تعليق: سعيد بوخليط
إذا كان بوبر إصلاحيا على مستوى السياسة، فقد آمن ب”الثورة الدائمة”؛ على مستوى العلم. تتطور النظريات العلمية بشكل مستمر ولا نهائي؛ منفصلة ومتعارضة. لكن مع ذلك، لايمكن لنظرية جديدة إسقاط أخرى إلا إذا: ((1- أدركت كل ما جاءت به النظرية السابقة ، إنه البعد المحافظ لتطور المعرفة . 2 – إذا كان بإمكانها فهم بعض الوقائع التي لم تفسرها النظريات السابقة :فهل عوضت نظرية “ماكسويل” النظرية السابقة لصاحبها”جان فرينل”. وهل بوسع نظرية نيوتن الحلول محل نظرية غاليلي. ثم هل تمكن أينشتاين بنظريته ،إلغاء نيوتن . بمفاهيم أخرى،تصير النظرية المتجاوَزة في كل مرة مقاربة للنظريات الجديدة. فالنظريات لا تتوقف عن التطور ))(1).
لاينطبق هذا المبدأ المعرفي، على تطور أو موت الإيديولوجيات. فإذا كان العلم يرفض كل ارتداد . فالإيديولوجيات الدوغماطيقية؛ تلك التي ترفض الاستفادة من أخطائها قد لا يكون لها نفس المصير الوردي الذي تعيشه النظرية العلمية:(( كذلك لا تموت كليا، بل يمكنها الظهور ثانية خلال أية لحظة ))(2).
يجب إذن التمييز بين الثورة العلمية والإيديولوجية، حتى وإن كانت بعض التصورات العلمية كما الشأن مع : كوبرنيك، داروين وأينشتاين قد ضاعفتها ” ثورات إيديولوجية ” .
تتوخى معرفتنا الحقيقة أساسا. وإن كان بوبر قد أكد عدم جدوى وصف نمو المعرفة وكذا قضية العلم بمفاهيم الحقيقة . لأن الخطأ يظل المطلق الوحيد الذي يمكن أن يعرفه رجل العلم. فالتكلم عن نظرية علمية بمنطق الحقيقة؛ يعني ضمنيا استبعادا للخطأ.
هكذا يقترح بوبر صياغة جديدة وأفقا مغايرا، يلامس التناقض السابق بمفهوم التقرب من الحقيقة والذي ينطوي على فكرتين : محتوى النظرية وفكرة الحقيقة .
إجمالا يحدد بوبر،شروط الفكر العلمي في :
1– على الرغم من تأكيده على التفنيد، فمن الضروري أيضا الأخذ والإقرار بالنجاحات الايجابية، أي على النظرية تقديم بعض التقديرات الجديدة التي اختبرت فعليا.
2 – لا يجب دحض النظرية قبل الأوان والإسراع نحو ذلك.
3– ليس من اللازم دائما توخي نجاح نظرياتنا. صحيح أن ذلك، يضفي على العلم خاصيته العلمية، إلا أن الأمر وفق هذه الشاكلة قد يستوجب كذلك خطر الدوغماطيقية .
4 – يلزم رجل العلم الدفاع عن نظرياته، ضد كل الانتقادات السهلة؛حتى وإن تطلب الأمر إخضاعها للروائز .
5 – كي يتطور العلم، يتحتم توفر الشروط والمعطيات التالية :
– استحضار الخاصية اللانهائية لجهلنا.
– وجود رخاء اقتصادي.
– ينتعش ويزدهر الفكر النقدي؛ عندما تنتفي كليا شروط الاستبداد السياسي ذلك أن : ((يحطم الاستبداد والمستبدون العلم مطلقا))(3).
كيف استعاد بوبر الإشكالية الكانطية، توخيا لإيجاد معيار من أجل الفصل بين العلم و الميتافيزيقا؟ ثم البحث في طبيعة الصراع بين الخطابين وادعاءاتهما للحقيقة .
