي سبب من الأسباب، أن يحظى باهتمام كبير وبالتالي يتم النظر إليه من قبل جمهور غربي أبيض من الدرجة الأولى على أنه ذروة إنجاز الفنان الأسود، وهو المعيار الدقيق الذي يجب على كل فنان أسود آخر في نفس المجال السعي لتحقيقه حتى يتسنى لعمله أن يكون في متناول جمهور لا يعرف شيئًا عن المجتمع الذي نشأ الفنان الأسود فيه.
بمجرد أن كتب أتشيبي “أشياء تتداعى”، أو ربما من قبل، عندما بدأ يفكر في نفسه كفنان، كان عليه أن يسأل نفسه الأسئلة نفسها التي يجب على معظم الفنانين طرحها والإجابة عليها: ما نوع الجمهور الذي أبحث عنه؟ هل يجب عليَّ المساس برسالتي أو الأساليب والقيم الجمالية الخاصة بي للوصول إلى هذا الجمهور؟ إذا كانت الإجابة بـ (نعم)؛ هل أنا على استعداد للقيام بذلك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فهل يهتم أحد بعملي؟ هل أنا على استعداد لتحمل الصمت أو السخرية حتى يعترف شخص ما، في وقت ما، في المستقبل المجهول، بإسهامي الفريد؟… ثم وجدت روايته نجاحًا ، نجاحًا أكبر مما كان يتصور، ولأنها باعت الكثير من النسخ وحصلت على العديد من الجوائز وكانت أول رواية من نوعها يتم طلبها كي تُدرَّس في المدارس الثانوية في جميع أنحاء العالم ـــ لأن “أشياء تتداعى” ظلت الرواية الأفريقية لسنوات عديدة؛ ولأنها أمَّنَت موطئ قدم في العوالم التي كانت فيها المعلومات الخاطئة حول إفريقيا هي النوع الوحيد من المعلومات المتاحة ـــ لكل ما سبق فقد أصبحت البيان الأدبي النهائي حول تلك القارة. ولعل الأهم من ذلك، بالنسبة للقراء والناشرين والمحررين والنقاد الذين لم يزروا إفريقيا مطلقًا ـــ الذين لم تكن لديهم الرغبة في زيارة إفريقيا ـــ كانت “أشياء تتداعى” هي إفريقيا، إفريقيا الوحيدة التي عرفوها على الإطلاق.
في السنوات التالية من إفساح المجال لـ “أشياء تتداعي”، كان على الكتاب الأفارقة السود الذين يتطلعون إلى فعل ما فعله أتشيبي ـــ لتكوين عمل فني يمكن أن ينطلق مخترقًا إفريقيا ومسافرًا عبر العالم الأوسع ـــ أن يسألوا أنفسهم مجموعة من الأسئلة تختلف عن تلك التي طرحها أتشيبي على نفسه في الخمسينيات. كان عليهم أن يسألوا أنفسهم كيف يمكن مقارنة عملهم مع عمل أتشيبي. ما مدى تشابهه وإلى أي حد يختلف. كانت هذه الأسئلة لا مفر منها لأنه، خلال ذلك الوقت، كان الفنانون السود ـــ الفنانون الأفارقة، والفنانون الأمريكيين من أصل أفريقي، والملونون – فهموا بديهيا أنه لا يمكن، في معظم الحالات، إلا أن يكون هناك فنانون من أصل أفريقي واحد ، يمكن أن يكون هناك سؤال واحد فقط. نجاح واحد كبير. نقطة مرجعية واحدة. لقد فهموا أنه سيتم إدراك الجميع وفقًا لتشابههم أو اختلافهم عن الآخر. السبب في ذلك بسيط: أثبت المجتمع الغربي ، في معظمه ، أنه غير قادر على التعرف على أشكال متعددة من العظمة السوداء. أقول في معظم الأحيان لأنه في تلك المجالات التي تكون فيها الحواجز أمام الدخول أقل جمودًا ـــ الموسيقى أو القول أو الرياضة ؛ الحقول التي لا يمكن فيها إنكار اللحن المُبهر والموهبة الرياضية لا يمكن قمعها ـــ ظهر عدة أبطال سود. لكن في تلك المجالات التي توجد بها حواجز أقوى، هي المجالات التي تحدد فيها مجموعة صغيرة من صناع الذوق الأبيض الذين سيمنحون فرصة للنجاح ـــ في السينما والأدب والفن المرئي، من بين العديد من الفنون الأخرى ـــ تتلقى مجموعة صغيرة من الفنانين السود جل الاهتمام والثناء.
