محمد علال
كوستا غافراس ينتمي لعائلة فنية بامتياز وقعت في عشق الفن السابع
محمد الصديق بن يحيى وزير الإعلام والثقافة الأسبق في الجزائر (1967–1970) اسم لا ينساه المخرج اليوناني الفرنسي كوستا غافراس أبدا، وهو يتذكر أبسط تفاصيل ملامح رجل جزائري مثقف، وربما هو الشخص الوحيد من بين عشرات الأشخاص الذين أتى على ذكرهم بتلك الطريقة في مذكراته، فقد وصفه بـ”الرجل ذي الجسم النحيف جدا والعيون الحادقة”، هكذا يتذكر غافراس نظرة الراحل بن يحيى (1932–1982) عندما التقى به أول مرة عام 1967، وقد كان غافراس حينها شابا عاديا جدا يبحث عن تمويل لفيلمه الروائي الثالث.
في الحقيقة اليوم عندما نتحدث عن مسار المخرج كوستا غافراس فنحن نتحدث عن تاريخ الجزائر، ونشير إلى المخرج لخضر حامينا ورفيق دربه المخرج أحمد راشدي، ونحكي أيضا جزءا هاما من قصة وزير الثقافة الراحل محمد الصديق بن يحيى الذي يحفظ العالم العربي حكاياته، وكيف لقي حتفه في حادثة تفجير الطائرة الجزائرية الشهيرة سنة 1982، والتي كانت مهمة دبلوماسية تاريخية بين إيران والعراق، لكن عددا قليلا جدا يحفظ اليوم دور الرجل في تحقيق حلم أول أوسكار للسينما العربية.
“زاد”.. الفيلم الذي أزعج فرنسا
لقد وقف بن يحيى إلى جانب غافراس ودعم مشروعه، وكأنه بذلك كان يعلم بأن مشروع فيلم “زاد” سيعود بالمستحيل للسينما العربية، فلا أحد كان يتصور أن فيلما بنكهة بوليسية سيخطف الأوسكار. لكن نظرة الوزير الذي كان ينتمي إلى حكومة دولة عربية حديثة الاستقلال تفوقت على خبرة أحفاد الأخوين لوميير، فقد رفضت فرنسا ترشيح الفيلم باسمها في مسابقة الأوسكار بعد أن اتجهت الجزائر إلى إنتاجه، وفتحت له أرصفتها للفن السابع ليقوم غافراس بتصوير الفيلم في شوارع الجزائر العاصمة.
في ستينيات القرن الماضي كانت الجزائر تعيش على وقع تداعيات انقلاب عسكري قام به الرئيس الراحل هواري بومدين عام 1965 على الرئيس الراحل أحمد بن بلّه، وكانت في المقابل تشكل بالنسبة لكوستا غافراس الأمل الوحيد الذي يمكن بسببه أن يوافق على تمويل فيلمه، وذلك في معادلة غريبة أمام مخرج طموح يبلغ من العمر 37 عاما، كان السؤال “كيف سيوافق نظام عسكري عربي على تمويل ودعم فيلم يتناول موضوع الانقلاب العسكري في اليونان؟”.
بالنسبة للمخرج الجزائري لخضر حامينا الذي كان ضمن جهاز السينما في ذلك الوقت، فإن الأمر يتعلق بحكاية أخرى بطلها الرئيس الراحل هواري بومدين، والذي وجد في الفيلم فرصة لتخليص الجزائر من صورة النظام العسكري، فقد خلص إلى أن قيام النظام الجزائري بتمويل فيلم عن انقلاب عسكري سيؤدي بلا شكّ إلى تحسين صورة الجزائر في الخارج، هكذا ساهمت تفاصيل متناقضة جدا في إنتاج فيلم “زاد” الذي يوصف اليوم بأنه أكثر فيلم أزعج فرنسا مرتين؛ أولا عندما رفضت تمويله، وثانيا بعد أن حاز على الأوسكار، لتشنّ الصحافة الفرنسية هجوما كبيرا على الفيلم والمخرج والجزائر.
الجزائر بالنسبة لكوستا غافراس هي علاقة الحب الأولى، فعلى أرضها التقى بزوجته ورفيقة دربه المنتجة ميشال غافراس
كوستا والجزائر والأوسكار وحبه الأول
“بإمكانك أن تصوّر الفيلم في الجزائر، حيث سنوفر لك كل التقنيين والدعم، ستقيم هنا ونتكفل بمصاريف إقامتك، وسنمنحك جميع الدعم اللوجستي لتصوير الفيلم من نقل ومعدات، لكن لن نمحنك شيكا ولا دعما ماليا مباشرا لأننا لا نملك ذلك”. هذا هو جزء بسيط من حوار تاريخي دار بين كوستا غافراس والصديق بن يحيى خلال أول لقاء جمعهما معا، ودونه كوستا غافراس في مذكراته، حيث قال إن كلمات بن يحيى تلك كانت بالنسبة له خطوة هامة في تحقيق المستحيل نحو الانطلاق في تصوير الفيلم.
