منذ فصل جنوب قطاع غزة عن باقي القطاع عام 2002، احتاجت وكالة “الأسوشيتد برس” إلى مصورٍ يوثق الانتهاكات والاعتداءات الإسرائيلية وكان الاختيار قد وقع على المصور الفلسطيني خليل حمرا الذي عمل مسبقاً في القطاع لصالح عددٍ من الوكالات الأجنبية مستمراً في توثيق كلّ ذلك حتى عام 2010، وهكذا قادته مسيرته في التصوير الفوتوغرافي إلى مواجهة أهم الأحداث المحلية والعربية كانتقاله إلى مصر قبل شهر من اندلاع الثورة هناك، بغية العمل لصالح وكالة الأنباء في المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وقام بتصوير الثورة
المصرية وتطوراتها، وكذلك الثورة السورية من كل جوانبها، سواء من الداخل، أو حتى في مخيمات اللجوء في تركيا والأردن.
تحيلنا أعمال حمرا إلى مقولة سوزان سونتاغ “ثمّة بطولة غير مألوفة في أرجاء العالم منذ اختراع الكاميرا: بطولة الرؤية”، فليست القدرة على استخراج مواد وسط قطاع غزة بالأمر الهيّن، إذ تحتاج إلى طاقة عالية للتحمل والحفاظ على ثباتك وهدفك، إنها آلية خاصة للمقاومة، حيث تصبح عين المصور كائناً يتنقل وسط الدمار، كمقاومة بصرية للحدث. لكن البطولة ليست في التصوير وحسب لأن صور حمرا تجعلنا نفكر بأنه ومن خلال عمله لا ينتقل فقط ما بين المواجهات إنما ينتقل ما بين لوحات لأبطال أسطوريين، صانعاً من الجسد الإنساني رموزاً خالدة في إضافة خصوصية للمشهد، فليس الألم أو الخوف هو المسيطر إنما القوة على الرغم من مأساوية الحدث، داخلاً نحو عمق الصورة الحيّة، متتبعاً دواخل الفلسطينيين بأدواتهم البسيطة في المقاومة.
قوة صور حمرا
تأتي قوة صور خليل حمرا من خلال التركيز على الجانب الإنساني وسط الحرب، فهو يجد أن الصورة الأقوى ليست صورة العنف إنما الصورة التي تنحو إلى تقديم الجانب الإنساني بكلّ ما فيه من فرح وحزن وتشرد وطفولة. يقول حول هذه النقطة: “المواجهات والقصف والعنف مادة لا تحمل القوة بقدر ما تحمل الضعف، الفرق ما بين الحرب والسلم في التصوير الصحافي تحديداً أنه وفي أماكن السلم نجد الكثير من المصورين الذين يوثقون الحياة بفرحها لكننا في المقابل لا نجد في الحرب الكثير منهم ولا بد من وجود من يوثق الحرب ويوصل تفاصيلها إلى العالم”.
تقوم أعمال المصور الفلسطيني في المقام الأول على توثيق المواجهات ضد الكيان الإسرائيلي لينتقل إلى مستوى آخر في تتبع تأبين الشهداء داخل منازلهم وبين أهلهم وأصدقائهم ليتحول الإنسان الفلسطيني إلى لوحة أخرى أكثر حدة وتركيزاً على الألم الذي يتشعب ويمسك بحناجر من حوله، ينتقل إلى العيون المتعبة والحزينة للأمهات المنكوبات وإلى الأطفال الذين تنطبع في عيونهم مشاهد الدمار والألم والذعر، الصور التي لا تركز على الشفقة والموت كونهما حدثاً
استثنائياً فقط إنما على البعد النفسي للجسد المحمول والملفوف بالأيدي الصلبة التي تحمله، إنها صور الماضي والحاضر والمستقبل حيث الزمن ليس جامداً إنما متحرّك بأشكال متعددة.
من جهة أخرى ألم نتساءل ماذا تفعل ذات الأيدي لنساءٍ تمسح وجوه أبنائها الراحلين في حياتها العادية؟ ماذا تفعل الأيدي الصلبة لرجال يحملون النعش ويسيرون بثقة؟ إنّها ذات الأيدي التي تتجه إلى الحياة اليومية والتي تستيقظ لتعمل في أرضها وبحرها لتتابع الحياة من منطقة أخرى، منطقة تجعلنا نفكر بأيدي الأمهات وهي تلوّح مودعة أبناءها ثم تنتشر في حقول الفراولة لتلمس الحبات برفق وتقطفها، وترمي أيدي الرجال الشباك في البحر وتصطاد السمك، إنه التحول الذي يحدث كل يوم تحت سماء غزة، الانتقال المربك ما بين الحياة والموت، ما بين المقاومة والوجود، ما بين التلويح وداعاً وحمل سلال الفاكهة، وكل هذا يقدمه خليل حمرا داخل كادر مكاني وزماني ثابت وواضح وكأنه يعيد الحياة من وجهة نظر أخرى، على الأرض الفلسطينية نستطيع أن نرى الحياة في أكثر صورها قسوة وأكثرها دفئاً وحباً.
يقول حمرا عن هذه الانتقالات في مستويات التصوير: “في المواجهات أعيش الموت وأوثقه وفي تشييع الشهداء أقاسم أهل الشهيد حزنهم، أما في الحياة اليومية فإنني أعيش الفقر مع الفقراء والأمل مع فاقديه والطفولة مع الصغار”. ويتابع: “كمصور صحافي انتقلت بين العديد من الأماكن وصورت الكثير من المآسي المتشابهة، لكن في فلسطين يختلف الأمر بعض الشيء لأني أضيف على وصف مصور صفة فلسطيني وهذا ليس على حساب مهنيتي إنما كتعزيز لمشاعر أشاطر فيها لحظات الفرح والحزن مع من أعيش معهم وبينهم”.
المصور الفلسطيني الذي يعتبر التصوير فناً سواء أكان ذلك في وقت السلم أو في الحرب، يحوّل المأساة لجدارية بصرية تُجبرنا على الوقوف أمامها وقراءة تفاصيلها. يقول: “أصوّر الحرب بالذهاب والبحث وراء الكواليس، الحرب في القصص التي وراءها”.
مع المصور خليل حمرا نعيش الألم الفلسطيني بكل اتساعه وبكل لحظاته، حيث تحتفظ ذاكرتنا بمشاعر متناقضة للحياة والموت، وكأن المهمة الأولى لصوره هي تذكيرنا باتساع الموت ولكن أيضاً باتساع الحياة في مكان يسمى فلسطين.