إذا كنت روبرت إيروين(3) (Robert Irwin) في الستينيات وكنت تعمل على ترسيخ نفسك كفنان، فيمكنك الإشارة إلى عدد من النقاط المرجعية. يمكنك القول: “نعم، من نواح كثيرة، قد استلهمتُ عملي جاكسون بولوك (Jackson Pollock) وفرانز كلاين (Franz Kline) وبارنيت نيومان (Barnett Newman) وويليم دي كونينج (Willem de Kooning) وغيرهم من الفنانين وكذلك السرياليين والدادييين والانطباعيين ,ورسامي الحقبة الجميلة (Belle Époque) ورسامي عصر النهضة وما بعدها. وتوفر لك تعدد نقاطك المرجعية فرصة للتحرك في اتجاهات جديدة ومثيرة، للتفوق على نفسك، لإنتاج أعمال لا يمكن الوصول إليها على الفور، لأنك رجل أبيض، ولأن تاريخ الفن الغربي بأكمله قد تم تصميمه لتعزيز موهبتك والتعرف عليها وأنت على قيد الحياة ، ثم لتخليدها بمجرد وفاتك.
نصف شمسٍ صفراء:
تبدأ رواية تشيماندا نجوزي أديتشي الأولى(4)، “زهرة الكركديه الأرجوانية”، بهذه الطريقة: “بدأت الأشياء تتداعى في المنزل، عندما لم يذهب أخي جاجا إلى الشركة وقام بابا بإلقاء رسالته الثقيلة في فضاء الغرفة وكسر التماثيل الموجودة في المكان”. وصلت أديتشي إلى الولايات المتحدة في أواخر التسعينيات للحصول على شهادة في الاتصالات والعلوم السياسية في جامعة ولاية كونيتيكت الشرقية. في السنوات التالية، نشرت عددًا من القصص القصيرة في العديد في الجرائد والمجلات المختلفة. على الرغم من أنها ناضلت من أجل العثور على ناشر لروايتها، إلا أن مطبعة صغيرة في ولاية كارولينا الشمالية تسمى “ألجونكوين” وافقت في النهاية على تحمّل نشرها. في أكتوبر 2003، صنعت روايتها الأولى طريقها إلى العالم.. في حواراتها مع الصحافة، ربطت أديشي الصلات بينها وبين آشيبي. ذكرت أن كليهما من منطقة الإبّو، من نفس الجزء في نيجيريا. كانت تعيش حتى في نفس المنزل الذي سكن فيه أتشيبي ذات يوم. لقد لاقت زهرة الكركديه الأرجوانية صدى جيدًا ـــ وحصدت الثناء، وبعض الجوائز ـــ لكن قراءة سريعة للمراجعات التي نشرت بعد إصدارها تكشف عن شيء آخر: كان النقاد الأمريكيون يحاولون هضم فكرة أديشي واستيعاب ما تقدمه؛ آديتشي باعتبارها الوريث المحتمل لأتشيبي، أديتشي باعتبارها البطل القادم.
