في عام 1839 وقف الفنان الفرنسي المعروف ” بول دي لاروش” قائلاً : “لقد مات فن الرسم اعتباراً من اليوم”.. ربما كان “دي لا روش” مديد النظر آنذاك، عندما اطلع على الصور الفوتوغرافية الأولى التي صورها “لويس داغير” والتي بموجبها أعلنت الجمعية الأكاديمية للعلوم في باريس ذات العام عن اختراع واكتشاف فن جديد أطلق عليه اسم “التصوير الشمسي”.
لقد رأي “دي لاروش” أن آلة التصوير الضوئي يمكنها أن تزلزل قواعد أعمدة الفن التشكيلي الراسخة بالقيم الموروثة منذ عصر النهضة، و ما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت الانطباعية أولى التجارب المذهبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بالظهور متجاوزة القيم السابقة لوناً وإضاءة وإيقاعاً، ويعزى ظهور عشرات المدارس الفنية، فيما بعد إلى آلة التصوير الضوئي التي قلبت المفاهيم الأكاديمية السابقة إلى تجارب جديدة في البحث الفني، ربما كانت “الانطباعية”، أكثر هذه التجارب وضوحاً في الاستفادة من علوم التصوير التي ظهرت آنذاك من حيث التحليل الضوئي للطيوف، واكتشافات فيزياء العدسات والبحث عن تفاعلات لونية جديدة، لم تكن لتطرح في شكل ولون اللوحة، ومقاربة فنون المرحلة عموماً لإيقاع جديد من الحياة التصق بالشارع واليومي، وأكد على الطبيعة والعناصر الكونية الأخرى، ولم تتوقف مسيرة البحث الفني عند تيار بعينه، ولكن بعبارة أخرى يمكن القول أن ظهور كل هذه التيارات وحتى اليوم كان سبباً غير معلن عن ظهور آلة التصوير الضوئي التي ألهبت خيال أكثر الفنانين وحفزتهم على تجاوز الأساليب القديمة… ولسنا هنا في مجال تقييم طاقات وقدرات فن التصوير الضوئي الإبداعية والتي باتت معروفة للجميع بقدر ما يهدف هذا النص إلى الوقوف على التجربة المحلية في فن التصوير والتي يمكن أن تلخص تاريخياً بالسطور التالية:
البداية الأولى
بدايات التصوير في سورية فردية وقديمة نسبياً تعود إلى بداية القرن الماضي – العشرون- وبالرغم من أهميتها وقدمها لم يقدر لها أن تخرج من إطار الحرفة إلا على أيد قلة من الرواد من هواة الفن والتصوير، حيث أقام البعض منهم تجمعاً غير رسمي قدموا من خلاله معارض فردية وجماعية دون أن يلتفت إليهم أحد أو يوثق نشاطهم في سجل أو كتاب… وحتى صور، إلى أن جاءت مرحلة النشاط العام في سورية وبدأت تتبلور اتجاهاته التعبيرية في الخمسينات من القرن الماضي، من نحت وتصوير زيتي وحفر، وكانت مرافقة لها مرحلة المخاض الفوتوغرافي الأول في سورية، حيث بدأت تباشير حركة فنية واعية لفن التصوير شارك فيها مجموعة من المصورين الشباب، بغالبتهم من الهواة، وكان منهم: شفيق الإمام، خالد معاذ، روبير ملكي، أمين الشريف، ووجيه السمان، ورفيق السيوفي، ونزيه الشهبندر…وغيرهم، وقدر لها أيضاً أن تشد انتباه الناس ورواد صالات الفن الناشئة بقوة إلى أهمية اللوحة الضوئية في الحركة الفنية، إلى أن تم تأسيس نادي التصوير الضوئي عام 1980 بمعرض الخمسة الضوئي (مروان مسلماني، قتيبة الشهابي، جورج عشي، صباح قباني، طارق الشريف)، وبدأت معارض التصوير الضوئي الفردية والجماعية تتوالى عاماً بعد عام إلى أن أدرج فن التصوير رسمياً في المعرض السنوي العام لوزارة الثقافة عام 1986، وكان هذا اعترافاً غير مسبوق بأهمية اللوحة الضوئية التي باتت تعرض جنباً إلى جنب مع اللوحة المرسومة والمحفورة، إضافة إلى فن النحت.
واليوم وبعد سنوات التأسيس وبنظرة شاملة على حصيلة الأسماء التي أمكنها أن تؤسس لمفهوم فني مبدع وخلاق عبر اللوحة الضوئية، بلغة معرفية عميقة المضمون والتأثير تناط بها مسؤولية إنسانية وحضارية قد لا يتيحه فن مستقبلي قادم كالذي تتيحه رؤية العدسة، وصناعة الصورة الضوئية وجماهيرية عروضها، ومتتبعيها، ببعدها العلمي والثقافي والإبداعي : نجد أن المرحلة الأولى التي ساهم فيها الكثيرون من رواد صناعة اللوحة الضوئية- وليس الصورة- قد نالهم الملل وكفوا عن العمل بإقامة المعارض المشتركة والجماعية… وحتى المشاركات الفردية، أما جيل الوسط الذي ظهر مع بداية عروض نادي فن التصوير الضوئي في الثمانينات، فقد غاب حضوره وخبا بريقه والتفت إلى مناح أخرى من العمل والحياة، وإن كان أكثرهم ما زال يحمل البذور المعرفية لفن التصوير الضوئي وينتظر غيث السماء ليغسل غبار عدسته ويعيد الوهج السابق إليها.
أما حضور اليوم في معارض التصوير الضوئي فهو بلا منازع للفئة الشابة التي أتيح لها التزود من معارف العصر المتنوعة، وبعد تأسيس عدد من المعاهد الفنية التي أدرجت فن التصوير في مناهجها، وهذا بدوره أظهر العشرات من المصورين الموهوبين والذين همّت فيهم الكثير من الحماسة والموهبة والإدراك لحسن التعلم، وإقامة المعارض الفردية والجماعية.
ولكن يبقى السؤال قائماً عن حصيلة الأسماء العديدة التي أمكنها أن تؤسس لمفاهيم مغايرة عن السائد في اللوحة أكانت في الحركة والمضمون والفكرة والمقولة… صحفياً وأثرياً و توثيقياً وإنسانياً ومعرفياً، وكان جمعهم في ملف واحد أمر شبه مستحيل فهناك جيل الرواد الذين رحل أغلبهم والجيل الثاني والذي كان له وهج متميز خبا بفعل الزمن والملل وهناك جيل الشباب وما أكثرهم وهم لا يزالون في مرحلة إثبات الذات وترسيخ شخصيتهم الفنية، فكان لا بد أن نتوقف عند أسماء بعينها كانت تجاربهم ورؤيتهم بحق مدعاة للاهتمام تشهد لهم مسؤوليتهم الإنسانية والحضارية في أعمالهم الفذة والتي روجت لها عدساتهم و قراءاتهم الفكرية للمواضيع التي قدمت في تجاربهم… وربما كانوا بذلك الأكثر عطاءاً وبعداً ثقافياً خلال أكثر من خمسين عاماً وهم ما سنتناول بعضهم في قراءتنا هذه.