حالة إنسانية وفنية لخصها محمد الموجى بمقاله المنشور فى كتاب “فريد الأطرش بين الفن والحياة“:
” إن فريد كان فنانا صادقا.. وإنسانا صادقا.. وسط إطار يخلو منه الصدق تماما، بل يملؤه الكذب تماما.”
أربعون عاما منح فيها فريد الأطرش حياته للفن. ضرب فيها بنصيحة طبيب القلب عرض الحائط بعد أن قالها الطبيب صراحة:
“إما أن تغنى وتموت.. أو تعتزل وتعيش” ففضل فريد الغناء حتى لو أصبح طريقا مختصرا للموت، إيمانا منه أنه لن يعيش أقل مما قُدر له.
حالة إنسانية خاصة من الإقبال على الحياة عاشها فريد، حتى أن كثيرين حاولوا أن يجدوا إجابة على السؤال الذى طالما تبادر إلى ذهن كل من تقرب إلى فريد الأطرش، ولمس ازدحام حياته بالأصدقاء والسهرات والانشغال الدائم.. متى يعمل فريد؟ ومتى تجد كل تلك الألحان طريقها إلى النور فى حياة فريد الصاخبة؟
فقدم الموسيقار محمد عبد الوهاب الإجابة -فى مقال له نشر فى الكتاب السابق- قائلا:
“فريد الأطرش كان موهوبا وواثقا من نفسه ثقة كبيرة، فاللحن فى يده لا يستغرق أكثر من دقائق معدودة. كان يضع الكلام الذى سيلحنه.. ثم يلحنه.. ولا يغير فيه أبدا مهما كان.. ولا يضيع وقته فى “الوسوسة” عملا بالمثل القائل: ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
فى الواقع أن فريد الأطرش كان فنانا عظيما فى عصره.. وصديقا لا يعوض فى صداقته.. وإنسانا لا يبارى فى بساطته“.
بدأ نجم فريد الأطرش فى الصعود بعد فيلمه الأول انتصار الشباب مع شقيقته أسمهان عام 1941 . كان نجاحا مدويا لأول فيلم استعراضى فى تاريخ السينما كما وصفه دكتور نبيل حنفى محمود فى كتابه “فريد الأطرش ومجد الفيلم الغنائى” وتوالت بعده أعمال فريد السينمائية الناجحة، رغم فاجعة رحيل شقيقته أسمهان فى حادث غرق سيارتها عام 1944 .
أسمهان لم تكن شقيقة فريد وحسب، ولكنها كانت توأمه الفنى والروحى، وأعزى كثيرون حالة الشجن التى طالما سكنت أداء وألحان فريد الأطرش إلى حزنه على رحيل “ريحانة البيت” كما وصفها فريد فى مذكراته.
بعد سنوات من العمل الدؤوب جاءت رفيقة كازينو بديعة الراقصة سامية جمال لتُكون مع فريد ثنائيا فنيا وعاطفيا امتد من أول عمل جمع بينهما فيلم حبيب العمر 1947، أول إنتاج لشركة فريد الأطرش وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا وقال عنه فريد:
“حقق فيلم حبيب العمر دخلا لم أكن أحلم به، وهو خميرة كل الثراء بعد ذلك من غير نكران“.
وسبق إنتاج “حبيب العمر” قصة أثارت انتقادات لاذعة لفريد الأطرش ومخرج الفيلم هنرى بركات، بدأت بعدما قرر فريد البحث عن قصة مناسبة ليقدمها فيلما سينمائيا من إنتاجه، وقرر الاستعانة بهنرى بركات لإخراجه وبقى عليهما اختيار القصة فسمع فريد عن رائعة طه حسين رواية دعاء الكروان، فحدد ميعاد مع عميد الأدب العربى للاتفاق على شراء الرواية وتحويلها إلى فيلم سينمائى. بعد مفاوضات تحرر العقد بينهما على أن يدفع فريد لطه حسين مبلغ ستمائة جنيه، ولكن ما أن بدأ بركات العمل على الرواية حتى قرر أنها لا تصلح، ولا يمكن تحويلها إلى فيلم غنائى يناسب فريد الأطرش، فطلب فريد من بديع خيرى قصة أخرى لفيلمه المنتظر فكانت حبيب العمر.