أتذكر بوضوح الطريقة التي شعرت بها عندما قرأت “زهرة الكركديه الأرجوانية”، لأول مرة. لقد ولدتُ في الولايات المتحدة لأبوين نيجيريين، وعلى الرغم من أن قصتها تحدث في نيجيريا ، وقد قضيت كامل حياتي في الولايات المتحدة في تلك المرحلة ، فقد بدا عملها مألوفًا على الفور. كنت قد قرأت “أشياء تتداعى” بحلول ذلك الوقت، بالطبع، وقد استمتعت بها تمامًا، لكن الأحداث الموصوفة في تلك الرواية كانت بعيدة بعض الشيء. من وقت ومكان آخر. رواية آديتشي، رغم ذلك، تشعرك بالأصالة والمعاصرة. عندما كنت أقرأها، أصبحت واعياً، لأول مرة، للامتيازات الدقيقة التي كنت أقدمها للتو عن كل الأعمال الروائية الأخرى التي قرأتها. لقد كنت مترجماً، دون أن أدرك ذلك، لكامل حياتي في القراءة. لقد قمت بتحويل كل من تلك الشخصيات ذات العيون الزرقاء والشعر الأشقر ـــ أو أولئك الأمريكيين من أصل أفريقي الذين كانوا مثلي، لكن ليس تمامًا ـــ إلى أشخاص يشبهونني وبقية أفراد عائلتي، الذين تحدثوا وارتدوا ملابس وصلوا على نفس المنوال كما فعلنا، وقبل وقت طويل أصبح هذا التصرّف للترجمة الدائمة جزء غير مرئي، لا شعوري، ولا مفر منه في مشاركتي في الأدب.. ما أحاول قوله هو أن قراءة آديتشي كانت، من نواح كثيرة، مثل التحديق في المرآة وأخيراً، بعد سنوات طويلة، أعرف نفسي. لقد غمرتني كلماتها. أتذكر أنني كنت أضع الكتاب برفق على سريري بعد قراءة بضع صفحات ثم أدور في محيط الغرفة؛ أدور وأنا أفرك جبهتي لأن هذا الواقع الجديد لم يكن منطقياً بالنسبة لي.
بعد بضع سنوات، عندما كنت طالبًا بالدراسات العليا في جامعة أكسفورد، انخرطت مع مجموعة صغيرة من الطلاب السود الذين كانوا من كل مكان. كنا نيجيريين وغانيين وأمريكيين من أصل أفريقي وجنوب إفريقي وكيني وجامايكي. في بعض الأحيان مزيج من اثنين أو أكثر من هؤلاء. كانت تشيماندا نجوزي أديتشي من بين المواضيع القليلة التي وحَّدتنا على الفور؛ نظرًا لأهمية عملها وأهمية المثال الذي تقدمه. أدركنا مدى أهمية صوتها؛ كانت كاتبة قوية ظهرت في مجال تفوَّق فيه الذكور. تمكن أحدنا من الحصول على نسخة من أحدث رواياتها. كانت تسمى “نصف شمس صفراء”. قرأناها وعشنا في أجوائها. شعرنا بشعور من الإثارة لأن هذه الرواية كانت أفضل من روايتها الأخيرة. سيطر علينا شعور بالخسارة لأن الصحافة المتقدمة حول الرواية ـــ كانت الكاتبة التي تنتظرها إفريقيا! كانت أتشيبي القادم! كانت أهم كاتبة أفريقية! ـــ أشارت إلى أن تشيماندا لم تعد لنا وحدنا. كنا على حق. تم إصدار نصف شمس صفراء بعد بضعة أشهر. لقد بيعت بسرعة وبشكل لا يصدق. وفازت بجائزة أورانج ، ثم في عام 2008 ، فازت أديتشي بمنحة (MacArthur Genius Grant). نعم، لم تعد لنا؛ أصبحت تشيماندا نغوزي أديشي كاتبة أفريقية منتشرة على نطاق واسع ومتاحة للجميع.
