الحقيقة تائهة دوماً، تُغلَّف على ذائقة الناقل لوناً ونوعاً وكمّاً حتى.
قبل اختراع التلفزيون والكومبيوتر، وفي زمن احتلال اليابان لكوريا وتجنيد الامبراطورية اليابانية للكوريين للقتال مع جيشها ضد الاتحاد السوفيتي والصين، فاز عدّاءٌ من كوريا الشمالية اسمه “سون كي جونغ ” على عدّة عدّائين بينهم منافس شهير من اليابان، وبما أنّ السباق جرى بحضور كبار ضباط الجيش الياباني وبرعاية الصحافة اليابانية تمّ اعتبار الفائز عداء اليابان، ورُفع العلم الياباني بدل الكوريّ في ميدان السباق، ولم يُعتبر الفائز الحقيقي من الرابحين الثلاثة الأوائل.
لو نحن الآن في زمن الصحافة المكتوبة لاقتنعنا تماما برواية الصحافة اليابانية، إذ أننا لم نشاهد مجرى الأحداث، لم نتابع حيثياتها، ولن يخطر في بالنا أبداً أن الرواية المنقولة جرى تقديمها وفق مزاج الصحافة اليابانية.
لاحقاً جاء زمن التلفاز، وصار الإعلام حكّاءً على مزاج الملوك والرؤوساء وزعماء الدول الكبرى، كل دولة تعتبر الآخر عدواً، فاشياً، نازياً، بربرياً، متوحشاً،امبريالياً، شيوعياً، إرهابياً…إلخ. وكل نظام يملك أسبابه القوية لشنّ الحروب ضد الآخر.
وكان دور المتابع البعيد غير المنخرط بحروبٍ مباشرة أن يساير موقف حكومته مما يجري على الصعيد الخارجي، أن ينضمّ لحلف ما ضد حلف آخر، وكلّ لديه حجته التي تدحض حجة الآخر.
في زمن النت، ضاعت الحقيقة بشكل أكبر، صار لكل رواية عدد لا نهائي من الرواة، كلٌّ وفقاً لثقافته وأهوائه وميوله السياسية وحتى العاطفية..
ولقد أصبح للصور المنشورة على مواقع التواصل سلطة طاغية، بسبب العلاقة الكارثية للدهماء مع الصورة، إذ أنّها أسرع، لا تحتاج منك للتوقف والتفكر والتحقق، والغالبية تستسهل، وليست معنية بالبحث والتقصي عن المعلومة الدقيقة.
هذا كلّه لعب دوراً فادحاً في مجريات الأحداث منذ عام 2010، مما دفع حكومات الدول العربية لحجب النت عدة مرات لأنها اضطرت للتعامل مع طروحات غير اعتيادية وغير مسبوقة؛ فالمواطن العادي لم يعد ينصت لقصة ذات سياق واحد ومنظور وحيد، وهذا يعرّض السياسيين لخطر كبير، لأنّ ما اعتادوا تلقينه للناس كان قائماً على كثير من المغالطات والخداع.
ويأتي حجب النت في العراق اليوم ليطمس جانباً كبيراً مما يجري، وليرمي الكرة مجددا في خندق “المؤامرة”.
لنفترض أن الآخر الشرير يتآمر دوماً على الحكومات والأنظمة العظيمة، إلى متى تبقي أحوال شعوبها تعيسة للدرجة التي تنساق فيها الشعوب بسهولة، مثلاً، إلى كل هذي “المؤامرات”؟!
هل الفساد الذي صار واجهة بلاد ما قبل التاريخ حصنٌ حصين ضد المؤامرات؟
هل إفقار وإذلال وتجهيل الشعوب مواقف وطنية من الأنظمة والحكومات التي تواجه المؤامرات؟!
بالعودة إلى الحقيقة:
لا حقيقة سوى الحروب، فالإنسان منذ قابيل وهابيل كائن عدائي، أما السلام فليس إلا استراحة بين شوطين. للأسف.
حزينة لأننا خلقنا في هذا الزمان العصيب.