بقلم: زياد جيوسي
ذاكرة القدس في الفن التشكيلي الفلسطيني*
دوما وككاتب شبه متخصص ببوح الأمكنة وعاشق لها ولا يتوقف عن التجوال في الأمكنة والبلدات والقرى والمدن، لذا كنت أقول ما أشعر به: لكل مدينة عبقها ورائحتها ونكهتها، فالأمكنة كالنساء لا يمكن أن تتشابه أبدا، والقدس التي أعشقها عشق روحي من بين المدائن التي عشقتها في حياتي، لا تشابهها مدينة، ونادراً أن يقترب من أسوارها شخص ولا تترك أثراً كبيراً على روحه، وقد عشقها من لم يراها، فكيف بمن يدخلها ويجول دروبها وجنباتها هل يمكن أن لا يقع بعشقها، ومن هنا أحببت أن تكون مشاركتي في هذه الأمسية العمَّانية حول: ذاكرة المدن في التشكيل العربي، حول ذاكرة القدس في الفن التشكيلي الفلسطيني، لما للقدس من مكانة في قلوب العرب والمسلمين وفي أرواح وقلوب أبناء فلسطين وأنا الآت إليكم من رحاب الأرض المقدسة، أعتز أنه يندر أن نجد فنانا فلسطينيا لم تكن القدس حاضرة في نتاجه الفني سواءً كان في فلسطين وعرف القدس وعانقها أو كان في الشتات ولم تكتحل عيناه بالقدس..
وبداية لا بد أن أشير أني لست متميزاً باختيار هذه المادة، فسبق أن كتب عن علاقة الفن بالقدس العديد من المبدعين، وأشير بشكل خاص لدراسات كتبها الفنانون حسين نشوان والفنان غازي انعيم والفنان عبد الله أبو راشد وإن اتجهت هذه الدرسات إلى النقد الفني للوحات، والثلاثة فنانين ونقاد كبار من أصل فلسطيني، كما أشير إلى أنه ليس بالإمكان وحسب الوقت المتاح التحدث بشكل متخصص عن كل فنان ونتاجه فيما يخص القدس، ولكن أشير بشكل عام إلى أن من استلهموا القدس أو بالأحرى لمن ألهمتهم القدس لوحاتهم الإبداعية، برز لديهم بشكل عام عمق الرؤيا في الموضوعات في لوحات مزجت بين الرقة وعمق المعالجة وانعكاس حقيقي لما هو كائن في خيال الفنانين وعمد بعضهم إلى خلق مساحات لونية على أسطح اللوحات، ودلت اللوحات على أن الفنان واع تمام الوعي بالقضية المقدسية وحجم المعاناة التي تلحق بالقدس عامة والمسجد الأقصى خاصة جراء الانتهاكات الصهيونية فجاءت اللوحات من وحي خيالهم مرتبطة بقضية القدس، وفي مقاربة موضوعية لمستوى اللوحات التي شاهدتها للقدس أن الفنانين ربطتهم القدس؛ وغالبيتهم جددوا في الأساليب الفنية وأضافوا إلى أطياف لوحاتهم الكثير من الحداثة التشكيلية، بينما كانت اللوحات الأقدم عمرا تميل للمدرسة التقليدية والبعض لعبت المدرسة التجريدية دورها في لوحاته والعديد كانوا يلجئون للانطباعية والواقعية، وهي تجارب جديرة بالمتابعة تتمحور حول حركة الريشة والألوان والمواضيع المعبر عنها برمزية تجديدية.
ومن الجدير بالذكر أن الفنان التشكيلي الفلسطيني عبر عن وعيه مبكراً في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما أقامت الفنانة زلفى السعدي معرضا توسطت فيه القدس المحتلة لوحات بورتريهات لصلاح الدين الأيوبي وجمال الدين الأفغاني وغيرهم في أعمال غلب عليها الوعي السياسي، وهذا الموضوع أشارت له د. مليحة مسلماني الفنانة والباحثة في الفن التشكيلي الفلسطيني، وبعد النكبة مباشرة كان الفنان التشكيلي الفلسطيني يمارس دوره باعتبار اللوحة التشكيلية بعض من أساليب المقاومة، وبعد هزيمة حزيران ازداد هذا الوعي فنجد إبداعات الفنان إسماعيل شموط التي تناولت المسألة الفلسطينية بعموميتها والقدس بخصوصيتها، وكذلك اللوحة الأشهر للفنان سليمان منصور جمل المحامل (الحمال الفلسطيني يحمل القدس على كتفيه)، وظهرت تمام الأكحل وعبد الحي مسلم وغيرهم الكثير، وقد أدرك كيان الاحتلال دور الفنان التشكيلي فحاربه، وليس أدل على ذلك من أن قواته حين سقوط القدس عام 1967 اقتحمت بلدية القدس وأطلقت النار على لوحات الفنان إسماعيل شموط وأتلفتها، ومنعت العديد من المعارض التشكيلية وحاربت الفنانين وزجت العديد منهم بالسجون والمعتقلات.