غير أن وزارة الثقافة احتاجت إلى ترخيص مباشر من الرئيس الراحل هواري بومدين من أجل السماح لغافراس بتصوير الفيلم، وهنا حكاية أخرى تبدو أكثر تشويقا تُكتب في سجل السينما العالمية، فلم يوافق بومدين بسهولة على الفيلم، وخاطب مسؤول السينما المخرج لخضر حامينا مازحا “هل تريدني أن أموّل فيلما يحكي قصة الانقلاب العسكري؟”، فقد تفطن بومدين إلى أن إخراج الفيلم من طرف الجزائر يعني تثبيت تهمة الانقلاب العسكري بنظامه الحاكم، لهذا صرّح بإنجاز الفيلم قائلا “لا علاقة لي بهؤلاء العقداء اليونانيين، نحن ثوّار”.
واليوم من المستحيل على السينما الفرنسية أن تؤرخ لمجدها دون الحديث عن المخرج الفرنسي ذي الأصول اليونانية كوستا غافراس. واليوم وقد ناهز الرجل الخامسة والثمانين لا يزال يتحدث عن المستحيل ويشير إلى المستقبل، ولا ينسى أبدا فضل الذين ساهموا في صناعة مجده، ومنهم الجزائر خاصة التي آمنت به يوما عندما رفضت فرنسا الاعتراف به.
حكاية مخرج فيلم “زاد” هي تفاصيل المستحيل كما يشير عنوان مذكراته الصادرة مؤخرا عن دار “لسوي” الفرنسية: “اذهب إلى حيثُ من المستحيل أن تذهب”، فبقدر ما يحمل العنوان من تحد وإصرار وعزيمة، فإنه يفكك ملامح رجل تعب كثيرا في بداية الطريق، وخدمته الظروف المتناقضة لصناعة حكاية واحد من أشهر مخرجي الأفلام العالميين والذي يصنف في خانة المخرجين الملتزمين، ويصل في نظر البعض إلى درجة المناضل الذي حارب العديد من الأيدولوجيات عن طريق العمل السينمائي.
هكذا تكشف البدايات في مسار كوستا غافراس جزءا بسيطا من زمن المستحيلات، وذلك عندما لا يجد المخرج من يؤمن به إلا دولة حديثة الاستقلال، فقد كانت الجزائر بمثابة الشمعة التي أنارت دربه عندما وافقت على إنتاج الفيلم الأشهر في مساره (حائز على أوسكار أفضل فيلم أجنبي عام 1970)، بل أكثر من هذا، فإن الجزائر بالنسبة له هي علاقة الحب الأولى، فعلى أرضها التقى بزوجته ورفيقة دربه المنتجة ميشال غافراس، فكيف لمخرج عاش هذه التفاصيل مع بلد تعرّف عليها صدفة أن ينساها يوما ما؟
كوستا غافراس عاش طفولة متعبة، فقد وُلد لأسرة فقيرة وسط نيران الحرب الأهلية المدمرة
كوستا.. طفولة مُتعبة وهجرة نحو المجهول
عاش كوستا -ابن مقاطعة أركاديا باليونان- طفولة متعبة، فقد وُلد لأسرة فقيرة وسط نيران الحرب الأهلية المدمرة، وكان والده شيوعيا معارضا وعضواً في الجناح اليساري لفرع المقاومة اليونانية، حيث سُجن بعد الحرب، وهو ما زاد من معاناة الطفل كوستا، وساهم بالمقابل في تشكيل شخصيته المناهضة للأنظمة الملكية والإمبريالية.
في سن مبكرة جدا توقف كوستا عن الدراسة في اليونان، واضطر للهرب إلى باريس وهو لم يتجاوز الـ15 عاما. لقد كان شبح الحرب مخيفا جدا في اليونان، ولم يكن أمام الناس سوى خيار الهرب نحو المجهول، لكن أبواب الهجرة التي كانت في البداية بالنسبة له تشكل مصيرا غامضا، كانت أيضا محطة للعديد من المفاجآت، حيث شقّ الولد طريقه إلى عالم جديد لم يكن ليعثر عليه في موطنه الأصلي، وقد عاد إلى الدراسة في سن الـ19 ودرس الأدب في جامعة السوربون بباريس عام 1951.
في عام 1956 ترك دراسته الجامعية واتجه نحو دراسة السينما في المدرسة الوطنية الفرنسية، وهكذا أصبح مساعدا لمدير المخرج جان رينيه كلير، قبل أن يخوض تجربة إخراج أول فيلم طويل له بعنوان “مقصورة القتلة” وهو لم يتجاوز الـ32 عاما، ليشق طريقه بثبات نحو عالم الفن السابع، ويتعامل مع مخرجين كبار أمثال رني كلير وجان بايكر وجاك ديمي وهنري فرناي.