يرفض بوبر المعيار الاستقرائي الذي جاء به هيوم . فرغم تقديره لهذا الأخير، اعتبر الاستقراء مجرد أسطورة ولا يمكنه أن يصبح ( تحققا)لأن هذا المبدأ يؤدي الى استبعاد القوانين الكلية. وقد وجده بوبر في إمكانية الدحض عن طريق التجربة : ((لكن معيار الفصل البوبري ليس معيار دلالة، على العكس مما يقترحه الوضعيون الجدد. كما أن التحديد بين العلم واللاعلم، ليس فصلا بين المعنى و اللامعنى ))(4).
لأنه يلزم دائما اتسام النظرية العلمية بالجرأة والمجازفة. فقد آخذ بوبر على التحليل النفسي والماركسية، سعيهما باستمرار نحو التلاؤم والانسجام مع جل الوقائع التي يمكن ملاحظتها. وكل نظرية تتبنى هذا المعنى، فهي ليست علمية يضيف بوبر .
لكن باحثا مثل ويليام بارتلي، يعتقد بأن فصل وتمييز بوبر بين الخطاب الدوغماطيقي وكذا الخطاب المنفتح باستمرار على النقد، كان أكثر أهمية من الفصل والتمييز الذي أقامه بين العلم و الميتافيزيقيا.
من جهة أخرى، وفيما يتعلق بالتجربة السياسية للمجتمعات المعاصرة،استمر الاعتقاد بأن الديمقراطية تمثل النموذج المطلق؛ الذي يعكس ويجسد سياسة الشعب . غير أن بوبر تصور الأمر بكيفية ثانية ومختلفة، بحيث أكد من جديد في حوار أجراه معه جان بودان سنة1989على:((عدوانيته الصميمة نحو المفهوم الشائع للديمقراطية))(5).إنها: (( قبل كل شيء منهجية تمكن من تجنب الاستبداد وعزل أسوأ المسؤولين ))(6).
لا يوجد أساسا حسب بوبر؛ سوى نظامي: الديمقراطية و الديكتاتورية. ويضيف بأن الديمقراطية نظام يتيح للحكومات إمكانية التغيير داخله، بوسيلة كالانتخابات؛ تجنبا لحدوث سفك للدماء: ((لا يأخذ هذا التعريف معناه إلا في تضاد مع تعريفين آخرين ممكنين. من جهة، ليست الديمقراطية قانونا للأغلبية؛ حتى ولو شكلت عمليا قاعدة الأغلبية هاته الأقل خطرا،إذا كنا نرغب في تجنب الحرب الأهلية. لكن من جهة، لا يجب أن يغيب على أذهاننا كون الأغلبية قد تكون ديكتاتورية))(7).
بل ربما صوتت هذه الأغلبية، لحزب يعارض المؤسسات الحرة .لذلك يتمثل الجوهري عند بوبر، في الدفاع عن الفكر الحر؛ واحترام قوانين الأقلية فكريا وسياسيا. إنه جوهر الديمقراطية. مثلما ليس من الضروري، تصور الديمقراطية بكونها تدافع عن حرية جامحة ومطلقة. تتحدد الحرية تبعا للآخرين، وتظهر قيمة هذا المفهوم خاصة على مستوى الحياة الاقتصادية. ذلك أن جموح الليبرالية قاد إلى الاستغلال. من تمة إلحاح بوبر؛على ضرورة تدخل الدولة .
تجسد الديمقراطية أقصى درجات العقلانية السياسية. قد تظهر كذلك كنظام سلبي في صورة متناقضة ، مادام يلزم في نفس الآن الصراع ضد رافضي أو مهددي الديمقراطية . مع الأخذ بعين الاعتبار أن الديمقراطية لاتدعي تقديم سياسة جديدة؛ بل تجنبنا بالأحرى الأسوأ.
و بالتأكيد تندرج في هذا الاطار؛ هجومات بوبر العنيفة ضد بعض الفلاسفة الذين ألهموا “الرومانسية التوتالتارية”، كأفلاطون و هيغل وماركس؛ثم تكريس أفق دفاعه عن الأسس المتينة التي بوسعها تحصين المجتمع ضد كل رجعية سياسية.
