“حتى الفلكلور أتانا من فلسطين، الدلعونا والزلف والدبكة كله أتى من فلسطين وانتقل من لبنان إلى سوريا” (1)
(الموسيقار اللبناني ملحم بركات)
في واحدة من مقابلاته الأخيرة قبل وفاته، بدا ملحم بركات، الموسيقار اللبناني المعروف، واثقا جدا عندما قال كلماته السابقة، والتي لم تكن “كليشيه” أو خطابا عاطفيا في حب فلسطين، لكنها كانت تعبيرا عن حقيقة لم تبرز كثيرا في عالم الفن والموسيقى. حقيقة أكدها الموسيقار في مقابلة أخرى بقوله: “نحن لم يكن عندنا شيء، وصلنا الفولكلور من فلسطين، وحصل أن البعض لم يعجبهم هذا الرأي أيام حياة الفنان الكبير زكي ناصيف، فاتصلوا به وإذا به يزكّي كلامي”، وليؤكد الموسيقار الراحل أن هذا الإرث الفني انتقل بعدها إلى سوريا، وبغداد، ثم مصر. (2)
كلماتُ بركات أعادت فتح باب واسع على الفن الغنائي والموسيقي الفلسطيني القديم، والذي غاب كثيرا عن الواجهة، لكنه استطاع أن يحافظ على بعض من رونقه الكبير في كل مرة يذكر فيها اسم فلسطين في ساحات الفن، ففلسطين التي لم تغب قضيتها عن موسيقى شعبها وغنائه كما عن عقله وقلبه، لم يغب فن أبنائها وموسيقاهم أيضا، وكانا حاضرين في شتى المناطق التي لجأ الفلسطينيون إليها بعد نكباتهم المتلاحقة.
ولو حاولنا العودة قليلا إلى ثقافة الشعب الفلسطيني وفنه، سنجد، ونكتشف، الكيفية التي ارتبطت بها أغاني الفلسطيني وموسيقاه بعمق المكان والوطن، والذي استحال فيما بعد زمانا وذكريات حملها الفلسطينيون في عقولهم وذاكرتهم الفردية والجماعية أينما ارتحلوا. فالظروف المتعاقبة، من حروب وتهجير، ألقت بظلالها الثقيلة على الموسيقى الفلسطينية الشعبية وغير الشعبية، لتكون بمنزلة توثيق للوطن المحتل، ولرحلات التهجير، منذ مطلع القرن العشرين، وصولا للزمان الذي نعيشه الآن. (3)
بأخذ نظرة بانورامية على المشهد الموسيقي الفلسطيني، سنواجه حاجز الجغرافيا ماثلا أمامنا، كسد يعيقنا عن ربط الموسيقى بالهوية الجغرافية، خاصة بعد النكبة والتهجير عام 1948، وذلك يرجع إلى أن الفلسطينيين عندما هاجروا حملوا معهم الكثير من أعمالهم إلى المهجر، فقد كانت مدينة يافا الفلسطينية قبل النكبة -على سبيل المثال- مركزا موسيقيا مهما يجذب أهم المطربين العرب، خصوصا المصريين منهم، لتُمثّل محطة البدء في جولتهم الموسيقية تجاه المشرق العربي. (4)
وقد كان الموسيقيون الفلسطينيون محظوظين على الصعيد الفني خلال القرن العشرين، حيث أُنشئت العديد من المدارس المسيحية الغربية حينها، والتي جاءت بالموسيقى الغربية الكلاسيكية وعلم كتابة النوتة الموسيقية، وهو ما فتح المجال أمام الموسيقيين الفلسطينيين للتبحّر في مجال التأليف الموسيقي، فكان الرهبان الفرنسيسكان أول من علّم الفلسطينيين الموسيقى على اختلاف مراحلهم العمرية بغرض تحضيرهم للعزف في الكنائس، وتعلم على أيديهم الكثير ممن أسهموا في الموسيقى الفلسطينية بعد ذلك، كسلفادور عرنيطة الذي أكمل دراساته الموسيقية في إيطاليا وعمل على نشر الموسيقى الكلاسيكية في فلسطين. (5)
على الجانب الآخر، كان لدراسة كثير من الموسيقيين الفلسطينيين في معهد فؤاد الأول في القاهرة دور كبير في تأسيس القاعدة الصلبة للموسيقى الفلسطينية لاحقا، إضافة إلى المدرسة الأهلية التي لعبت دورا مهما فيها، حيث يروي الموسيقي واصف جوهرية في مذكراته عن حياة موسيقية مزدهرة عاشتها فلسطين خلال الحكم العثماني وما بعده في عهد الانتداب البريطاني، الأمر الذي أكده الباحث نادر جلال حين قال إن فلسطين خلال الثلاثينيات كانت تقتني أكثر من 20 ألف “غرامافون” كانت موزعة في الأماكن العامة، مما يدل على اهتمام الفلسطينيين حينها بالموسيقى. (6)، (7)
