اعتاد المخرج الجزائري حميد بن عمرة السباحة ضد تيار السينما السائدة في العالم العربي، وكان أحدث أفلامه “تايم لايف” الذي عرض في مهرجان موسكو السينمائي أبريل/نيسان 2019، الفيلم العربي والأفريقي الوحيد بهذه التظاهرة السينمائية بالغة الأهمية.
وقال بن عمرة إن هذا الفيلم يأتي مغايراً لكل التجارب التي قدمتها السينما العربية في السنوات الأخيرة سواء على مستوى السرد أو الشكل؛ حيث يتناول رؤيته للعالم والحياة من خلال مشاهد حقيقية صورها بنفسه لحمل وميلاد زوجته الممثلة الفرنسية ستيفاني بن عمرة.
وكشف بن عمرة في حواره لـ”العين الإخبارية” عن تفاصيل تجربته السينمائية في “تايم لايف” التي استغرقت تصويرها نحو 10 سنوات، وشارك فيه كممثل، المخرج السوري الكبير محمد ملص، كما يكشف عن الصعوبات التي واجهته في إنجاز تجربته شديدة التفرد.
كيف ولدت فكرة فيلم “تايم لايف”؟
عندما تعيش مع ممثلة تحلم بالولادة بالبيت من غير طبيب مختص، فإنها تجعل منك الطبيب المختص والأب والعشيق وكل رجال العالم، عندما تعيش مع ممثلة تنافسك في جزائريتك وفي مصريتك وفي فلسطينيتك وفي أبجدية عربيتك فإنك تعيد النظر في مفهوم الهوية والوطن، لتصير هي جواز سفرك وحدود موطنك.
أن تضع العدسة على امرأة طافت العالم فعلاً على متن باخرة مدة 3 سنوات فإنك تبحث حتماً عن ميناء يرسو فيه حبك عندها، علاقتي بستيفاني أكثر من علاقتي بأي إنسان آخر، لأنها الزوجة والرفيقة بالمفهوم السياسي، والأم والأخت والعشيقة والمنافسة لكل نساء العالم، إنها علاقة الصورة بالوجه، وعلاقة المصور بالممثلة وعلاقة الكاتب بالدور.
الحب مسرح إبداعي لا تنتهي فصوله، وحقل ملغم لا تنتهي من تفكيك ألغازه، الحب نسيج لا يفهمه إلا من كان ماهراً كدودة القز في فرزها لخيوط الحرير في هذا الفضاء الملهم، بدأت كاميراتي تتجرع نكهة السرد الممتد الذي لا يبني فيلماً حسب سيناريو مقرر، وإنما العدسة هي التي تفرض كتابة سيناريستيكية متواصلة .
في هذا الجو قررت تصوير الحمل بكل جوانبه الميتافيزيقية والبدنية والروحية، وانتبهت إننا جميعاً حاملون لهدف وفكرة أو مشروع، لكننا لا نعرف دوما متى ومع من نلد.
هل من المعقول أن يستغرق تصوير الفيلم نحو 10 سنوات؟
إنه انهماك في المادة الفيلمية وإدمان على الإطار، العالم لا يفرض صوره عليّ في عشوائية مفترسة، لأني أنتقي منه الواقع باستمرار ما يروي فضولي بالكاميرا أو من دونها، العين تنحت من الصورة العامة فقط ما تحتاجه يومياً من معلومات ضرورية، وأولوية الكاميرا هي امتداد لبصيرة دقيقة ولا أتنقل دون عدسة أو اثنين وحتى ثلاثة في بعض الأحيان، قد أخرج إلى البحر دون سيناريو مسبق، أو أتنقل إلى مدينة في أمر إداري بحت، لكن في الطريق قد يحدث أو لا يحدث شيء مهم بصرياً، هذا التأهب الدائم يتحول إلى طبيعة وطريقة في العيش.
التصوير اليومي يزيد في حدة المهارة وسرعة التنفيذ، هنا لا بد أن نفرق بين التحضير قبل التصوير، والتصوير كعملية تنفيذية لتصميم مدروس لقصة وسيناريو تم الاتفاق فيه مع الجهة الإنتاجية، التحضير يعني البحث عن التمويل وتحديد أماكن التصوير، واختيار فريق العمل والممثلين قد يحتاج إلى سنوات، لكن غالباً ما يكون التصوير في أسبابيع معدودة، و”تايم لايف” هي كلمة لا وجود لها بالإنجليزية، منحدرة من كلمة “تايم لاين” أي تراكم الصور على شكل خط بياني في حاسوبك، والذي يكون عدد اللقطات التي تتقدم بها في سرد فيلمك.