بوبر الذي ترك موطنه الأصلي هربا من النازية، اعتبر أن ما كتبه بين سنوات 1938/1945 يعكس عنوانا لمجهوده الحربي ضد الفاشية والنازية، وأنظمتهما التوتاليتارية . والمقصود بالمفهوم الأخير: (( نظام سياسي تدير فيه الجماعة بشكل سيادي المجتمع وتمارس ضبطا مطلقا على الأفراد وأنشطتهم الاجتماعية «المميزات: وجود حزب وحيد، انصهار السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية …. إلخ” ))(8).
استلهم بوبر؛ حديثه عن التوتاليتارية من أفلاطون، ولم يكن هجومه عليه في حقيقة الأمر، إلا تقديرا وإعجابا مضمرين بفلسفة وشخصية هذا الفيلسوف الاغريقي، على العكس من موقفه اتجاه هيغل. يقول على لسان أفلاطون: ((أعظم الرجال قد يرتكبون أكبر الأخطاء ))(9).لكن تقديره لأفلاطون،لم يكن أكثر من تأكيده على القيمة الفكرية العظيمة لسقراط؛ وموقفه الفلسفي دفاعا عن الديمقراطية و العقلانية النقدية، ويعتبر بالتالي من المدافعين الأوائل عن المجتمع المنفتح .
انحاز أفلاطون إلى منظومة المجتمع المنغلق،واضعا مخططا جديدا، بحيث نجدنا ثانية وبدعم من الشعب أو عن طريق الديكتاتوريين المستنيرين مثل سيركوس؛أمام الإيقاع التراتبي ل”المجتمع المنغلق”الذي تتجلى أهم مظاهره في:
1- حالة التراتبية التي يعيشها هذا المجتمع :حراس ، محاربون ، وعمال.دولة مثالية:((يقبل فيها كل واحد بمكانه داخل الكل. دولة، تنهض في الواقع على التراتبية الأكثر صلابة، والاختلافات الأكثر صرامة بين الطبقات ))(10).
أن تتجنب الطبقة المهيمنة الصراعات؛كي تبقى ضمن إطار مايسميه بوبر بالسوفوقراطية، مسألة تحتم :
2- عدم انخراط الطبقة المهيمنة في الحياة الاقتصادية .
3- شيوعية المحاربين .
4- إقامة نظام تربوي،لايترك أية فرصة لظهور ملكات النقد الحر؛بل من الضروري تشكيل وتكوين نخب من أجل القيام بهده المهمة .
5- المحافظة بصرامة على النقاء العرقي للطبقة المهيمنة .
6- للمسؤولين الحق في مراقبة الحقيقة، وممارسة الكذب .
7- إبقاء الدولة على التفاوتات، والخضوع لنظام صارم جدا .
تتحدد العدالة المثالية حسب أفلاطون؛ في ضمان استقرار الدولة. مما يحتم ضرورة التضحية بالفرد لصالح الدولة .بناء على تصوره هذا، اعتبره بوبر أكبر منظِّر للتوتاليتارية.
لكن يظل هجومه على فيلسوف أخر ك هيغل، أكثر قسوة من وقوفه على أفكار أفلاطون التوتاليتارية. يستعيد بوبر؛ احتقار شوبنهاور العميق لفيلسوف برلين .تخفي إسهامات هيغل الشخصية وراء تحليلاته العميقة والغامضة، تراجعا عن مكتسبات العقلانية .
يحتفظ الجدل الهيغيلي بأهميته: الأطروحة/نقيض الأطروحة /التركيب.قد يكون وصفا مستساغا لبعض التطورات الفكرية؛لكن من اللازم في ذات الوقت تجنب بعض الالتباسات:(( ليس الأطروحة هي التي ” تنتج” من تلقاء ذاتها نقيض الأطروحة بل وضعنا النقدي. كما أن التركيب لايتأتى من” الصراع ” بين الأطروحة ونقيض الأطروحة ولكن حتما نتيجة طريق صراع بين أفكار كثيرة))(11).