ها همُ الحالمون:
إذا كنت بحاجة إلى إثبات أن أديتشي قد ورثت حالة أتشيبي بصفته “الكاتب الأفريقي ذائع الصيت”، فلا تنظر إلى أبعد من صفحات الناشرين الأسبوعية أو أي من الصحف المطبوعة أو الجرائد الالكترونية التي تقدم تقارير عن صفقات الكتب الحديثة. ونظرًا لأن عددًا من الكتاب الأفارقة الآخرين الموهوبين قد نشروا كتبًا في السنوات الأخيرة ـــ دينو مينجستو(Dinaw Mengestu) ونوفيوليت بولاوايو (NoViolet Bulawayo) وتيجو كول (Teju Cole) ـــ يمكن للمرء أن يجادل بأن العديد من الكُنَّاب وعددًا كبيرًا من الكاتبات الذين وقعوا صفقات كتب رابحة، على مدار الخمسة أعوام الماضية، لم يكونوا يستطيعون الحصول على نفس القدر من الأموال التي كانوا سيحصلون عليها إذا لم تثبت أتشيبي أن الخيال الأفريقي هو مشروع تجاري قابل للاستمرار.. تشير الاستطلاعات الحديثة إلى أن الغالبية العظمى من الموظفين في دور النشر الأمريكية الرئيسية هم من البيض والإناث. هذه المجموعة (في الوقت الحالي، وعلى أي حال) هي المسؤولة عن اختيار وتحرير ونشر قدر كبير من الأدب الأفريقي المهاجر الذي سيجد طريقه للقراء.. تُرى كم كاتبًا من أصحاب هذا الأدب كان في أفريقيا؟ وكم منهم عاش في الولايات المتحدة كمهاجر؟ إذا كان هناك عدد قليل فقط لديه أي معنى لما قد يكون عليه العيش في الولايات المتحدة كمهاجر؟ إذا كان تعرضك الوحيد لأفريقيا هو الروايات التي تقرؤها والتقرير الإخباري العرضي، ألا يتبع ذلك أن الخيال الذي تقوم بتحريره ونشره سوف يشبه هذه المصادر؟ هل أنت، بهذا الشكل، في وضع يمكنك من اكتشاف ورعاية عمل جديد وجريء؟
في أعمالها السردية القصيرة ورواياتها، أنشأت أديتشي المسارين المهيمنين من الروايات الإفريقية المعاصرة وذائعة الصيت. إحداها دراما تحدث في مكان ما في إفريقيا، وتنطوي في الغالب على صراع الأسرة أو التنوع المحلي. الآخر هو قصة عن المهاجرين الذين يسافرون إلى الولايات المتحدة. وكما يحدث، ترتبط قصص المهاجرين لدى آديتشي ارتباطًا وثيقًا بتقليد أنشأه كتاب معروفين مثل آمي تان (Amy Tan)، وجونوت دياز(Junot Díaz)، وخومبا لاهيري (Jhumpa Lahiri)، وغيرهم.
هناك نسخة واحدة من قصة المهاجرين المعروفة والمحببة لدى القُراء تتحدث عن شيء من هذا القبيل: شخص ما (عادةً ما يكون رجلاً) يغادر بلده من أجل توطيد حياته في الولايات المتحدة، وعادة ما تكون مدينة ساحلية، وعادةً ما تكون نيويورك. يعيش في ظروف يرثى لها ويحفظ كل قرش يكسبه حتى يستطيع أن يرسل في طلب زوجته (وأطفاله، إذا كان لديه لديهما أطفال). في النهاية يصلون. في كثير من الأحيان، يحدث لم الشمل بطريقة تسيل لها الدموع. تتمتع العائلة التي تم جمع شملها حديثًا بالولايات المتحدة لبضعة أيام أو أسابيع أو أشهر، لكن بعد ذلك يجب عليهم أن يتعاملوا بحسابٍ مع الكثير من مشاكلهم التي لا مفر منها؛ مشاكل مالية ومشاكل الهجرة وغيرها. قد يجنّدون شخصًا ما للمساعدة في مشاكل الهجرة الخاصة بهم. هذا الشخص غير موثوق به عادة. وهناك، إما أن يذهب الزوج أو الزوجة ـــ ربما كلاهما ـــ إلى الكلية. وإما أن يكون للزوج أو الزوجة ـــ وربما كلاهما ـــ وظيفة محفوفة بالمخاطر بسبب وضعيهما كمهاجريْن، كما أن قدرتهما على الحفاظ على الوظيفة لا تتعلق، في أغلب الأحوال، بالمهارة في العمل إنما بأهواء رب العمل الذي يمكن أن يكون مزاجيًا ولا يمكن الاعتماد عليه.. مع مرور الوقت، تبدو الولايات المتحدة أقل شبهاً بأرض الفرص، وأكثر شبهًا بمكانٍ تظل فيه الأحلام المستحيلة مستحيلة.