هنا السيناريو والتحضير والتنفيذ تم في آن واحد، وتم أيضاً في زمن كنت أصور فيه أيضاً أفلاماً أخرى، لذا وجدتني أصور ثلاثة أفلام أو أربعة في آن واحد، وكل مشروع يفيد ويغذي حتما الآخر، بهذا الشكل أتقدم كل عام بفيلم جديد رغم محدودية الدخل وانعدام الدعم تراكم الديون، إنه قرار سياسي فني، أن يكون الفيلم أهم من أن ينجح تجارياً، لأني لست بائع أوهام ولا مصمم سيناريوهات حسب المقاس، لأن الحياة والسينما تنصهران في مفهوم واحد، لأن التفكير اليومي في أبسط الأشياء سينمائي شكلاً ومضموناً، كل حوار مع أي تاجر أو ساع بريد أو صاحب محطة بنزين مصدر للإلهام، كل كلمة قد تولد تداعي أفكار غير متوقع، وفيلم “تايم لايف” هو بناء هندسي ركبت فيه المشاهد وكبرت مع كبر الأطفال، ونمت الأفكار مع نمو الجنين وتطور الحمل، وكان لا بد من إتمام العمل لأنك لا تنجب حسب مخطط معين، وإنما حسب إرادة وحرية المرأة وقراراتها المتقلبة والمستحيل تكهنها.
الكاميرا تصبر وتترقب، لكنها لا تتحايل، ولا تتلصص، ولا تدرس، وإنما تصور بتأني تتراص فيه الثواني بالدقائق بالأعوام، ويتحول الزمن الى موجة تسمع صداها، ولا ترى أين تبدأ؟ وأين ستصل بك؟ عندما تجد نفسك في جوفها.
ما أبرز الصعوبات التي واجهتك أثناء تصوير “تايم لايف”؟
شيء واحد ما زال ماثلاً أمامي حتى الآن، خوفي على “ستيفاني” في ثقتها من نفسها، كنت أعرف أن أي شك يراودني قد تشعر به لا محالة، وهذا قد يخل بمجريات الأمور، ويشنج جسدها، كنت خائفاً دوماً، لكني تمكنت من عدم إظهار أي نبضة اضطراب أو أي رجفة عين تخون وجهي، “ستيفاني” لا تصرخ، لا تمثل على نفسها دور البطلة الحامل، كنت أصورها حسب ما يتاح لي، وحسب ما يمكن آخذه، لكن الفيلم ليس إكلينيكياً حول كيفية الإنجاب، لم أستعمل كاميرات ثابتة تترصد كل زاوية رغم توفر عدد يفوق الخمسة منها، لأني أردت دوماً أن تكون عيني هي التي تكتب هذه اللحظات وليس كاميرات المراقبة، والولادة بالفيلم هي اللقطات الوحيدة الحقيقية التي لا تمثيل فيها، لذا الفيلم روائي يستعمل الواقع لصقله في قالب روائي بحت.
كيف استطعت إقناع المخرج السوري الكبير محمد ملص بالظهور في الفيلم؟
أذكر جيداً عام 1992 بمهرجان قرطاج حينما عرض محمد ملص فيلمه “الليل” في نسخة عمل، وصورت تقديمه للفيلم مع ممثليه، لكني لم أتعرف عليه وقتها، واكتفيت بإشعاع “الليل” وتفرد سرديته، فليس مهما متى وأين تلتقي الأشخاص؟ بل كيف تنصهر ببعضها الحساسيات وراهفتها؟ أنت لا تقنع قامة مثل محمد ملص بالتمثيل لأنه لا يحتاج إلى تبرير منك، لكن تقدر وتفرح عندما يضع عينه على عملك ويعترف لك بأصالته وقيمته، “ملص” لا يثمن الأنا، ولا يتاجر باسمه، كما لا يتعامل مع السينما باستعلاء، لأن صراحته وشجاعته تمنعانه من السكوت عن التعبير عن الحق مهما كان.