رغم ذلك، يوجد تصور قد يظهر هيغل، بمثابة مبدع حقيقي. يتعلق الشأن بكونه مؤسس ما يعرف ب: وطنية اليمين. غير أن بوبر؛ يقارب هذا المفهوم بنوع من العبثية،ساعيا إلى دحض الأسس التي قد يتوخى تصور كهذا إيجادها من أجل تبرير خلاصاته .
لايصمد معيار مقبول حسب بوبر؛من أجل تحديد: الوطن. وإن اعتمدنا على اللغة أو تصور أحادي النظرة فيما يخص تطور حضارة ما،التي تجسد في كل الأحوال ثمرة اختلاط بين شعوب وأجناس مختلفة .
لقد أدى مفهوم وطنية اليمين وبتعهدات هيغيلية،إلى ظهور التأكيدات الأساسية والمسوغات التاريخية لظهور الفاشية:(( مفهوم شعب موحد بفكر وطني ، ومحكوم عليه بمصير واحد ))(12).
فأطروحات مثل :
1- إن شعبا لايؤكد ذاته إلا بالحرب ضد شعوب أخرى .
2- وإن فكر الشعوب يجد أقصى تعبيره في الدولة ، التي لاتوجد فوقها أية أخلاق أو عدالة .
3- اعتبار الفرد مجرد أداة في خدمة الدولة الوطنية .
– 4- تمجيد أبطال وعباقرة الأمة… .
أفكار بجانب أخرى، أعطت هيغل مسألة الريادة في إشعال حربين عالميتين وبالأخص الثانية .
ضمن السياق نفسه، يرفض بوبر كذلك التصور التاريخاني لمقاربة المجتمع الإنساني. أي كل منهجية:((ترتكز على تفسير الأفكار وموضوعات المعرفة إلخ ،حسب تطور تاريخي. أو النظرية التي تكون على ضوئها الحقيقة تاريخية))(13). رؤية تعتقد بمصير للتاريخ الإنساني، يتوخى هدفا معينا عبر سلسلة من المراحل الضرورية.
هدا الموقف الشمولي للتاريخانية، يجعلها حبيسة نفس المنظور الذي تبنته الطوباوية، وهي أول التيارات التي جادلها بوبر .كلاهما ،يدعو إلى تغيير المجتمع كليا، ولا توجد إمكانية أخرى لتقويمه جزئيا: ((تتوحد التاريخانية و الطوباوية في تمازج مفارق داخل أغلب النظريات الثورية. اقتضى الأمر إذن من بوبر المدافع عن سياسة إصلاحية، رفض الخاصية اللاعقلانية للأسطورة التاريخية))(14).
بعد أن تطلعت التاريخانية عبر العصور والحقب، نحو إيجاد مبررات موضوعية لتأكيداتها. وصلت في نهاية القرن التاسع عشر، وتحت تأثير النظرية الداروينية كي تأخذ شكلا علمويا . أي أنه من الممكن دراسة القوانين التي تحكم المجتمع الانساني، حيث يمكننا التنبؤ والتكهن بمستقبل هذا المجتمع .
قارب بوبر عبر أطروحات كتابه: بؤس التاريخانية. هذه الصيغة اللاعقلانية للتاريخانية؛ انطلاقا من تأكيده على فكرة : ( التاريخ له معنى، ثم لايمكن لمعرفة مراحله المستقبلية بالاستناد على إحاطة موضوعية بالواقعـــــــة الاجتماعية)(15).
هناك نوعان من الدلائل بخصوص مسألة علمية أو لاعلمية الطرح التاريخاني :
توجد من جهة بعض الأطروحات اللا-طبيعية أو “السلبية”،التي ترفض مسألة تطبيق العلوم الفيزيائية على العلوم الاجتماعية نظرا ل:
1 – انتفاء الثابت في التاريخ الإنساني.
2 – لا يمكن لتجربة أن تتكرر: (( بما أن المجتمع قادر على التعلم، فإنه لا يتفاعل أبدا مرتين بذات الطريقة مع نفس الواقعة: من النادر أن تحدث أزمتان اقتصاديتان لنفس السبب))(16).
3 –تداخل عالمي الملاحِظ و موضوعه، مادام ينتميان لنفس العالم. وتظهر صعوبة ذلك خصوصا في السوسيولوجيا ، فلايمكن أن تكون الممارسة العلمية للباحث محايدة .لأن له طموحات و أهداف .