إنها القدس التي كانت تجذب الفنانين سواء العالميين أو العرب وبالتأكيد أبناء فلسطين، وإن كنت أركز في هذه القراءة السريعة على دور القدس في الفن التشكيلي الفلسطيني، إلا أنه من الجدير الإشارة إلى أن المستشرقين رسموا القدس من القرن 16 حتى القرن الـ 20 بأهداف وأفكار مختلفة، وأشير هنا إلى لوحة رسمت عن القدس بريشة المستشرق الأسكتلندي ديفيد روبرتس عام 1830 وإن كان ذلك يدخل في إطار محاولة إثبات ما لم يثبت من إدعاءات اليهود والصهيونية حين سمّى لوحته سور الهيكل، في تزوير واضح لتاريخ القدس وكما فعل بعده العديد من المستشرقين مثل الألماني غوستاف باورنفايند الذي رسم الصخرة المشرفة والزخارف الاسلامية وأسماها جبل الهيكل، وكذلك العديد من المستشرقين المتأثرين أو العاملين على الفكرة الصهيونية.
من الفنانين التشكيليين الفلسطينين الذين تميزوا بلوحات عن القدس إضافة للفنانين زلفى السعدي وإسماعيل شموط وسليمان منصور،كان الفنان مازن عوكل والفنان توفيق عبد العال وغازي انعيم وحسين نشوان بمعرضه تنويعات عن مدينة الحلم الذي كتبت عنه قراءة نقدية مطولة، والفنانين علي الكفري ومحمد الركوعي وسليمان العلي وتمام الأكحل ود. محمود صادق وهو أيضا كتبت عن معرضين له قراءات نقدية مطولة، ونبيل العناني ورفيق اللحام وسامية الزرو ود. عرفات النعيم وجهاد العامري والدكتور علي الغول وياسر الدويك ومحمود طه ونصر عبد العزيز وحسين دعسة وسلام كنعان ومحمد الجالوس، د. وليد الجعفري ورائد قطناني ووائل ربيع وداليا أبو هنطش والأربعة أيضا كتبت عنهم قراءات نقدية مطولة والفنان عماد شتية، وطالب الدويك، والقائمة تطول لذا أكتفي بهذه القائمة المختصرة التي تمثل مراحل زمنية مختلفة من الجيل القديم وصولا إلى الجيل الشاب معتذرا لكل من لم أذكر اسمه، وهؤلاء الفنانين شكلت لديهم القدس بأبعادها الجمالية والوجدانية والتاريخية حالة خاصة، وتجلى ذلك في لوحاتهم ومن خلال معالجة اللون والشكل لمفردات المدينة المقدسة وتوثيق أحداثها ونمط العمران فيها، فهي من المدن التي نجد فيها أشكال معمارية تمثّل مراحل تاريخية من عهد اليبوسيين الذين بنوها مرورا بالمراحل المختلفة مثل البيزنطية والرومانية والعربية والإسلامية والمملوكية والخلافة الراشدة حتى الأموية والعباسية والأيوبية والعثمانية حتى اعتبرت آية في الفن والمعمار.
وأنا لست بصدد الحديث عن اللوحات كقراءات نقدية، فيمكن لمن أراد الاستزادة العودة للدراسات التي أشرت إليها، ولكني أشير أن كل فنان من الفنانين رسم انطلاقا من ذاكرته أو مشاهدته أو متابعته أو روحه بالصدق والحب، حيث نرى بناء مشاهد تشكيلية تتداعى فيها صور الواقع والخيال معاً، معبرة عن جماليات تم الاشتغال عليها تشكيليا، فكانت الروح تسير بالموازاة مع أساليب ومدارس الفن التشكيلي، فكل فنان رسم القدس كان يعبر عن هواجسه الفكــــرية في ألوان وأسلوب اللوحة وهو يحلق في فضاء الأشكال والألوان، فكانت هذه اللوحات جماليات قائمة على لغة اللون والإحساس الروحي والإبداعات التي منحته إياها ذاكرته الفنية التشكيلية، فكانت اللوحات سلاح مقاوم بالريشة في قوة المعنى والرسالة والرمز في مواجهة كل ما تقوم به دولة الاحتلال وكيانه من محاولة شطب الذاكرة وتزوير الحقائق والتاريخ.
*محاضرة القيتها بدعوة من الملتقى العراقي للثقافة والفنون في عمَّان، في أمسية وندوة حوارية تحت عنوان: “ذاكرة المدن في التشكيل العربي”، شارك بها عدة فنانين ونقاد وباحثين من الأردن والعراق.