الطاهر الجميعي.. صورة تخلد المسنين بألوان الحياة
رغم المعارضة الكبيرة التي جوبه بها فن التصوير الضوئي (الفوتوغراف) عام مولده 1839 من قبل المشتغلين في حقول الابداع المختلفة كالشعر والموسيقى والفن التشكيلي، إلا انه استطاع الاستمرار في الحياة والتطور شكلاً ومضموناً، ليصل إلى عصره الذهبي هذه الأيام والخطر الذي استشعره المشتغلون في الحقول الابداعية التقليدية يوم اختراع الكاميرا، تحقق اليوم، فقد وضعها امام طريق مسدود، وتمدد واستطال ليفرز السينما، والتلفاز، والانترنت وغير ذلك من وسائل الاتصال الحديثة.
ليس هذا فحسب، بل لقد أخذت الصورة الضوئية الفنية المتقنة في موضوعها وعناصرها، تزاحم الفنون التشكيلية على صالات عرضها ومعارضها وموضوعاتها ومدارسها، خاصة إذا كانت هذه الصورة، محققة من قبل عدسة تقودها موهبة حقيقية، خبيرة وقدرية، كعدسة الفنان الضوئي المغربي «الطاهر الجميعي» المولود في الرباط عام 1939 والدارس للهندسة في ألمانيا هذا الفنان الذي توجه إلى حقول التصوير الضوئي نهاية الخمسينات من القرن الماضي، واحترف التصوير والاعلام منذ العام 1986، وأقام وشارك في العديد من المعارض، في أكثر من دولة.
عاش الفنان الجميعي في سوريا سنوات عديدة قبل ان يعود الى موطنه عام 1996، عمل خلالها في مجالات مختلفة منها:
وزارة السياحة، والثقافة، وقام بتصوير مئات الاعمال الفنية التشكيلية السورية، كما رصد بعدسته الموهوبة، مشاهد مختلفة من الحياة السورية الأثرية والطبيعية والإنسانية، أخذت طريقها إلى أكثر من معرض فردي وجماعي، ويبدو انه يعكف الآن، على مهمة مماثلة في وطنه، بدليل المعارض المتلاحقة التي يقيمها، من حين لآخر، في دولة الإمارات العربية المتحدة وسوريا، والمكرسة في غالبيتها، للحياة الشعبية المغربية وناسها، خاصة العجائز والمسنين، بلباسهم الشعبي الزاهي الألوان، وحياتهم البسيطة الرافلة بالسحر والجمال والنداوة الإنسانية.
لقد تمكن «الطاهر الجميعي» من التغلغل في نبض البيئة المغربية الشعبية، بكل تلاوينها ودلالاتها المعبرة، ونقل هذا النبض إلى صور ضوئية ملونة عالية التقانة، مدروسة القطع، نظيفة الرؤية، عميقة الرؤى، متكاملة الشكل والمضمون، مما يجعلها وثيقة مهمة لشريحة اجتماعية شعبية أصيلة، تعيش على هامش العصر، أو كما قال «محمود عبدالغني) تعيش العزلة، وهذا المضمون الإنساني الخطير، والمرافق الكبير لهذه العزلة، هو الفقر بكل معانيه، والوجوه المتروكة لعزلتها، هي بلا ملامح، منها المستور ومنها المكشوف، الأول غريب وعجيب، أغرب وأعجب منه الثاني الذي بلا لون، ويكاد يكون بلا حياة.
ويتساءل «عبدالغني» لماذا؟ وكيف، وبأية قدرة فنية توجه «الجميعي» إلى هذه الوجوه؟ ما الذي سحره فيها؟ وجوه انتهت أو تكاد. وطفولة بلا طفولة، يعيشها اطفال بلا سبب، وهل يجب ان تكون للحزن أسباب حتى يوجد؟!
