نص الكلمة التي ألقيتها في حفل تكريم العالم الجليل الصديق الأستاذ محمد بشير زهدي يوم الأربعاء الواقع في 17/9/2014 في فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب ضمن الفعالية التي أقيمتة لتكريمه
أحسب أنه ليس بدعة أو من باب الترف أن نعنى بشأن روادنا ونعلي من شأنهم فذاك قدرهم؛ وهو حق مكتسب لهم، ولكن عندما تسبح ذاكرتي الممتلئة حتى الثمالة بعبق الكثير من العلماء والرواد الذين عايشتهم في مجال الآثار والمتاحف؛ أراني أخشع في محراب رقيهم وتضحياتهم التي قدموها حتى ضارعوا بل تفوقوا على أقرانهم من الغربيين الذين توفرت لهم كل وسائل التقنية…
اليوم؛ ما إن تدلف قدما الزائر للمتحف الوطني بدمشق، وتقع عيناه على المعالم الرابضة في حديقته، حتى يتمنى أن يقف الزمن لهنيهات يستذكر بها أولئك الرجال الفطريين العظماء الذين خلَّدوا لنا ما تم العثور عليه من بقايا تلك الحضارات، وتستدرج الذاكرة بعضاً من أولئك الخالدين أمثال: الأمير جعفر الحسني، الدكتور سليم عادل عبد الحق، عبد الحميد دركل، نسيب صليبي، الدكتور عدنان البني، أبو الفرج العش، مروان مسلماني، شفيق الإمام، عدنان الجندي، حسن كمال، والقائمة تطول… وتتوقف العين عند الغرفة القابعة في يمين مدخل المتحف الوطني اليوم، والتي كان يؤمها أحد الرجال الذين أفنوا عمرهم وزهرة شبابهم في خدمة هذا المعلم الذي لا يضاهيه معلم آخر في العالم، وهنا أجدني أقول: إذا كان الصمت في حرم الجمال جمال؛ فالحديث عن الأستاذ بشير زهدي رائد علوم التاريخ والآثار والفن والجمال أسمى من الصمت والجمال معاً…
سبعة وثمانون عاماً هي حصيلة عمر الأستاذ بشير زهدي اليوم، منها زهاء خمسين عاماً خلت قضاها هناك في المتحف الوطني بدمشق الذي كان بالنسبة إليه موئلَ نفسه ومرتع روحه، كنت كلما ترددت عليه في غرفته في المديرية أو المتحف فيما بعدُ أُبهر به وبخلقه وعلمه وثقافته وطيبته، كنت أزداد منه وهو يتحدث عن الشام أيقونة حبه الأكبر منذ عهود الفينقيين والآراميين والهلنست والرومان وفيما بعدُ عن الفترة الإسلامية حتى اليوم، وكان لاهتمامه ببعض اللغات القديمة كالفينيقية والآرامية ما سوَّغ له التوسع في دراساته الأثرية والتاريخية، حيث انطلق منها للميثولوجيا والأساطير والفسيفساء وفنون الزجاج عند بناة الحضارة السورية الأوائل.
وإذا ما تعمقنا بالنظر في متحف الآثار الكلاسيكية الذي أمَّنه الأستاذ بشير زهدي منذ عودته من إيفاده لفرنسا عام 1955 وحتى عام 2001، لوجدنا نتاج عمله الهائل الذي تمثل في تنظيم مجموعات المتحف بشكل علمي وفني، وتدوين مقتنياته عبر دراسات علمية موثقة ومقارنة، لأنه كان يرى في المتحف أداة تطوير وتنوير للمجتمع لا مستودعاً لتكديس التحف والآثار، وأنه -برأيه- أقرب لأن يكون جامعة شعبية لكل أبناء المجتمع، وبالتالي فقد أصبح المتحف بفضله مرجعاً يفيد منه كل الباحثين. وفضلاً عما تقدم فقد تخرج كمٌ هائل من طلاب كليات الآداب والهندسة والفنون الجميلة في جامعة دمشق من الذين نهلوا من علومه وخصوصيتها، وعندما كان ينفرد بنفسه في مكتبه، كنت تراه يكرس وقته في مجال البحث والتأليف حتى تجاوزت دراساته المحكمة مئة وخمسين دراسة علمية نشرت في كبريات الدوريات المتخصصة في أقطار عدة، ناهيك عن مشاركاته في أكثر من خمسة عشر مؤتمراً دولياً في علوم الآثار والمتاحف، ليكون بالتالي العربي الوحيد الذي نشرت أفكاره البحثية في أهم المجلات والمحافل الدولية، أما مؤلفاته فقد ناهزت العشرين كتاباً، وتوزعت موضوعاتها في التاريخ والآثار والجمال والنقد والفلسفة والفن، ولعل معالجته لعلم الجمال وتاريخ الفن ومواضيع أخرى نشرت في مجلة الحوليات الأثرية لم يسبقه إليها أحد، وإنها لبصمات لن تمحى من ذاكرة المختصين.
لقد تفضل القائد الخالد حافظ الأسد بمنحه وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الأولى عام 1999، كما منح وسام الجمهورية الفرنسية بدرجة ضابط “أوفيسيه”، ووسام الجمهورية الإيطالية برتبة فارس «شوفالييه».
أستاذنا الكبير: وأنت في كل يوم تكبر في قلوبنا، وقلوب كل من عرفك وأحبك، أطال الله في عمرك، ومنحك الصحة، وزادك ألقاً وبشراً وأنت البشير،
تحية عطرة من القلب للأستاذ بشير زهدي، وللأيادي البيضاء الشذية بعبق الياسمين التي قررت تكريمك اليوم، وثق يا سيدي أن أي تكريم لن يفيك حقك، لأنك سبقت تكريمنا لك فكرمت نفسك بما تركته لنا من طيب العلم، وحسن الأثر، والوطن لا ينسى أبناءه المبدعين.