يعتقد المصوّر الجزائري عماد طيايبة (1995) أن العلاقة الأولى للإنسان بالصّورة تبدأ بلحظة خروجه إلى الحياة، “ذلك أن الصّورة التي نلتقطها اليوم هي ثمرة للصّور التي اختزلتها ذاكرتنا منذ ولادتنا، فقط نحن نلتقطها لنجعلها ذاكرة للمستقبل”. يضيف: “أجمل ما في فنّ التّصوير أنه يجعل قدرة الزّمن على الانفلات ضعيفةً، فهو يسخّرها لصالح تخليد اللّحظة عوض محوها أو نسيانها”.
shareعماد طيايبة: “عرفت أن التصوير والموت ضدّان، فقرّرت أن أنتقم من الموت بتصوير الوجوه التي أحبّ حتى تبقى على قيد الحياة”
كانت مشاهدتي لألبوم العائلة، يقول محدّث “الترا صوت”، وأنا طفل صغير، اللحظة التي برمجتني على الحلم أن أكون مصوّرًا. لقد كنت أحمل الصّورة الواحدة من الألبوم وأنسى نفسي فيها، فكأنني أتعرّف على الوجه الذي فيها من جديد، خاصّة الوجوه الرّاحلة! ووقعت حينها نهبًا لهذا السّؤال: هل مات فعلًا؟ ما معنى أن يموت ويبقى هنا في الصّورة؟ هناك عرفت أن التّصوير والموت ضدّان، فقرّرت أن أنتقم من الموت بتصوير الوجوه التي أحبّ حتى تبقى على قيد الحياة.
اقرأ/ي أيضًا: طارق نادري.. مصوّر الابتسامات المحرومة
تميل صورة عماد طيايبة إلى الأبيض والأسود، انطلاقًا من هذه الخلفية، “فالأسود يمثّل في نظري الموت بينما يمثّل الأبيض الحياة. وعادةً ما تكون مساحة الأبيض في صورتي أكبرَ من مساحة الأسود أو محاصرة لها انتصارًا منّي للحياة. هل انتبهت إلى رمزية أن يُكسى الميّت بالأبيض في مقابل إقبال أهله ومحبّيه على الألبسة السّوداء؟ لقد أرادوا القول إنّه سيبقى حيًّا، في حين هم من ماتوا برحيله، حتى أنهم يمتنعون عن الأكل والكلام واللعب تمامًا مثلما يفعل الميّت”. يضيف: “لا علاقة لخيار الأبيض والأسود في الصّورة بتطوّر تقنيات التّصوير، ذلك أنّه خيار وجودي ممتدّ في الزّمن”.
يقول عماد طيايبة إنّ براعة إمساك المصوّرة هي آخر ما يحتاج المصوّر إليه. ذلك أنّ الصّورة، بحسبه، نسيج متداخل من المعارف والأحاسيس والأفكار والرّسائل والإشارات والعواطف، “أنت في الحقيقة لا تصوّر وجهًا، بل تصوّر علامة استفهام أو تعجّب أو حيرة أو رغبة أو خوفًا أو فرحًا أو تردّدًا أو ارتباكًا أو طمعًا أو نزوة. وهي حالات لا يقبض عليها مصوّر لم يحلم في حياته بوضع الزّمن في علبة”. يشرح فكرته: “إذا كانت هناك معركة ينبغي على المصوّر أن يخوضها، فهي معركته مع الزّمن. من زاوية سرعة البديهة ومن زاوية تخليد اللّحظة”.
حين أواجه جسدًا أو مشهدًا، يواصل صاحب الجائزة الأولى في الصّالون المحلّي لمدينة برج بوعريريج، أقرّر أيَّ جزء منه أستهدف، بناءً على قوّة الإشارة الممنوحة لي من طرف ذلك الجزء. فقد تعنيني منك يدُك لا غير، وهي تطرح سؤالًا موغلًا في الحيرة أو عينُك وهي تنظر بدهشة أو قدمُك وهي تتوجّه إلى المجهول. يسأل: “ما هو الإنسان خارج حيرته ودهشته ومجهولاته؟”.
اقرأ/ي أيضًا: الفوتوغرافي نذير حلواني.. حين يكون هو المدينة
shareعماد طيايبة: “إذا كانت هناك معركة ينبغي على المصوّر أن يخوضها، فهي معركته مع الزمن. من زاوية سرعة البديهة ومن زاوية تخليد اللّحظة”
تلقّى صاحب الجائزة الأولى في الصّالون الوطني لمدينة مستغانم تكويناتٍ في ورشاتٍ وصالونات مختلفة، “رغبة منّي في أن أخضع موهبتي للجوانب العلمية في التّصوير، فهو علم وتقنيات أيضًا. ومن حقّ صورتي علي، بالإضافة إلى حقّ المتلقّي والزّبون، أن تكون ثمرة للمعرفة والذّكاء والإحساس معًا. هذا الثّالوث هو ما يعطي للصّورة الفوتوغرافية مصداقيتها، وغياب عنصر من عناصره الثّلاثة يخلّ بها حتمًا، ويجعلها خارج دائرة الجمال”.
دفع هذا التّماهي مع فنّ التصوير محدّث “الترا صوت” إلى أن يقوم بمكابدات شخصية من أجل أن يتدبّر آلة تصوير محترفةً، في كلّ مرحلة يحسّ فيها بأن معارفه تطوّرت وباتت تقتضي منه آلة متجاوزة للتي يملك، “لا ننتمي إلى بيئة تتعاطى مع التّصوير على أنّه إثراء لتاريخ العائلة والمجتمع، فهي لا تشتري المصوّرة بالحماس نفسه الذي تشتري به الثّلاجة والغسّالة والسيّارة، مثلما هو حاصل في الفضاء الغربي، بل إلى بيئة لا تنفق على التّصوير إلا للضرورة الإدارية، وينطوي مخيالها الدّيني على تحفّظ واضح إزاء التّصوير. لذلك يجد المصوّر فيها نفسه مرغمًا على أن يتكفّل بالأدوات المتعلّقة بخياره الفنّي وحده”.
shareعماد طيايبة: “باتت الصورة سلاحًا يبني ويدمّر في الوقت نفسه. وعلى المصوّرين أن يتجاوزوا فردانيتهم إلى خدمة الصالح العام”
هنا، يدعو عماد طيايبة إلى تغيير هذا المفهوم الموروث عمّا أسماه الزّمن الخرافي، وتكريس مفهوم جديد يجعل من التّصوير ثقافة عامّة في المجتمعات العربية والإسلامية، “فقد باتت الصّورة سلاحًا يبني ويدمّر في الوقت نفسه. وعلى المصوّرين أن يتجاوزوا فردانيتهم إلى خدمة الصّالح العام”.
لم تبقَ هذه الدّعوة حبيسة الكلام لدى محدّثنا، بل انتقلت إلى الميدان من خلال المساهمة، رفقة مصوّرين آخرين في مدينة برج بوعريريج، 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، في بعث “جمعية بانوراما” التي تعنى بالتّصوير والمصوّرين. ومن مشاريعها الجديدة الاشتغال، رفقة كتّاب وشعراء، على ثيمة الدّرّاجة الهوائية، للوصول إلى عمل مشترك بين الكلمة والصّورة يهدف إلى التّقليل من سلطة الدّخان في المدينة الجزائرية. يقول عماد طيايبة: “الفنّ ابن الحياة، ومن مظاهر عقوقه لها ألا يكون في خدمتها”.
اقرأ/ي أيضًا: