من عهد الأصدقاء وريمي، إلى جرندايزر والكابتن ماجد، كبر معظمنا وشبّ وتفتحت عيونه على العالم عبر الأنمي. مرت السنوات، وما زال ارتباطنا بذلك الفن الذي سكن شاشاتنا طوال جيلي التسعينيات والألفية قويا. لكن الأنمي، كما اكتشف معظمنا بعدها، فن لا يقتصر على الأطفال فقط، فعبر تاريخه الطويل الذي امتد منذ عام 1917 وإلى الآن، كوّن فنانو الأنمي ذخيرة قوية من أعمال استغلت حرية الخطوط والألوان لتبث فيها أفكارا ورؤى يمتزج فيها الفن بالفكر، والإبداع بالعمق.
ففي فضاء الأنمي الحر، حلّق الفنانون بجموح، اختار الكثير منهم أن يخلق عوالم غريبة بقواعد خاصة قد لا يبدو أنها للوهلة الأولى تشبه عالمنا في الشيء الكثير، لكنها في حقيقة الأمر لم تكن سوى محض نسخة أكثر تطرفا منه يبث فيها صانعها نقده لعالمنا المعاصر؛ بينما آثر البعض الآخر أن يلتزم بالواقع كما هو، يحاكيه بدقة لا تخلو من الخيال، ويسلط الضوء على متعه البسيطة. في هذه القائمة التي أعدتها مجلة بايست المختصة بالفنون، بالاستعانة ببعض من أهم متخصصي الأنمي لاختيار أفضل أفلام الأنمي على الإطلاق، ستجد بعضا من هذا وبعضا من ذاك، والكثير من المتعة في استكشاف جوانب أخرى ربما لم تتطرق إليها من قبل في عالم الأنمي المدهش. [1]
في فيلم Only yesterday يحلق إساو تكاهاتا، مؤلف الفيلم ومخرجه، هنا في مساحة اليومي والمعتاد، ويسلط برقة شديدة الضوء على التفاصيل الصغيرة التي تُشكّل
تحزم تايكو، الموظفة العازبة ذات الـ27 عاما، أمتعتها وتركب القطار المُتجه إلى الريف. ستقضي هناك إجازتها، عشرة أيام بعيدا عن زحام طوكيو وصخبها. لكن على متن القطار، يفاجئها ضيف غير متوقع لن يفارقها طوال الرحلة: ذكريات الطفولة.
بعيدا عن الفانتازيا التي تمتلئ بها عادة أفلام الأنمي، يحلق إساو تكاهاتا، مؤلف الفيلم ومخرجه، هنا في مساحة اليومي والمعتاد، ويسلط برقة شديدة الضوء على التفاصيل الصغيرة التي تُشكّل في مجموعها حيواتنا، لكننا غالبا، لشدة بساطتها، ما نغفلها. ففيض الذكريات الذي يحل في رحلة تايكو لا يتكوّن سوى من لحظات ومشاهد تكاد لا تخلو طفولة أحد منها: مشاحنات بينها وبين أختيها الأكبر سنا تتركها تبكي، جلوسها لمائدة الغداء مع العائلة وسط تحكّمات أبٍ يغلب عليه التزمت ويرفض الكثير من طلباتها، العودة للبيت بورقة امتحان حصلت فيه على علامة سيئة وحاولت التخفيف من وقعها على أمها بتلفيق أعذار بريئة، الساحة خارج المدرسة التي عبّر فيها فتى لأول مرة عن إعجابه بها، فذابت الجاذبية من حولها وأخذت تطير.
بألوان مائية تذوب عند الحواف يرسم تاكاهتا الذكريات، وبموسيقى تفيض بالنوستالجيا يصحبها. فتماما كما في سيمفونية، تمتزج في “فقط في البارحة” ألحان الماضي وذكرياته وأنغام الحاضر وتساؤلاته؛ كلٌّ منهما يُشكّل لحنا منفصلا، لكن من تضافرهما تتشكّل ذواتنا. فنحن في الحياة، كما اكتشفت تايكو واكتشفنا معها، نسير في دوائر، وقد تجد ذاتنا الناضجة في ماضيها الطفولي الكثير لتتعلمه.
بحلول العام 2029، تأخذ الحدود بين الآلة والإنسان في التماهي. كثير من البشر الآن يستبدلون آلات أكثر كفاءة بأجزاء من أجسادهم، بينما وصلت الآلات نفسها إلى حد من الذكاء والوعي يجعلها خطرا على البشر. في ذلك العالم، تجد الرائدة موتوكو كوزماكي، الإنسانة ذات الجسد الآلي معظمه، نفسها أمام عدو شرس: كيان مجهول يسمى بـ”سيد الدمى”، لا يخترق الأجزاء الآلية فقط من البشر، بل يتمكّن من الوصول لوعيهم ويتلاعب به، فيفرغهم من هوياتهم وذكرياتهم ويجعلهم مجرد دمى جوفاء يسودها ويحركها لصالحه.
كأي فيلم إثارة، يمتلئ “غوست إن ذا شيل” (Ghost in The Shell) بتتابعات الأكشن السريعة. لكنه يختلف عن غيره الكثير من تلك الأفلام بما يتضمنه من ثيمات فلسفية وتساؤلات وجودية تجعله أكثر من مجرد فيلم أكشن. فبجانب مشاهد المطاردات وإطلاق النار، تسود الفيلم مشاهد ذات إيقاع متأمل، تأخذنا عبر المدينة المستقبلية الباردة التي ضاع عن أهلها جزء من أرواحهم عندما استبدلوا مجسات معدنية بأجسادهم، وترافق واحدة من أولئك، الرائدة موتوكو، في رحلة بحثها عن ذاتها التي لم تعد تعرف، في هذا العالم الذي تسوده الآلة، إن كانت حقيقية أم محض وهم زرعه أحدهم في رأسها. ومن هنا، تصير مطاردتها لسيد الدمى، الكيان القادر على التلاعب بالهوية ومحو الذات، أكثر بكثير من مجرد مهمة عمل.
على الرغم من فشله في شباك التذاكر حين إطلاقه، لاقى الفيلم جماهيرية واسعة فيما تلا من سنين، وأحدث أثرا في السينما لا يزال ملموسا حتى الآن؛ فمن تحت عباءته خرجت أعمال على غرار “الماتريكس” (The Matrix) و”إكس ماكينا” (Ex Machina) ومؤخرا مسلسل “وست وورلد” (Westworld)، التي تلعب كلها على الثيمة نفسها والتساؤلات التي أطلقها “غوست إن ذا شيل” (Ghost in The Shell) عام 1995 حول علاقة الإنسان بالآلة في عالم آخذ في التطور بشكل غير مسبوق لا يعرف مداه، ولا عواقبه، أحد.
إذا كانت كل الأفلام في هذه القائمة حتى الآن تتناول فكرة امتزاج عالمين، عالم الماضي وعالم الحاضر في “فقط في البارحة” (Only Yesterday) وعالم الإنسان وعالم الآلة في “غوست إن ذا شيل” (Ghost in The Shell)، فإن فيلم “بابريكا” (Paprika) يسير على النسق نفسه ويتناول عالمين تذوب الحدود بينهما: عالم اليقظة وعالم الحلم. لكن على عكس الفيلمين السابقين، فالأبواب بين عالمي “بابريكا” (Paprika) موصدة، لا تنفتح سوى عن طريق جهاز الدي سي ميني.
طوّر العالم العبقري كوزاكو توكيتا هذا الجهاز بهدف الاستفادة منه في العلاج النفسي. فعبر الدي سي ميني، يستطيع الطبيب المعالج الدخول في حلم المريض واستكشاف ما يخفيه عقله الباطن من مخاوف وهواجس دفينة تطفح في عالم يقظته على هيئة أمراض نفسية تعيقه عن الحياة. لكن عندما يسرق كيان مجهول الجهاز، يحدث ما لا تُحمد عقباه؛ تنفتح عتبات اللا وعي أمام السارق، ويتمكّن من اختراق العقول وزرع أحلام دخيلة تصيب الحالم بالجنون. وحدها بابريكا، الشخصية الخيالية التي اخترعتها الطبيبة أوتساكو شيبا لتدخل بها أحلام مرضاها، تستطيع إيقافه.
مثل الفيلمين السابقين في هذه القائمة يتناول فيلم “بابريكا” فكرة البحث عن الذات ومحاولة استكشاف جوانبها الخفية. فعبر عالم الأحلام، تطلق الطبيبة شيبا ذات الطابع الانطوائي الجاد في الحياة الواقعية العنان لنسخة أخرى أكثر انطلاقا لذاتها على هيئة الفتاة المرحة بابريكا. وفي عالم الأحلام أيضا، يعيد المحقق كوناكوا، أحد مرضى شيبا، استكشاف ماضيه والتواصل مرة أخرى مع ذاته الشابة محاولا أن يرتق الفجوة بين ما كان يظن أنه سيكون، وما صار إليه بالفعل.