إنهم يحتفظون بالمظاهر لعائلاتهم في الوطن ـــ يرسلون الصور والمال والحكايات اللطيفة ـــ لكنهم يستسلمون ببطء لفكرة أنهم تعرضوا للخداع بطريقة ما، وأنهم وقعوا، عن غير قصد، ضحية مؤامرة كبيرة، في بلدهم الجديد. يبدو الأمر كذلك مع رواية “هاهم الحالمون” لـ إمبولو مبو (Imbolo Mbue)(5)؛ الرواية الحالية للمهاجرين الأفارقة والتي حققت مبيعات مذهلة وعائدًا كبيرًا العام الماضي. ربما لا تزيد عن كونها أكثر رواية حققت ذيوعًا سريعًا لدى القراء.. في بداية هذه الرواية، كان “جيندي” و “نيني جونغا” يعيشان، لمدة عام ونصف، مع ابنهما في نيويورك. كان جيندي في البلاد لمدة أطول، فقدغادر الكاميرون إلى الولايات المتحدة قبل زوجته وطفله بعام ونصف؛ وذلك من أجل الاستعداد لوصولهم في نهاية المطاف. نلتقي بجيندي بينما هو على وشك إجراء مقابلة مع “كلارك إدواردز”، والذي سيصبح قريبًا المسؤول التنفيذي في بنك ليمان براذرز، ليصبح جيندي السائق الشخصيّ لـ كلارك. وهكذا، في بداية هذه الرواية، تتشابك قصة تمتلك مقومات السرد الإفريقي مع قصة أخرى ــ قصة الأزمة المالية لعام 2008، والتي هي في حد ذاتها مجرد فصل آخر في الرواية الأمريكية الطويلة الأمد عن هؤلاء الذين يستفيدون وأولئك الذين يعانون من آثار الجشع الأمريكي.