مع تسارع النشاط الإذاعي، بدأت في فلسطين مرحلة موسيقية جديدة، خاصة وأنها احتضنت اثنتين من أهم الإذاعات التي كانت تبث في الوطن العربي خلال القرن العشرين، وهما إذاعة القدس التي تأسست عام 1936، وإذاعة الشرق الأدنى التي تأسست عام 1941، واللتان أنشأتهما بريطانيا خلال فترة الانتداب، وكانتا سببا في جذب الموسيقيين والفنانين العرب في ذلك الوقت. وفي واحد من تسجيلات المطرب محمد عبد المطلب، قال إنه حينما لم يجد نجاحا في القاهرة لجأ إلى فلسطين، واستطاع تحقيق شهرة عاد بعدها إلى مصر ليتابع نجاحه وشهرته الكبيرة. لم يكن المطرب عبد المطلب وحده من صنع شهرة عظيمة عبر الإذاعات الفلسطينية، بل امتدت لتطول أسماء أخرى، أمثال الموسيقار الكبير محمّد عبد الوهاب، ورياض السنباطي، وأسمهان، وفتحيّة أحمد. (8)
خلال تلك الفترة، طفا على سطح الحياة الموسيقية الفلسطينية الكثير من المطربين والموسيقيين الفلسطينيين، الذين كان لهم لمساتهم في العالم الموسيقي العربي بعد ذلك، خاصة في البلدان التي هاجروا إليها، أمثال: صبري شريف، وحليم الرومي، وواصف جوهرية، وروحي خماش، ورياض البندك، ويحيى اللبابيدي، والمطرب محمد غازي، والمطربة ماري عكاوي، وغيرهم الكثير. (9)
بعد نكبة عام 48 وتهجير الفلسطينيين إلى الدول العربية المحيطة، أصبح الموسيقيون الفلسطينيون على موعد مع آلاتهم الموسيقية في أماكن جديدة خارج أستوديوهات المدن الفلسطينية، فانخرط كبار الموسيقيين الفلسطينيين في العالم الموسيقي للدول التي هاجروا إليها، بل وأنتجوا أغاني وموسيقى وطنية خاصة بها. كان رياض البندك أحد الأسماء البارزة، حيث كان يتنقل بين لبنان ومصر وسوريا، وقام بتشكيل الفرقة الموسيقية لإذاعة دمشق، وأسهم في إذاعة “صوت العرب” التي نشأت بعد ثورة يوليو، وقام بإصدار العديد من الأناشيد العربية العامة كأغنية “هلموا يا شباب العرب” و”السهول والربا”، ولحّن الأغاني لكبار الفنانين أمثال رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وكان منهم أيضا وديع الصافي الذي لحن له أغنية “يا عيني عالصبر” التي تعتبر واحدة من أشهر أغانيه. (8)، (9)
وفي قصة أخرى، كان الموسيقار حليم الرومي يصنع مجدا من نوع آخر، الموسيقار العظيم الذي غاب كثيرا عن أضواء الإعلام والفن الحديث، بدأ حياته كزملائه من إذاعة الشرق الأدنى، التي انتقل منها إلى مصر ليلقّب وقتها بـ “خليفة أم كلثوم”، ثم عاد لينتقل إلى لبنان ويرأس قسم الموسيقى في الإذاعة اللبنانية، وليكون الرومي مكتشف واحدة من عمالقة الفن العربي، وهي “جارة القمر” السيدة نهاد حداد، التي عرض عليها فيما بعد اسم “فيروز”، ولحّن لها أولى أغنياتها بعنوان “تركت قلبي وطاوعت حبك” عام 1950، وبعدها لحّن لها أغنية “في جو سحر وجمال”، ثم لحّن لها وشاركها الغناء في أغنية “عاشق الورد”، ليقوم بعدها بتقديمها للأخوين الرحباني. الغريب هنا أن عاصي الرحباني لم يكن مقتنعا آنذاك بصوتها، الأمر الذي تلاشى بعد إقناعه من قِبَل الرومي، كما أن إبداعات وإسهامات الرومي امتدت، ليكون أول من لحّن قصيدة الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي “إرادة الحياة”. (10)