ويرى «عبدالغني» ان وجوه الجميعي مختلفة لأنها لا تشبه وجوهاً عرفناها أو رأيناها، ومصدر ذلك، أولا واخيراً، راجع إلى كون الطاهر الجميعي (فنان ضوئي) لا يشبه فناناً عرفناه، وعكس مجموعة من المصورين الضوئيين المغاربة، يضع رجليه في تربته، عينه على الناس في بلاده، ويده على قلبه، يغامر من أجل صورة تخلد المسنين، وهذا يتطلب عيناً ثاقبة وأكثر من احساس!
د. محمود شاهين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العمل الانساني هو الهاجس والكاميرا لا تكذب.. الطاهر جميعي: ألتقط اللحظة والصورة دراسة واحساسا
الحديث عن الصورة من اكثر الامور صعوبة وسهولة في آن اذ تحتم نقل ما يعتري مشاهدها بانسيابية توفرها المشاعر وامتصاص العين لزواياها وتصعب العمل لان صورة واحدة تكفي بديلا لعشرات المفردات . ولو تمهلنا قليلا عند (ذاكرة من المدن العربية) التي يستضيفها بيت السركال كمعرض للفنان الفوتوغرافي المغربي الطاهر جميعي حتى 18 يناير المقبل لادركنا ريادة الصورة ولكن دون التسليم بخفض قيمة الكلمة لهذا جلسنا اليه نستفسره عن بعض ما نعرف على شاكلة تساؤل العارف والبعض الذي غاب عن بالنا او احتجنا فيه الى شهادة من اصحابه. ظلت العلاقة بين الفنان الفوتوغرافي والفنان التشكيلي مشوبة بالجدل واللغط ردحا من الزمن فهل تعتبرها مستمرة على هذا النحو؟ ــ هذا فقط في العالم العربي وانا لم اعان شخصيا من اية مشكلة وكان هناك حوار مستمر بيني وبين اساتذة تشكيليين واظن هذا الكلام فارغا فالهاجس الوحيد هو العمل الانساني سواء بالريشة ام بالصورة وهذا السؤال لايعني لي شيئا على الاطلاق كذلك الحال خارج العالم العربي. لو نظرنا الى معرضك الحالي في بيت السركال بالشارقة لادركنا عمق تعلقك بالالوان هل يصح ذلك بالمطلق على اعمالك, والمعروف ان فنية الفوتوغرافي في اللونين الابيض والاسود؟ ــ ليس صحيحا, ففي الطبيعة يرى الانسان الاشياء ملونة والحيوانات وحدها ترى الالوان رمادية, واعتقد ان الالوان تعطي حسا مضاعفا. وانا سابقا اشتغلت بالابيض والاسود والاختيار يعود للفنان ذاته والغاية هي النتيجة المتوخاة وارى ان بلادي غنية جدا بالالوان على عكس الدول الاوروبية مثلا وهذا ما قصدته وفنية الفوتوغرافي تلمس من خلال المشاهد والصورة والسؤال ان كانت تترك اثرا ام لا ولاعلاقة للمادة الخام. تذكير ثم توثيق الصورة توثيق في نهاية الامر, فهل تتعمد ذلك وتؤرشف اللحظة او المشهد او الذاكرة؟ ــ انا لا اؤرشف, ومرة حدثني الفنان التشكيلي الراحل بول جرجوسيان عن حظي لان الكاميرا لاتكذب وتنقل الواقع كما هو ولا اضع التوثيق اوعدمه هدفا بذاته هناك حالات او اشياء على طريق الانقراض وانا احب اثارة انتباه الناس الى ماهو موجود في شوارعنا وفي حاناتنا ولباسنا حتى لاتضيع وهي نوع من التذكير مع ان الصورة في النهاية تغدو وثيقة حتى لو كانت عادية جدا والتوثيق اصلا لديه شروط معينة اولها نقل التفصيلات بدقة, وانا التقط اللحظة ثم تصبح ذاكرة مع مرور الزمن ومايهمني على سبيل المثال ان يعرف الناس كيف هو موسم الورود في المغرب وهذا ما اهجس به. في (لوحاتك) لعبة ذكية وموهوبة تتلخص في المساحات والتفصيل هل هذا نوع من التشكيل؟ ـ هذا موجود عندي بالفعل وهي فضاءات تعطي ميزة التركيز على مركز السيادة في الصورة وهذايرجع الى تقنيات التصوير وقد تشكل حالة تمرد وحرية وعند التدقيق في الجدران نلحظ آثار المرء عليها والفضاء حينها يحمل كل ذلك وربما لهذا علاقة بالتكوين الداخلي لشخصيتي بالذات وانا احبذ الحرية في الموضوعات. لديك جنوح الى الكتل في بعض اللقطات تذكرنا بالنحت, كيف تعلق على ذلك؟ ــ لا يمكنني ان اقول ان ذلك متأت بطريقة مقصودة والتصوير الضوئي يخضع للقواعد ذاتها التي تسري على الفن التشكيلي ويعتبر جزءا منه مع اختلاف الفارق بين الريشة وآلة التصوير واحيانا يفرض عليك صيغة محددة من العمل والتقنية وانا اعتمد على عفوية اللقطات باستثناء الاطفال احيانا الذين اضطر الى طرح وضعيات لهم حتى احقق التوازن في الصورة واتجنب الجمود كالعسكر واثناء التصوير اكون الكادر الخاص بي وليس بعده. هي تراني ربما هنا ميزة الفنان الفوتوغرافي في العفوية بالذات؟ ــ نعم بمقدور المشاهد ان يراها وتجذبه في الوقت ذاته ومرة كنت اقود سيارتي وامسك بكاميرتي واتوقف حين يجذبني مشهد فاصوره وتفاجأ صديقي الى جانبي وعلقت بأن الصورة تراني ولست انا! ثمة فرح يقفز دوما من الوانك بالرغم من قولك انك راصد لمآسي المرأة العربية وليس للتراث بعينه؟ ــ اما ان نرى القسم الفارغ من الكأس او الملآن فالمشاهد يراقب ماذا تلبس المرأة ماذا تبيع لكنه في الوقت نفسه يتلمس جمالية في البساطة, ويجب التعبير عن المأساة بنوع من الامل والفرح هناك اطفال حفاة صورتهم وهم فرحون ويضحكون ويلعبون, فلم تسود الامور كلها وهنا يلعب اللون الدور فيما الابيض والاسود يزيدان المأساوية وهذه ميزة مجموعة من الفنانين استطاعوا ان يعكسوا الوضع بأسلوب غير حزين. جذور والدتي المرأة موضوع شبه ثابت ومتكرر بكثرة في اهتماماتك؟ ــ المرأة هي اساس الكون كله والرجل ماذا؟ وقد يكون للمسألة جذور مع علاقتي بوالدتي ومازلت اذكر مرافقتي لها لتشتري الصوف وانزل معها الى البحر الاحمر ومنذ سنوات عمري الخمس وانا اشاهدها تتعب وتغسل الصوف وتقصد الاسواق وتمارس التجارة ومن الخليج حتى المحيط المرأة هي التي عملت واشتغلت ولايمكن تجزئة العمل الانساني لان الرجل يتعب ايضا. وتأثري بالاطفال عائد الى انتسابي لجمعية تربوية في المغرب (الطفولة الشعبية) وكثيرا ما تعاملت مع اطفال فقراء وبينهم من يتحمل الحياة ويضحك وكل ينفعل بطريقته انا بالصورة وغيري بقصيدة او بلوحة وانا غالبا ما اتجول بين البادية والمدينة واصادف الحالات في المكانين. توجه الفنان الانساني وحمله للهموم البشرية يوشم اعماله بصورة مختلفة عن الآخرين ويدفعه للتركيز على زوايا معينة. ـ هذا مايجب ان