إلى جانب وجهة النظر الأولى ، تستعين التاريخانية كذلك بالأطروحات الطبيعية أو الوضعية، قصد التقريب بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية بخصوص بعض المحاور. انطلاقا من فهم ،يؤكد على أن التاريخاني حتى و إن استحالت عليه مسألة إعطاء قوانين ستاتيكية لنسق اجتماعي معين، فبإمكانه البحث في القوى التي تحدث التحولات الاجتماعية و من تم تقديم القوانين التي تحكم تطور النسق كليا والمراحل التي يمر من خلالها إلى المستقبل. يكفينا مثلا؛ معرفة التناقضات التي تعيشها الرأسمالية،حتى نتكهن بانهيارها وانتقال المجتمع إلى المرحلة الاشتراكية.
لقد استبعد نقد بوبر، تماما إمكانية أن تنهض العلوم التاريخية بتنبؤات كتلك.لأنها بحسبه؛ تفترض مفهوما مغلوطا لمناهج العلوم الطبيعية.
1 – لا تتمثل مهمة العلم؛ في إعطاء تنبؤات مطلقة .لأن ذلك تحكمه قواعد وسياقات معينة. تكون التنبؤات التاريخية شَرْطية،سوى ارتباطا بنظام منغلق.والحال أن المجتمع الإنساني ليس كذلك .
2 – لا يمكن أن تقوم قاعدة لتطور التاريخ الإنساني.
3- عوض البحث عن إيجاد قاعدة معينىة ،بوسعنا فقط وصف ميولات لهذا التاريخ. غير أن الميول لا تخول الحق في التكهن. لذلك بعد أن صاغ ((بوبر مجموعة انتقادات منهجية في كتابه بؤس التاريخانية، فقد اقترح تفنيدا للتاريخانية أو الحتمية التاريخية موضحا استحالة صمود كل تنبؤ مطلق بالمستقبل لأسباب محض منطقية. لأن التاريخ الإنساني في العمق، يلزم التفكير فيه باعتباره غير قابل للتحديد)) (17).
لكن حتى مع وجود اختلاف بين العلوم الطبيعية و الاجتماعية؛ فإنها تستند على مبدأ وحدة المنهجية العقلانية يضيف بوبر، مادامت توظف نفس المنهجية الفرضية الاستنباطية .
كيف دافع، من خلال كل كتاباته عن الشروط الحضارية و التاريخية و المعرفية التي تقود بالتأكيد؛ إلى استمرار و بقاء المجتمع منفتحا؟ولعل موقفه الصارم كذلك من دوغماطيقية وحتمية النظرية الماركسية، تعكس دائما عن نفس المشروع الفكري .وإن ظل ماركسيا أو اعتبر نفسه كذلك؛ على الأقل لبعض الأشهر، كما كتب في سيرته الذهنية . لكن لأسباب ذاتية و أخرى موضوعية مرتبطة بشروط فكرية، تخلى نهائيا عن تصورات ماركس .
رفض بوبر، الاعتقاد الجامد كيفما جاءت منطلقاته أو اتجهت غاياته. بحيث مثل مبدأه المعرفي الشهير: قابلية التكذيب .سلاحا كبيرا لمواجهة التبرير الحتمي والمطلق الذي يمكن أن تتوخاه كل نظرية سواء كانت معرفية أو إيديولوجية.
و قد كان لظهور الفكري الإينشتايني مع نظريته النسبية من خلال الأفق المعرفي الجديد الذي كرسته، أثره الكبير على بوبر ليجعل من أينشتاين نموذجه النظري أو مقابلا موضوعيا لماركس. يقول بهذا الخصوص: ((سيكون لفكر أينشتاين تأثيرا راجحا على تفكيري الخاص لمدة طويلة ربما أكثر التأثيرات أهمية))(18) .
أوضح التصور الأينشتايني السهولة التي يستسلم بها الفرد لإغراء التوتاليتارية، وانقياده وراء الأنساق المغلقة. لذلك دعا إلى ضرورة إخضاع الفرضيات للتجربة،بحيث تكفي مجرد ملاحظة سلبية واحدة كي يتم الاعتراض على المسألة.