عندما يسافر إليك رجل مرتين في سنة حاملاً سنوات من الأفلام على كتفه من دمشق إلى بحر النورماندي عابراً براً حتى بيروت، رغم خطورة الطريق، هذا بذاته فيلماً كاملاً، نحن أمام حب سينمائي وإنساني نادر، أنت لا تقنع “ملص” بجديتك أو مهارتك لأنه يفرز تلقائياً من بضع لقطات أين اتجاهك الفيلمي، وإلى أي أفق يتوجه بصرك، لم يكن حضوره الأول بهذا الفيلم، وإنما الأكبر بكبر مقامه ووزنه، لأننا نجده بفيلم “هواجس الممثل المنفرد بنفسه”، وبفيلم “حزام”، وكل مرة كان يتقدم في الإطار بشكل اوسع، في فيلم “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” كان تنويها يذكر باللقاء الأول بتونس، وفي فيلم “حزام” كان صدى ينافس الراقصات أمام المرآة في تعاملهن مع الذات، وفي “تايم لايف” حان له الوقت أن يفرض وجوده وحبه للعدسة بشكل غير مسبوق، إنه ممثل قوي لا يحتاج إلى توجيه، فهو يتكهن أبعادك فيعطيك أكثر مما تريد.
لماذا لم يشارك الفيلم في مهرجانات عربية حتى الآن ؟
الفيلم لم يقل كلمته الأخيرة لكنه يواجه تغييباً متعمداً، لأني أجيد نقل الخبر وإيصاله إلى الجميع وفي وقته، ومن لا يعلم إما يكذب أو فعلاً بعيد عن الحياة السينمائية كل البعد، ألا يتفحص العرب ما يحدث في مهرجان موسكو وما يجري فيه هذا أمر محير فعلاً، ولا يبشر بأي خير في السينما العربية والأفريقية، لماذا شخصياً أنقب في كل مهرجان عن كل كبيرة وصغيرة فضولاً وحباً للمعرفة؟ رغم أن هذا عمل الناقد ومدير المهرجان والموزع، فالموزعون العرب يعتقدون أن الجمهور العربي أبله، فيستهبلونه في عرضهم له أفلام الساندوتشات والفكاهة التي انتهت مدة صلاحيتها، يعتبرون أن السينما التي لا تتعامل مع النجوم ليس بها العدد الكافي من القبلات والنكت قد تنسف بميزانية قاعاتهم، المهرجانات العربية بأوروبا عموماً لا تريد عرض أفلامي كلها بسويسرا وهولندا وبلجيكا وألمانيا لم يقبل فيلم واحد لي عندهم، رغم اختلاف الموضوعات وجودة الإخراج وتفرد الشكل.
هل يعقل أن فيلما بهذا الوزن يطلب منك أن تسجله بالموقع الرسمي؟ كأنك تتقدم بأول فيلم قصير، لم يسجل الفيلم بالموقع الرسمي بمهرجان موسكو، فهل يعتقد مديرو المهرجانات العربية أن الروس حمقى الى هذا الحد؟ الفيلم أكبر من عدة مهرجانات عربية خاصة الموجودة بأوروبا، كلهم يعرفون ذلك جيداً لكن القبح أكبر من تفكيرهم فيكفرون بالإبداع لصالح لوبي ما زال يمتص الدماء لكنه هالك قريباً جداً لا محالة.
الفيلم مغاير تماما للسينما السائدة على المستوى العربي، كيف ترى فرصة مثل هذه النوعية في المنافسة عند العرض التجاري ؟
الفيلم مغاير لكل السينما وليس العربية فقط، الكثير لا يعرف أن أول فيلم لي كان روائياً عام 1981 ومدته 55 دقيقة، صورت بعده 5 أفلام أخرى حتى عام 1985، فأنا أمارس السينما فعلاً منذ ذلك الزمن، أي لم أتوقف يوماً عن مشاهدة فيلم والتمعن فيه، أو آخذ صورة أو لقطة، لم أعش منذ تلك الفترة دون معدات، لا تفارقني السينما، فهي زادي وقوتي وظلي ورفيق الدهر، ومعرفتي بالمادة الفيلمية كبيرة وفي سن مبكرة تفقهت في السيميولوجيا والنقد وكتابة السيناريو، وكنت على إلمام بدقة بالسينما الروسية والأمريكية والمصرية والأفريقية، لأن الجزائر كانت تعرض كل هذه السينمات.
الفرصة لن تكون للفيلم بل للجمهور لكي يطل على نافذة مشرقة، الفيلم فرصة للقاعة كي تتباهى بإطار دقيق كل صورة فيه قطع محيطها شفرة سكين حاد، الفرصة للمنتج أن يخرج من روتين مطاردت السيارات، والقصص التي فقدت طعم سكرها، ثم إن أفلام كوبريك وهتشكوك لم تكن مربحة إطلاقاً عدا فيلمين أو ثلاثة منها، فالسينما لا يتم تقييمها بشباك التذاكر لأن المشاهد المدمن يدخل السينما مهما كان الفيلم.