جيندي يحصل على الوظيفة. انتهت صلاحية تأشيرته، لذا فهو في الولايات المتحدة بطريقة غير قانونية، لكن يبدو أنه قد يكون قادرًا على الحصول على تأشيرة اللجوء لفترة من الوقت. وتأمل زوجته، وهي طالبة في كلية ما، أن تتخرج قريباً وأن تصبح صيدلانية. تتخيل بجدية مستقبلًا تكون فيه عائلتها آمنة ماليًا ومندمجة تمامًا في الحياة الأمريكية. تشكل العلاقة بين عائلة جيندي و كلارك العمود الفقري للرواية. تتقاطع حياتهم بالطريقة التي تتقاطع بها حياة البيض المميّزة وحياة السود المضطربة والتي غالبًا ما تظهر بهذا الشكل في هذه الأنواع من القصص. يقود جيندي كلارك في جميع أنحاء نيويورك، وهو بذلك يوطد علاقته مع رئيسه، الذي يبدو لطيفًا بطريقة ما.. بمرور الوقت، ترتبط العائلتين بروابط أوثق: يعجب أطفال كلارك بجيندي ونيني ـــ حتى أنهم يزورون شقة جيندي في هارلم، في مشهد بارز ومؤثر بشكل خاص ـــ كما تبدأ نيني في العمل لدى “سيندي”؛ زوجة كلارك. هذا الجزء من السرد؛ العلاقة بين نيني وسيندي، هو الخروج الأكثر إثارة للاهتمام عن إطار المؤامرة التي تتفشى على خلاف ما هو متوقع. سيندي ـــ غير راضية عن زواجها وقرار ابنها الأكبر بالانتقال إلى الخارج ـــ تشرب باستمرار لتتجاوز المحنة، وتبتلع شتى أقراص المثبطات. في إحدى الليالي، تُفضي نيني بهمومها إلى سيندي في جلسة صفاء؛ بعد ذلك، تشاركها الأخيرة أسرارها وآلامها. تُريح كلتاهما الأخرى، وتتساويان. هُن نساء قد عانيْن وضعن في دروب الحياة، ويحاولن الحفاظ على أنفسهن وأسرهن. فيما بعد، تحث سيندي جيندي ليتجسس على زوجها الذي تشتبه في أنه يخونها. إن قرار جيندي، سواء كان امتثالًا أم لا، يعمل على تشغيل مُحرك السرد الذي سيؤدي إلى ذروة حتمية لهذه الرواية ـــ ذروتها الحتمية التي تتماثل مع معظم حكايات المهاجرين الأفارقة المعاصرة ـــ؛ تلك اللحظة التي تنهار فيها الأمور.
حتى في هذا السياق المألوف، تقوم “إمبولو امبو” بعمل رائع في تطوير شخصيات تبدو حياتها حقيقية بشكل مفجع إلى درجة أن صفحات هذا الكتاب غالباً ما تبدو كأنها رهينة المحبس. عندما تغلق الكتاب، سوف تسمع آلامهم. قد تشعر بهم يستدعونك. وأي شخص كان على علاقة طويلة الأمد سوف يتعرف على معالم العلاقة بين نيني وجيندي. إنهم يمثلون الحب الذي يحافظ على الأحلام المستحيلة، ونحن نتعلم منهم، كما تعلمنا من حياتنا الخاصة، أنه، في بعض الأحيان، لا يمكن للحب والأحلام المستحيلة أن يعيشا في نفس المكان. يتحتم على أحدهما أن يتلاشى.. في بعض المواضع، تنبعث في الصفحة ومضات من اللغة المثيرة للاشمئزاز (عند نقطة ما، تحزم نيني حقيبة لويس فويتون القديمة التي أعطتها لها سيندي مثل “حبَّات من الفول السوداني المحمَّص في زجاجة خمر”، وهي صورة مألوفة لأي شخص أمضى بضع دقائق في غرب أفريقيا). تكتب امبو الحوار جيدًا؛ في الواقع، فإن العديد من أفضل المشاهد في هذه الرواية هي مجرد تبادل موسع للحوار بين مختلف الشخصيات. هذه الكاتبة يمكن أن يكون لها مستقبل في الكتابة المسرحية.. أما بالنسبة لهذه الرواية؟ حسنًا، على الأرجح، ستشعر أنك قرأتها من قبل.
قصة واحدة أم فصة وحيدة؟
يمكن للمرء أن يجادل، وهو مطمئن، أن السبب في أن هذا النوع من روايات المهاجرين يحظى بشعبية كبيرة يرجع إلى كونه يعكس تجارب ملايين الناس، الذين تظل حياتهم وأحلامهم وفشلهم غير معترف به وبالتالي غير مرئيّ لأحد غيرهم. ذلك يقول إنه تمت إزالتنا لسنوات عديدة من طفرة الهجرة عبر جزيرة إليس(6) في أوائل القرن العشرين. اليوم، ينضم المهاجرون إلى المجتمعات المزدهرة في جميع أنحاء جنوب الولايات المتحدة، عبر الغرب الأوسط، وكثيرون منهم يغوصون في الغرب والشمال، بينما يواصل المهاجرون السفر بلا انقطاع ـــ في رواياتنا وقصصنا ـــ إلى بضع مدن في الشرق وإلى السواحل الغربية أحيانًا.