هناك كذلك واقعة شخصية، عاينها بوبر عن قرب أبعدته نهائيا عن الانجذاب أو التعلق بالنظرية الماركسية . يتمثل الأمر، في الحدث المأساوي الذي أدى إلى قتل كثير من الشباب الشيوعي و الاشتراكي، تظاهروا أمام المفوضية المركزية للشرطة بفيينا بإيعاز من الشيوعيين؛ قصد مساعدة بعض المعتقلين الشيوعيين على الهرب.لكن إطلاق رجال البوليس للنار اتجاههم، أودى إلى مأساة حقيقية :(( فزعتني وصدمتني شراسة البوليس، ثم نفسي كذلك. بحيث بدا لي كماركسي،أني أتحمل نصيبا من المسؤولية في هذه التراجيديا.أكدت النظرية الماركسية،على ضرورة تعضيد منطق صراعات الطبقات حتى يتم الإسراع بمجيء الاشتراكية. أقرت أيضا، بأنه إذا أسفرت الثورة عن ضحايا،فقد أغرمت الرأسمالية فعلا بهذا الموضوع أكثر من الثورة الاشتراكية))(19).ويضيف بوبر؛ بأنه:(( أدرك الخاصية الدوغماطيقية للاعتقاد الماركسي،و غطرسته الفكرية المذهلة. كان شيئا مرعبا، ادعاء نوع من المعرفة تقتضي المجازفة بحياة الآخر بهدف تحقيق عقيدة مقبولة بطريقة غير نقدية، أو سعيا وراء حلم قد لا يتحقق. إن ذلك يستوجب بالأحرى اللوم لدى مفكر، أي شخص يمكنه القراءة والكتابة. لقد كان محزنا أن يتم اقتناصي بتلك الطريقة))(20).
لاشك أن أهم ثوابت النظرية السياسية الماركسية، تأكيدها على أن الدولة مجرد أداة للهيمنة الطبقية؛ ووسيلة للاستغلال السياسي لصالح الطبقة النافذة اقتصادية. يفند بوبر هذا الطرح ، مدافعا بكل قوة عن وجود الدولة،لأنه يمكنها فعلا أن تقاوم المصالح الخاصة و تضع حدا لهيمنة السلط الذاتية.وفي جميع الحالات،لاتوجد وسيلة للفعل إلا عن طريقها.
كما يرفض بوبر؛ الخاصية اللاعقلانية للتاريخانية الماركسية،من خلال ميلها للثورات العنيفة.يمقت العنف، و يرى بأن تبني العنف الثوري أو الطريقة التي تقوم على انتظار الثورة؛ يضمر نوعين من الخطر :
1- من الصعب أن تتخلص ثورة؛ من ممارسة العنف على معارضيها .
2- يؤدي فشل الثورة إلى الفاشية؛ نتيجة الإحساس بالخوف.
لكن بالرغم من رصد بوبر لسمات قَدَرية ماركس السياسية. أشار كذلك إلى الخاصية الإنسانية التي تتضمنها هذه النظرية .
ما هو المجتمع المتعدد والمنفتح الذي يتوخاه بوبر؛وكذا ماهية شروطه السياسية و الفكرية؟فيشكل سدا منيعا أمام كل محاولة سياسية أو اجتماعية؛تتوخى الارتداد نحو المجتمع المنغلق .
قبل الحديث عن خاصيات نمطي المجتمعين. وجب الإشارة إلى مسألتين أساسيتين : من جهة، استعار بوبر مفهومي المنفتح و المنغلق من برجسون، لكن : (( بمعنى مختلف شيئا ما وحسب تمييز عقلاني و ليس ديني (…). للتذكير يتمثل المنفتح عند برجسون في كل مجموعة “أخلاقية، اجتماعية، الخ” . تنفلت من خنق دائرة القواعد المغلقة والصلبة ، ومنفتحة على طفرة الحياة و الإبداع ))(21).