رحلة كوستا غافراس في عالم السينما تخللت مغامرات وأحداث مثيرة أنجبت 18 فيلما هاما
عاشق السينما والأدب ومناهض للإمبريالية
تخللت رحلة كوستا غافراس في عالم السينما مغامرات وأحداث مثيرة أنجبت 18 فيلما هاما، فمنذ أول تجربة إخراجية له عام 1965 مع فيلم “مقصورة القتلة” الذي حقق نجاحا باهرا في فرنسا وأمريكا، يعود بعد سنتين لإخراج فيلم “قوات الصدمة”، وذلك بعد أن أوحى له المنتج والممثل الفرنسي جاك بيران ضرورة التوجه إلى الجزائر لتصوير فيلمه الجديد “زاد” نظرا لأوجه الشبه بين الجزائر واليونان، مقابل استحالة تصوير الفيلم الذي كتبه بالتعاون مع الروائي الإسباني خورخي سيمبرون في اليونان، وذلك لارتباط الحكاية بموضوع الانقلاب العسكري.
ورغم أن كوستا غافراس أضاع على نفسه فرصة إخراج فيلم “العراب” الذي أخرجه فرنسيس فورد كوبولا مقتبسا من رواية بنفس العنوان للروائي ماريو بوزو بعد أن وصف الرواية بالضعيفة عندما عرضت عليه، فإنه اليوم يصنف في خانة أكثر المخرجين عشقا للروايات والأدب، وهو ما تعكسه عناوين أعماله، لدرجة أن عنوان مذكراته “اذهب إلى حيث يستحيل الذهاب”؛ مقتبس من مقولة للروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس.
تجسدت علاقة حبه للأدب في عدة أفلام منها فيلم “زاد” سيناريو الكاتب الإسباني خورخي سامبرون، والمقتبس من رواية للكاتب اليوناني فاسيليس فاسيليكوس، ويحكي قصة اغتيال المعارض اليوناني لامباركيس في أثينا عام 1963 من قبل عصابات يمينية. فالمخرج ظلّ يبحث عن البطل الذي يقاتل الأنظمة، لهذا أخرج فيلم “الاعتراف” عام 1977 مقتبسا من رواية بنفس العنوان للكاتب آرثر لندن، وهو العمل الذي عكس إيمانه الشديد بالنظام الشيوعي، وهو عبارة عن قصة واقعية.
وتتجسد مواقف كوستا في الدفاع عن الشيوعية جليا في فيلمه “حالة حصار” سنة 1972، والذي تحدث فيه عن جرائم وكالة الاستخبارات الأمريكية، وأكدها بعد عشر سنوات في فيلم “مفقود” عام 1982 الذي كشف فيه تورط الحكومة الأمريكية في دعم الانقلاب العسكري ضد النظام الاشتراكي سالفادور اللندي في تشيلي.
وبين الاقتباس من الأدب ومناهضة الإمبريالية كان غافراس يرسم طريقا لمُخرج مهموم بقضايا الإنسان، وقد قدم عام 1979 فيلم “ضياء النساء” عن رواية للدبلوماسي والكاتب الفرنسي “رومان غاري” الذي حمل أبعادا إنسانية بتناول قصة حب مخملي بين ميشال (الممثل الفرنسي إيف مونتان) وليديا (الممثلة الألمانية رومي شنايدر)، وهو العمل الذي يعكس شغفه بطرح الأسئلة، مبرزا دور الفنان والسينمائي في فتح النقاشات التي تلزم رجال السياسة بتقديم الأجوبة.
الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة يمنح وسام الاستحقاق الوطني للمخرج كوستا غافراس بمناسبة الذكرى الـ64 لاندلاع الثورة التحريرية
المتوج بالجوائز ينال وسام الاستحقاق
ينتمي كوستا غافراس لعائلة فنية بامتياز وقعت في عشق الفن السابع، فزوجته ميشال منتجة بارعة يعتمد عليها في الكثير من الأمور، كما أن ابنته جولي وابنه رومان هما أيضا صانعا أفلام، ولم تنقطع علاقة كوستا مع المهرجانات الكبرى منذ أول فيلم روائي له، حيث شارك في مسابقة مهرجان موسكو عام 1967.
وتعتبر فترة السبعينيات والثمانينيات الأكثر ازدهارا في مسار المخرج، حيث رشح فيمله “زاد” لخمس جوائز أوسكار، وفاز بجائزتي أوسكار (أفضل مونتاج وأفضل فيلم بلغة أجنبية). كما رشح فيلمه “مفقود” لأربعة ترشيحات لجوائز الأوسكار بما في ذلك أفضل صورة، وفاز بجائزة الأوسكار لأفضل سيناريو معدّل عام 1982، وهو الفيلم نفسه الذي حاز به كوستا على السعفة الذهبية، وحاز بطل الفيلم جاك ليمون على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان عام 1982، بينما حصلت الممثلة جيسيكا لانج على جائزة أفضل ممثلة، وذلك عن دورها كمحامية تدافع عن والدها الذي اتهم بجرائم حرب في فيلم “صندوق الموسيقى” عام 1989.
ومؤخرا منحه الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة وسام الاستحقاق الوطني، وذلك بمناسبة الذكرى الـ64 لاندلاع الثورة التحريرية، وبحضور شخصيات سياسية وثقافية بارزة، وقد جاء التكريم تقديرا لمسيرته وعرفانا لدعمه السينما الجزائرية.