كّيفما بذروكَ، أثمِرْ..
وليسَ الفن كالعقيدة، وليسَ كَالفِطرة!
أشبه ما يكون بالقتلِ اللحظي!
أن تلتهِمكَ التفاصيل، إلى أن تغرق بها تمامًا؛ حينها، تشبه الفيل الذي نظمَ القوافي لياليًا، أو حتى جالَ دجلةَ دُون استخدامِ جناحاته!
ستقول: أين يُخبئ الفيلُ طيرانَه؟!
أقول: هل يمكن أن يطير الفيلْ!
أقولُ مُجددًا: من يُدقق بعينِ الغَيمِ، يُدرِكُ ما أهذي!
والوطنُ كردية يُراقص نوح العصفور، ويحتلُّ قلبًا مكلومًا، يأسِر روحًا بالأزرقِ تلتفُّ.
يقول: لا صوتَ للضوء!
أقول: من خلقَ الحُزن؟! وكيف يُتقاسم الحُزن! ومن له الحقَّ بدمعِ المُقلْ!
يقول: تعلُّقنا بالحياة، أشبه بكدمات صارخة تدعوكَ له!
أنتَ مهما اتسعتَ في خيالك، لن تصِل حدّ تنطيق البيئة؛ ومهما كانت ذائقتك الموسيقية رفيعة، لن تُصغيَ لسايكوفسكي بترتيل يُشبه صرخاتِ المكلوم أرقًا.
قُلت: من يُداعب الروح نغمًا! من يخنق النغم!
كردية: بيتهوفن، ناظم الغزالي، صباح فخري، أُم كُلثوم، ريميسكي كورساكوف، موريكوني.
كيف يحيا الفنان؟! ليس النعت على وجه الإطلاق؛ بل مُخصص، كيف يحيا كُردية!
دونَ سماعِ صوت غياب الليل، بل على الترجيح، الذي يُشكك بأن هدوء الليل ضجيج القلب.
وما إن اختفى الضوء، انفجر القلب!
أَأخبروكَ يومًا، أنّ الخطّين المتوازيين لا يلتقيان على مدِّ البصر! أَأخبروكَ حينها أن الشمس لا تغيب! وأنّ الأُنفة والكبرياء ما هي إلّا خلق طريق جديد من البصمة الأبديّة!
مهما حاولتُ الخروج عن قافية الوصف، وجدتُ نفسي مُحاصرًا، إذ كيف يصف المُقيدُ المُطلق!
وكيف تُشرق الشمسُ فجرًا! وكيف تظهرُ المحبوبةُ حُلمًا، وتختفي واقعًا!
يقول: قلبي مرج وغزالة.
أقول: قلبه، غيمٌ ودرويش!
يقول: مهما ركضت لن تسبق القمر، إلّا حين يغيب.
أقول: ومن يُخبر الموج، أن ضَربَهُ قمرُ!
كلّما ناظرتُ لوحة، سلَبتني تمامًا، كما تفعل بنا أُم كلثوم، تُعيدنا لِمجدٍ غائب، نرتعش، نبتلُ كثيرًا، كَعصفور بليالي نوڤمبر، لا ريشهُ يقيهِ البرد، ولا المطر يُصغي لِصغر الحجم، فيهدأ ويستكين.
وهلَّ الفجر، فَتُسرع الفراشات لِتلهو بالنار، غير آبهةٍ بالإحتراق!
هكذا نحن، ناظري لوحات رُسمت بعد عشرات الدراسات، رسمةً تِلوَ الأُخرى، تكتشف ذاتًا بِك مُخبئة، إذْ ليست الطفولة وشمًا على الكتف، أو ضّربًا من خيالْ.
إنها تكاد أنْ تكون فراشة! وأثرُ الفراشة لا يزول.
يقول: أحيانًا أقف على حُلمي دونَ أن أنتبه.
تقول له كوكبُ الشرق: أهرب من قلبي أروح على فين!
يقول الغزالي: عيرتني بالشيب وهو وقار، ليتّها عيّرت بما هو عارُ.
ستقول أنتْ: ما علاقة ما يقول، بِما قالوا!
إنها الميتافيزيقيا تمامًا يا عزيزي، الحديث الذي تُخفيه الطبيعة تُخفيه الأشجار، كما تُخفي العاشقين بلوحةِ المَجدِ.
ونُصغي، كما نُمعِنْ.
عليكَ أن تُمارس فعل الخشوع بلوحاته، لا كما تعودت، بل كما سيدفعك “الفصاعين” لِحياتهم.
ستُلاحظ أنّ هُنالك فيلًا! ستتساءل ببراءةٍ مثلي، لماذا فيل وليس غزال؟!
ستُجيبك السمكة: لماذا غزال وليسَ ديناصور!
إننا حينَ نخرج من صوت المدافع، ورائحة الدم، وطعم الحروب- نُدرك أننا لم نعِشْ الحياة، بل اِنقَدنا لِتقديس فعل الموتْ، لِلصراع بين الواقع والخيال.
وخسائر هذه الحرب التفاصيل، التي لن تراها بعينك المُجردة، بل بِقلبك المكلوم.
هكذا تدفعنا التعريفات لِتقييد كُل شيء، فيصرخ كُردية رافضًا الأسر والقيد، عازمًا على إشعال حُزمة فريدة من الحُرية، تُدعى الحُلمْ.
نحنُ جميعًا، النصوص واللوحات، البحر والسماء، الفراشة واليرقة، الخوف والفرح، المُقل والرصاص- ثمار ولسنا أشجارًا.
لَرُبما نكون بلا أغصان، وُجِدنا بالهواء، هكذا، كَما يُطيرنا كُردية معه!
الفكرة قيد، الوقت قيد، الحُزنْ قيد، المعرفة قيد، الرأي عبء، الإحساس خيال، والخيال موت.
هل تعيش وجهة نظر مُختلفة عن الحياة!
أنًا لا تُشبهنا!
مخلوقٌ فضائيٌّ حطّ على مجرتنا!
يّرقة داعبت النار، ولم تُصبح رمادًا!
ياسمينة صفراء برائحة النرجس!
حدائق بابل!
أسوارُ عكا!
بحرٌ ميتٌ بأكنافِ السراب!
_ أعيش حُلمي بِكُلّ تفاصيله.
الفن آسر.
يسلبنا منا، يقضمنا، يُفرغنا من فطرةٍ مُهانة، يُحيينا على حربٍ مُقامة.
الفن قاتل.
يدفعنا لِنلتف خلف بوابة الأيام، ظانينَ أنه كُلّما تقادم، تعتّقْ.
الفن، كردية.
كُلّما أضعت نفسك، ابحث عن طريقٍ للعودة، اصعد قِمم الجبال، وارتمِ بأحضان الشواطئ، وعانق الغيم، صافح قوت الحمام.
وفكر بغيرك.
كما قالها درويش قصيدة، وكُردية لوحة، وكيان نصًّا.