هذه الروايات تخلو إلى حد كبير من التجارب، تخلو من أي خروج مُهم عن العفن الراسخ. تتزين تلك القصص المألوفة، التي تُحسن التصرف، بأغلفة كتب لطيفة وتُرسل إلى متاجرنا؛ من هناك تخطو نحو بيوتنا بطريقة منظمة. في عام 2009، قدمت تشيماندا نجغوزي أديتشي حديثًا على يوتيوب شجبت فيه وجود ما أسمته “القصة الواحدة”. قالت: “هذه هي كيفية إنشاء قصة واحدة، حاول أن تُظهر الناس كشيء واحد، كشيء واحد فقط، مرارًا وتكرارًا، وهذا ما يصبحون عليه.” ومضت تصف العلاقة بين قوة بقاء “القصة الواحدة” وقوة من يخلقونها: “من المستحيل التحدث عن قصة واحدة دون التحدث عن القوة. هناك كلمة، كلمة الإيبو، أفكر فيها عندما أفكر في هياكل السلطة في العالم، وهي كلمة “نكالي”؛ إنها اسم يترجم بشكل فضفاض إلى “أن تكون أعظم من الآخرين”. وكما يتم تعريف العوالم الاقتصادية والسياسية، يتم تعريف القصص أيضًا وفقًا لمبدأ (nkali)(7): كيف تتم روايتها؟ ومن يرويها؟ وعندما تُروى، كم عدد القصص التي تروى، كل ذلك يعتمد حقًا على السلطة.. القوة هي القدرة، ليس فقط على سرد قصة شخص آخر، لكن أن تجعلها القصة النهائية والحاسمة لهذا الشخص. المفارقة، بالطبع، هي أن وصف أديتشي للقصة الفردية يمكن تطبيقه على الكثير من الأدب الأفريقي المهاجر الذي يتم نشره اليوم، بعد برامج دعاية واسعة النطاق. هناك استثناءات بالطبع؛ سرد قوي ومبتكر، غالبًا ما ينشأ عن مخاوف النشر الصغير. ومما لا شك فيه أنه من المهم أن تحصل النساء على هذه الفرص، خاصةً عندما يهيمن الرجال ـــ رجل واحد على وجه الخصوص ـــ على الخيال الأفريقي لسنوات عديدة. لكن نظرًا لأن أديتشي هي كاتبة إفريقيا الأكثر انتشارًا وقابلية الآن، فإن الكثير من الروايات الإفريقية التي تجد طريقها إلى أيدي القراء تشبه، إلى حد بعيد، قصصها ذائعة الصيت والتي نشرتها بالفعل ، والتي نشرها كذالك ـــ العودة على طول الخط إلى تشنوا أتشيبي ـــ غيرها من الكتاب الموهوبين. والآن، هناك العديد من القصص هناك. الكثير جدا منها. نأمل أن تكون لدينا فرصة لقراءة المزيد منها قريبًا. ونأمل، مثل عنوان معرض إيروين، أن يأتي اليوم الذي ستتغير فيه جميع القواعد.