إن بدت لك الفكرة الأساسية للفيلم، اختراق العقل الباطن عبر الأحلام، قريبة الشبه للغاية من فيلم كريستوفر نولان “استهلال” (Inception)، فما لاحظته صحيح. فمنذ إطلاق الأخير والنقاد يتناقشون حول التشابه بين الفيلمين ومدى تأثر نولان بمخرج “بابريكا” الياباني ساتوشي كون. فالتشابه بين العملين لا يتوقف عند الحبكة فقط، بل يتعداه للتكوينات البصرية التي بدا أن الكثير منها مستعار من “بابريكا”. لم يتسنَ لساتوشي للأسف التعليق على هذا التشابه، فبعد إطلاق “استهلال” (Inception) بفترة وجيزة، تمكّن منه السرطان وأودى بحياته وهو بعد في الـ46.
تشعر ميتسوشا، المراهقة القروية، بالضيق حيال حياتها الرتيبة التي لا يبدو أن شيئا استثنائيا يحدث بها أبدا، وتتمنى من كل قلبها لو تتحول إلى فتى وسيم يعيش في العاصمة. وعلى استحالة ما تحلم به ميتسوشا، فإن أمنيتها تجد طريقها للواقع بأغرب طريقة ممكنة: تسافر روحها في بعض الليالي لتسكن في جسد تاكي، الفتى المراهق الذي يعيش طوكيو، وتسافر روحه هو لتسكن جسدها. وفي الصباح، يستيقظ كل منهما ليقضي يومه في جسد وحياة الآخر.
ما زالت ثيمة المزج بين العوالم الموجودة في الأفلام الثلاثة السابقة حاضرة هنا أيضا. ففي فيلم “اسمُك” تمتزج حياة وعالم ميتسوشا وتاكي، ويجرب كلٌّ منهما الوجود من منظور مختلف عليه تماما. لكن على عكس الأفلام السابقة التي سلطت الضوء على علاقة المرء بذاته وبحثه عن هويته، يركز فيلم “اسمك” على علاقة المرء بالآخر وسعيه ليجد من يستطيع أن يتواصل معه ويفهمه. وفي هذا، يمكن اعتباره امتدادا لأفلام المخرج ماكاتو شنكاي الأخرى، على غرار “حديقة الكلمات” (The Garden of Words)، و”50 سنتيمترا في الثانية” (50cm per second) التي تلعب على الوتر نفسه. حين عُرض أول أفلام شنكاي عام 2004، سارع بعض النقاد لتتويجه ملكا جديدا لفن الأنمي. بدا هذا التتويج للكثيرين سابقا لأوانه، لكن حين أُطلق فيلم “اسمك” بعدها باثني عشر عاما، تحقق الجميع من كون شنكاي الوريث المستحق لعرش عمالقة الأنمي من الأجيال السابقة.
لم تبدُ الفتاة الصغيرة شيهيرو مرحبة بقرار أبويها في الانتقال لبيت جديد. فقد قضت طوال الطريق في المقعد الخلفي للسيارة في عبوس وتذمر، ولم تتحمس كثيرا بطبيعة الحال حينما ارتجل والداها عن السيارة وقررا الخوض في أرض خلابة مهجورة. وعندما انبعثت من إحدى الزوايا رائحة طعام أسالت لعابيهما، توجه الزوجان لمصدر الرائحة ليجدا صواني متراصة تفيض بأكلٍ شهي. ولم يتوقفا أو يتساءلا عن مصدر هذا الطعام في ذلك المكان المهجور، وسارعت أياديهما للأطباق تغترف لجوفيهما كل ما يمكن أكله. عندما عادت شيهيرو إليهما، وجدت أن والديها قد تحولا إلى خنزيرين. فالأرض التي ظنوا أنها مهجورة ليست في الحقيقة مهجورة، بل تعج بكائنات غير بشرية، والطعام الذي تناولوه لم يكن سوى طُعم لاصطيادهم. تجد الصغيرة نفسها في عالم غريب، وعلى عاتقها تقع مهمة إنقاذ والديها والعودة مجددا للبيت.
لا تكاد تخلو قائمة واحدة من قوائم أعظم أفلام الأنمي من تحفة هاياو ميازاكي “المخطوفة” (Spirited Away). فخلال بناء الفيلم الذي يبدو بسيطا، نجح قطب الأنمي الياباني ومؤسس “إستوديو غيبلي” الشهير في أن ينسج العديد من التساؤلات العميقة حول هوية وطنه المنجرف كأبوي شيهيرو وراء إغواء الثروة والمال بلا تفكير، تاركا وراءه ماضيه وأصله وتراثه، ليتحول في نهاية المطاف، كما رأى ميازاكي، إلى مسخ قبيح. ويخلق مايازاكي في الآن نفسه عالما سحريا من أطياف وأحلام تستشري فيه كما تستشري في الواقع أطماع البشر وتحرك كائناته، لكن وحدها الصغيرة شيهيرو التي تجد في العودة للمنزل كنزا أثمن من أي شيء، تتمكّن من النجاة بقلب لم تغادره البراءة بعد.