من جهة أخرى، تحديده عصر الفيلسوف برقليس؛ بمثابة حقبة تاريخية أساسية بدأ فيها الانتقال من المجتمع المنغلق إلى المنفتح.
انتقال قد يهدده دائما زيف العقلانية الطوباوية، ثم وجود قوى تضمر باستمرار الحنين إلى هذا المجتمع المنغلق .
ما هي إذن أوجه الاختلاف والتعارض بين المجتمع المنفتح و المنغلق ؟
1) لا يفصل المجتمع المنغلق بين قوانين الطبيعة والتي جاء بها الإنسان. يقدس كثيرا الطابوهات و الإكراهات.
2) المجتمع المنفتح لائكي ، ينظر إلى المؤسسات كإبداعات إنسانية .
3 ) المجتمع المنغلق سلطوي، يرفض الفكر النقدي.
4 ) أهمية الفلسفة و العلم داخل المجتمع المنفتح.
5) يرفض المجتمع المنغلق كل إمكانية للتطور؛ متوخيا البقاء مماثلا لذاته.
6) يتطور المجتمع المنفتح باستمرار؛ رافضا كل سكينة أو مهادنة مع ذاته.
7 ) المجتمع المنغلق عشائري،لا يؤمن بالفرد. من تم ضعف تحمله الاختلاف والتعدد.
8 ) يمنح المجتمع المنفتح، الفرد قيمته العليا. مما يتيح لكل واحد الحق في أن يحدد بحرية اختياراته الشخصية، ولاتقوم مماثله أوتوماتيكية كما يعتقد البعض استنادا إلى زعم أفلاطوني بين الفردانية و الأنانية، لأنه بكل بساطة يمكن لمجموعة ما: ((أن تكون أنانية و الفرد غيريا، بل يمكن القول إلى حد ما بأن الآخرية تفترض الفردانية. ألم توضح ذلك المسيحية و الكانطية! بتعريفهما للأخلاق من خلال التعامل مع الآخر باعتباره غاية ))(22) .
يخلق الحنين إلى المجتمع المنغلق، إمكانية النزوع نحو التوتاليتارية، لأن الانتقال التاريخي من المجتمع المنغلق صوب المنفتح أدى إلى إحداث صدمة للوعي الإنساني. فهل توجد إذن خشية من إمكانية الارتداد نحو المجتمع المنغلق؟((ينجذب الإنسان حتما حسب التحليل النفسي وبشكل ارتدادي وجهة المرحلة الطفولية( بل و مرحلة – قبل الولادة).كذلك خلال كل مرة تظهر فيها صعوبة، يتم الانجذاب نحو نسيان الذات و الانصهار في الجماعة. و أيضا الرغبة في الاحتماء من طرف قوة فوق بشرية ذات تراتب طبيعي. كل ذلك يشكل نزوعا قويا))(23).
لقد شكَّل الخروج من المجتمع المنغلق “إزعاجا للحضارة”، و مازال البعض يحلم خاصة مع الفاشية و بكيفية أقل مع بعض الحركات الشيوعية،إلى بعث سلطوي لهذه الوحدة المجتمعية.
تكمن الوسيلة الأساسية حسب بوبر ، لكي نحارب ونهزم هذه الايديولوجيا التي تقوي الارتباط بالمجتمع المنغلق؛في دعوته الأفراد للنهوض بالمجهود النقدي و التشبث بالفكر الحر. هكذا يتكرس الإيمان الحتمي بالعقلانية النقدية؛ والتي أوجد لها قنوات على مستوى مجموع فلسفته أي فلسفة العلوم و الفلسفة السياسية. من أجل أن يحل العقل النقدي محل العنف. ونتعلم أساسا: (( قتل الأفكار بواسطة نقاش عقلاني عوض قتل دعاتها))(24).
يدعو بوبر بهذا الصدد إلى تبني عقلانية سياسية حقيقية،مقابل الصورة العفوية التي يمكن أن تكتسيها العقلانية المحكومة برؤية طوباوية، والتي باسم البحث عن تحقيق السعادة للجميع؛ ترتكب جرائم عديدة في حق هذا الجميع وتتم التضحية بأجيال و أجيال .