الهوامش والإحالات من وضع المترجم:
(1) فاز توبي فولارين بجائزة كين للكتابة الأفريقية في عام 2013،( جائزة أدبية تُمنح إلى كاتب أفريقي نظير قصة قصيرة تنشر باللغة الإنجليزية. تم إطلاق الجائزة في عام 2000 لتسليط الضوء على ثراء وتنوع الكتابة الأفريقية من خلال تقديمها إلى جمهور أوسع على الصعيد الدولي) وتم اختياره مرة أخرى في عام 2016. وقد تم أيضًا تعيينه مؤخرًا في قائمة (Africa39) التي تضم أكثر الكتاب الإفريقيين الواعدين و الذين تقل أعمارهم عن 39 عامًا. انظر( https://en.wikipedia.org/wiki/Tope_Folarin )
(2) وُلد تشنوا أتشيبي (Chinua Achebe): من 16 نوفمبر 1930 إلى 21 مارس 2013، في مدينة الإيبو، أوجيدي في شرق نيجيريا وهو روائي ، شاعر، أستاذ في الأدب، وناقد. اكتسبت روايته الأولى “أشياء تتداعي” (1958)، ذيوعًا وانتشارًا واسع النطاق، وتعد الرواية الأكثر قراءة في الأدب الأفريقي الحديث فقد باعت منذ ذلك الحين أكثر من عشرين مليون نسخة وترجمت إلى أكثر من خمسين لغة.
(3) روبرت إيروين هو فنان أمريكي معاصر حاول أن يُظهر الإدراك الإنساني في أعماله. من مواليد 12 سبتمبر 1928 في لونج بيتش ، كاليفورنيا ، درس إيروين في معهد أوتيس للفنون ومعهد جيبسون للفنون في لوس انجلوس. أبرزت أعماله، منذ الستينيات، مشاعره تجاه الطبيعة التعسفية للوسط الفني وعدم قدرته على تجاوز بيئته المكانية. بحلول عام 1972، تخلى الفنان عن ممارسة عمله في الاستوديو الخاص به وبدأ في إنتاج لوحات تتعامل مباشرة مع الضوء والفضاء. للاستزادة راجع (http://www.artnet.com/artists/robert-irwin/)
(4) ولدت الروائية والناشطة في مجال حقوق المرأة “شيماماندا نغوزي أديتشي” في عام 1977 لعائلة من الإيبو من الطبقة المتوسطة في إينوجو ، نيجيريا. نُشرت روايتها “نصف شمس صفراء” خلال الحرب الأهلية النيجيرية (1967-1970) والتي سعى فيها شعب الإيبو لإقامة جمهورية مستقلة.
(5) وُلدت امبولو امبو في ليمبي، الكاميرون عام 1981، ونشأت هناك حتى رعت العائلة دراساتها للتعليم العالي في الولايات المتحدة. تروي امبو في مقابلة لها أن المجيء إلى أمريكا جعلها تدرك أنها “كان عليها أن تتعلم الوقوف، أن تبرز. أن تتعلم أن تكون أكثر جرأة”. (https://en.wikipedia.org/wiki/Imbolo_Mbue)
(6) بين عامي 1880 و 1930 ، دخل أكثر من 27 مليون شخص إلى الولايات المتحدة – حوالي 12 مليون شخص عبر جزيرة إليس. ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914 ، بدأت المواقف الأمريكية تتغير تجاه تدفق الهجرة. كانت القومية وشك الأجانب في ازدياد، وكثيراً ما كان ولاء المهاجرين موضع تساؤل. خلال أوائل العشرينيات من القرن الماضي ، صدرت سلسلة من القوانين للحد من تدفق المهاجرين. انظر (https://www.libertyellisfoundation.org/immigration-timeline)
(7) في حديث لها في عام 2009، تحدثت أديتشي عن “خطر تقديم قصة واحدة”. القصة الواحدة تخلق الصور النمطية، والمشكلة مع الصور النمطية ليست أنها غير صحيحة، ولكنها غير مكتملة. إنها تجعل قصة واحدة هي القصة الوحيدة.. ووفقًا للكاتبة فإن “نكالي” ــ وهو اسم تجاري لمثبت شعر غير صحي في أميريكا ـــ في لغة الإيبو هو اسم يترجم تقريبًا إلى “أن تكون أعظم من الآخر”. للمزيد انظر: (https://globalliteratures.wordpress.com/tag/nkali/)