الأسماء الفلسطينية التي ظهرت في التاريخ الموسيقي العربي كثيرة، لكنّ واحدا منها كان صبري شريف، الموسيقار الفلسطيني، الذي عُرف بـ “العقل المدبر” لنهضة الأخوين الرحباني، حيث كان صبري شريف هو من نقل إليهم فكرة التطور الموسيقي المبني على الفلكلور المحلي، لا على فنون الآخرين، وأن هذا التطور ينبغي أن يأتي من قلب الثقافة، ليكون له دور كبير في تطور الموسيقى اللبنانية بصورة عامة، وبشكل خاص موسيقى الرحابنة، وبقي مديرا لفرقة الرحابنة حتى الأيام الأخيرة من حياته. هنا، يمكننا القول إن الموسيقى الفلسطينية -عن طريق صبري شريف- كانت حاضرة في صميم الموسيقى اللبنانية في قمة مجدها، وكان مما صرح به منصور الرحباني قوله: “أريد أن أشهد، للتاريخ، أن لصبري الشريف، هذا الرجل المبدع، فضلا عظيما على الموسيقى اللبنانية”، وقد أكد الناقد الموسيقي اللبناني إلياس سحاب صحة هذه العبارة. (8)
في هذا السياق، يقول الموسيقار اللبناني زكي ناصيف إن صبري شريف قد أخرج غالبية أعمال الرحباني الغنائية، والتي كان من ضمنها عمل فلكلوري بعنوان “أيام الحصاد”، وهو عبارة عن مشهد فلكلوري عن عرس الضيعة، وأول عمل مسرحي لفيروز في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1957، ومما ذُكر عن تلك الليلة أن صبري شريف تعمد إظهار فيروز وهي تقف على أحد أعمدة القلعة المضاء باللون الأزرق وتصدح بأغنية “لبنان يا أخضر يا حلو”، الأمر الذي صنع لوحة عظيمة مُزجت بتأثر الجمهور العاطفي في مشهد لا يُنسى من الذاكرة الموسيقية. (11)
وليس ببعيد عن مصر ولبنان وفلسطين، حيث تحضر بلاد الرافدين التي رفدت العالم بموسيقى وموسيقيين عظام، كان الفنان الفلسطيني روحي خماش الذي هاجر كغيره من أولئك الذين ألقتهم النكبة خارج حدود بلدهم، وحط في العراق ليكون واحدا ممن رفد بلاد الرافدين بأفكار وفِرق ما زالت آثارها إلى اليوم، فـ “الخماش” الذي كان يفكر دائما في تطوير آلة العود، أضاف وترا سابعا من أجل تسهيل ارتجال الأنغام والحصول على أصوات كاملة، وهذه الإضافة فتحت الباب في ما يمكن تسميته بـ “الاستثمار الأفضل في المساحة الموسيقية”، وإظهار الجمل الموسيقية بصورة وصيغة جمالية عبر إضافة صوت جديد للعود، والذي يعتبر واحدا من أهم الآلات الموسيقية الشرقية. (12)
إضافة إلى الوتر السابع، عمل “الخماش” على تطوير الفرق الموسيقية العراقية فأضاف للحركة الموسيقية العراقية الكثير، من خلال إنشائه فرقا موسيقية عظيمة عملت على تطوير التراث الفني الموسيقي العراقي، كفرقة “الموشحات” التي أصبحت تُعرف بفرقة “أبناء دجلة”، وفرقة “الموشحات الثانية” أو فرقة “الإنشاد العراقية”، وفرق أخرى تركت بصمتها الواضحة في فن الغناء والموسيقى في العراق. (13)
هذه الأسماء الكثيرة ليست إلا بعضا من أسماء الموسيقيين والفنانين الفلسطينيين الذين بنوا موسيقى فلسطينية كانت لحنهم الحنون قبل نكبتهم، لكن الإضرابات، والاقتلاع الذي جرى بعدها، جعل كثيرا منهم يلقون آلاتهم الموسيقية على جانب الطريق، بينما جعلت آخرين يحملونها مع أمتعتهم التي هاجرت معهم، فأسهموا في تطوير الموسيقى في البلاد العربية التي هاجروا إليها.
إبداع فلسطيني لم يقف من حيث الزمان عند حدود القرن الماضي، ولم يقف من حيث المكان والجغرافيا عند حدود فلسطين. حيث استطاع الفلسطينيون إحداث قفزات فارقة على صعيد المعاهد الموسيقية والفرق والمغنيين، والذين كانوا قادرين على اللمعان في سماء الفن الغنائي والموسيقي العربي، والعالمي، حتى يومنا الحالي.
الموسيقيون والفنانون الفلسطينيون من خلال موسيقاهم استطاعوا أن ينقلوا “فلسطين” معهم في الأماكن التي حطت رحالهم فيها، واستطاعوا أن يحفظوا اسمها بين سطور النوتات والمقطوعات والكلمات التي نحتوها بفكرهم الموسيقي الإبداعي بشهادة النقاد والباحثين، لأن الموسيقى القادرة على بناء جدران الصمت في اللحظة التي تبدأ فيها ثانيتها الأولى، قادرة أيضا مع الوقت على توثيق الكثير من ذكريات وتراث وآمال الوطن المحتل.