تجيبيني انت عليه فعندما تتوقفين امام الصور تدركين ذلك ومالم احس بالاشياء والمواقف لا الجأ الى التصوير والمفروض اقامة علاقة داخلية مع الخارج وتلمس الخيط الرابط بين المصور والموضوع وما يؤدي الى الانفعال مع الصورة هو انعكاس ماشعر به الفنان لحظة التصوير والقدرة تلاحظ بنقل هذا الشعور بآلة جامدة حديدية زجاجية, وصعوبة التصوير الضوئي تكمن في فرض الموضوع ذاته عليك ولاينطبق الحال على الفنان الاخر الذي يمحو ويغير باللون. دراسة وممارسة التشكيلي يتطلب موهبة وضربة ريشة كما يقال فهل مايحتاجه الفوتوغرافي عين لاقطة فقط؟ وكم تؤثر الدراسة عليه؟ ــ انه يعمل كما الريشة ولايكتفي بلقطة واحدة الا في الحالات النادرة المستوجبة للسرعة والدراسة للفوتوغرافي مهمة جدا ويجب عليه الامساك بزمام الآلة اولا حتى يتحكم هو فيها عن طريق الدراسة وثانيا قواعد النحو فيما يخص تشكيل الصورة وهذه تتأمن بالدراسة ايضا والممارسة فيغدو الفوتوغرافي قادرا على استدراك الخطأ ومعرفته سريعا كما هو الحال في الاوزان الشعرية وبعدها يأتي التفكير السياسي والثقافة ورأيك بالامور وهذه المرة الاولى التي احكي فيها بهذه التفاصيل لاعتقادي انني اقدم صورة وكفى. كم لعبت المغرب دورا محوريا في تحريك عينك لتطلع بكل الابداع؟ ــ العلاقات الانسانية لايمكن حصرها واتفاعل مع الطفل سواء بالمغرب اوالجزائر او سوريا لكن همومنا هي محور ما اجرب ان ابينه والاساسي عندنا هو بلدنا وربما يقال ان ما اصوره كلاسيكيا غير انها تلخص كثيرا مما هو موجود عندنا ولم نصل الى الاشياء الخيالية كأن اعمل حجرا واضع كرسيا واصور. هل يجب ان تنطبق شروط الفنان الفوتوغرافي على المصور الصحفي؟ ــ شروط المصور الصحفي صعبة قليلا مثل السرعة والمضايقات والا فهي ذاتها للاثنين وقواعد النحو ايضا. الحرفية والاخراج حسب اطلاعك كيف ترى مصورينا العرب في جرائدنا ولوكنا نقع على زملاء لهم عرب يعملون لصالح وكالات اجنبية ويحصدون الجوائز؟ ــ بالنسبة للوكالات هناك فرق كبير في نوعية التصوير ودون تعميم لا ارى اننا وصلنا الى هذا المستوى مع تسجيلي لحرفية عالية لدى مصورين في مصر والعراق. في المغرب مثلا لايوجد محترفون جيدون وهناك اعداد بالمئات واحيانا لايهتمون بتكوين الصورة وفي جرائدنا قد لايعرفون التعامل اخراجيا مع الصورة فيتم التشويه كليا وهذا ماحدث معي وحداني لمتابعة عملي حتى النهاية ويتحمل المخرج في بعض المرات تبعة الاساءة عبر حشد الصور بمساحة يحددها ويحد من ابعادها بالتالي ويتم الاكتفاء بتأمين صورة الشخص المطلوب مع اهمال اصول الطول والعرض. والاوروبيون لديهم اولوية للصورة ومخرجون دارسون للمسائل والمصور يمتلك كلمته ومايدعو للاستغراب ان وكالات الانباء فيها مصورون عرب جيدون وطبعا لديهم تجهيزات خيالية وحرية اضافة لما يتلقونه من احترام يفوق زملائهم في الجرائد العربية ويسمح لهم بالدخول مع هامش في الحركة لايقيدهم. حوار ـ رندة العزير