من عالم مجنون، يطل علينا الروائي الإسباني، خوان خوسيه مياس، وبشخصيات غير تقليدية، في روايته، ”من الظل“، والتي يقدم لها المصري أحمد عبداللطيف ترجمة تضمنت طرحًا متقنًا للغة الكاتب الأصلي.
وهذه الرواية صادرة عن دار المتوسط للنشر والتوزيع 2018.
ضجيج إيجابي
ليس من السهل أن يحيك الكاتب رواية منفصلة عن الواقع، فمهما بلغ التخيل من التشظي، لابد أن يميل قليلًا ليجد متكأ في الواقع. وكلما ذهب الكاتب بعيدًا في خياله صارت عمليته السردية أكثر غرابة وأكثر أثرًا في النفس الإنسانية.
تمكن خوان مياس من طرق أماكن بعيدة في الذهن بزفراته المتمادية، من خلال أفكاره الغريبة، وامتلاكه لقدرة فائقة لتفعيل الصوت الداخلي للإنسان، الصوت غير المشابه لأي صوت سابق.
وآثر الكاتب في كل مرحلة من اشتباكه مع ذاته أن يحدث ضجة شعورية، ذلك النوع الإيجابي من الضجيج.
شخصية من دخان
الشخصية الخيالية الغريبة التي دفعها الواقع لأن تتمركز في خزانة قديمة، لها تاريخ عائلي لدى امرأة تقليدية، تحن إلى جذورها، وتعيش حياة رتيبة. وتدخل تلك الشخصية المصنوعة من دخان تتطاير في خيال مياس، لتتلصص على حياة تلك المرأة وعائلتها.
ومع الوقت، يكتسب ”دميان“ صفات الهواء، فتتطاير حواسه لأماكن غير متوقعة، ويسيطر دون أن يرى على تفاصيل المشاهد من حوله، يرى بأذنيه، ويمتد سمعه لمساحات أبعد، لم تكن هذه الصفات لتتواجد لولا انغماسه في عالمه الصوفي، الداخلي بما يكفي. كل ذلك يحدث تدريجيًّا، وهو في عزلته الاختبارية لذاته، ولقدراته غير المحسوبة. حتى يصير في طور أقرب إلى صفات الشبح، أكثر منه إلى الإنسان.
تشعر المرأة بإيجابية أن تجد شبحًا يكسر جمود حياتها، وخشبيته، فهنالك في الخيال قلق من وجود شخص إضافي في المنزل، وظيفته أن يعيد ترتيب الفوضى بدلًا منها، وقد كان أغلب ظنها، أنها روح جاءتها من جذور عائلتها، ممن غادروا الحياة، جاء هذا الشبح ليخدمها.
لم يكتف ”دميان“ بذلك، فكان من أنقذ المرأة من الموت، وحماها من تخطيط زوجها وعشيقته، هما اللذان اتفقا على قتلها بلسعات الدبابير. كان سباقًا لتطبيق الخطة المحكمة من قبلهما، لقتل الزوج، لقد اكتشف أخيرًا بأنه وقع في عشق تلك المرأة، هي من راقبها طويلًا من مساحة العالم الضيقة التي افترضها لنفسه.
حزمة أدوات إبداعية
لا يكف مياس طوال صناعته السردية عن وضع اللغة الخاصة به في سياق الغرابة، فما امتلكته فكرته الروائية من لا عادية، أضاف إلى حزمة أدواته الإبداعية مساحات متنوعة، وجعلها أكثر خلطة بالقارئ.
من جانب آخر، كثرت في سردية مياس الرمزيات، فما كان يلقيه الكاتب الأسباني في الخيال، ينعكس بشراسة في الواقع، ذلك الخيط المطاطي، بين الواقع والخيال، لا ينقطع، بل وأكثر، يكيّف الزمان والمكان على هيئته.
غرونوي في رواية ”العطر“
فكان للخزانة رمزية المكان المعتم، المفعم بالسرية، فما نخاف عليه من الملابس، والمجوهرات، والذكريات، نُحكم عليه قفل الخزانة. هنالك استقر ”دميان“، وقد استحال من جسد عادي، إلى فكرة.
وكما تسيطر علينا الأفكار، سيطر دميان على من حوله، وحينئذ شعر بكمّ الألفة في عالمه الجديد، عالمه التجريدي، وكما فعل ”غرونوي“، في رواية ”العطر“ لباتريك زوسكند، صار يلاحق شغفه في المعرفة، معرفة اكتشافية، بأسلوب جديد لبسط الحواس على العالم. و بذلك امتلك صفات لا يمكن قهرها.
ولم ينسَ مياس أن يجلس في زوايا عديدة، فمرة يخاطب العالم بعقل رجل خائن، ومرة بعقل امرأة ضجرة، ومرة بعقل مراهقة، تصطنع الحيلة لإخفاء اضطرابتها، حتى أنه سكن عقل الشبح، وشرح للعالم، كم أن ذلك الشبح تسيطر عليه عقدة امتلاك الجسد.
قلب على شكل رصاصة
أما عن رمزية الدبور، فلم تكن تلك الحشرة الصغيرة التي تتطفل، فتؤذي الإنسان، بل جعلها الكاتب الأسباني، رمزًا للشر الإنساني، لحاسة القتل التي نُشكلها كما نريد، وحسب الظرف، إنه الرصاص الذي يملأ الإنسان به قلبه، وقتما أراد أطلق غله، رصاصة على هيئة دبور، ليقصي من حوله.
بقعة ممسوحة الملامح
أما الظل، الذي أقرن الكاتب عنوان الرواية بغموضيته، فهو الذي ما كان لإنسان يتحرك، تحت طائلة الضوء، إلا واقترن به ظل ما، هو المكان المعتم، الغامض، في الطفولة أول ما يثير قلق الإنسان وخوفه، هو تلك البقعة الممسوحة الملامح، الغامقة.
ومع الوقت، تصير مخبئًا، نلتفت إليه قليلًا، لكننا لا نعرف كيف نستخدمه. و لقد عوضنا خيبتنا في ذلك، باستخدام ظلال الأشجار للاستفياء.
وهنا يمكن القول، لقد راقب الكاتب شخصياته أيضًا من الظل، فآثر أن يرينا عالمه من الزاوية ذاتها، علّنا نرى أسراره، كما أراد لها أن تُرى.