تلك الحكاية لم تمر على الصحافة مرور الكرام، فخرجت الصحف الفنية تهاجم فريد الأطرش بعد إلغائه مشروع تحويل رواية دعاء الكروان إلى فيلم، كما أوضح د. نبيل حنفى فى كتابه -مرجع سابق- تناول مجلة الراديو والبعكوكة للواقعة فاتهمت فريد الأطرش بالجهل الفاضح لأنه أسرع إلى شراء الرواية دون أن يكلف نفسه هو أو المخرج هنرى بركات عناء قراءتها ومعرفة ما إذا كانت تلائم القالب الفنى الذى يريده فريد وبركات أم لا.
رغم الهجوم الحاد على فريد إلا أن هذا لم يمنع “حبيب العمر” من تحقيق نجاح لم يسبقه إليه فيلم آخر. فأصبحت سامية الشريك الفنى والعاطفى لفريد حتى عام 1952 حيث قدما آخر عمل معا فيلم “ماتقولش لحد”.. بعدها سافرت سامية جمال إلى أمريكا وتزوجت هناك بعد أن فقدت الأمل فى إقناع فريد بالزواج منها.
خرجت سامية من حياة فريد العاطفية، تلك الحياة التى كانت أشبه بالنهر الذى يستحيل النزول إليه مرتين، فى حركة دائمة لا تتوقف، ما أن تنتهى حكاية حتى تبدأ حكاية غرام أخرى، لكن الحكاية الجديدة هذه المرة بدأت وانتهت على صفحات الجرائد ولم يُقر أحد إن كانت قد شغلت حيزا على أرض الواقع فى قلب فريد أم لا.. بعد رجوع ملكة مصر السابقة ناريمان إلى مصر وطلاقها من الملك فاروق. كان تردد فريد على منزل عائلة ناريمان بعد عودتها مبررا كافيا لانتشار الشائعات حول قرب اقتران ناريمان بالفنان فريد الأطرش أواخر عام 1953، ورغم تكذيبهما لتلك الأخبار إلا أن الصحافة لم تقنع بتلك التكذيبات حتى لجأت ناريمان إلى الصحفى الكبير موسى صبرى لتكذيب الخبر، فكتب موسى صبرى مقالا منتقدا أسلوب ناريمان الجارح فى تكذيب الخبر تحت عنوان: سيدتى الملكة السابقة.. رفقا بأهل الفن جاء فيه:
“ولكننى أعنى بمناقشة الأمر هنا الحديث عن الأسلوب الذى كذبت به السيدة ناريمان هذه الشائعة.. قالت: وهل معقول أن أتزوج ممثلا ثم قالت: هذه شائعة أحقر من أن أكذبها، ثم قالت: إن فريد الأطرش لا يزيد عن كونه مطربا.
وعلق موسى صبرى على قول السيدة ناريمان: إن من حق السيدة ناريمان أن تكذب أى شائعة ليست صحيحة تتصل بها، ولكن ليس من حقها أبدا أن تنال من طائفة يجب أن يكون لها مكانها فى مجتمعنا.
لم يصدق فريد أن تقول ناريمان تلك الكلمات، فكان يؤكد للمقربين منه أن أصيلة هانم والدة ناريمان هى صاحبة تلك الكلمات الجارحة، ربما إيمانا منه بتقدير ناريمان لفنه وإعجابها الشديد بفنه الذى كان سببا فى انفراد فريد بإحياء حفلا فنيا فى القصر بعد زفاف الملك فاروق وناريمان تلبية لرغبتها لأن فريد مطربها المفضل فلم يتردد فاروق فى تلبية رغبة عروسه.
لم يكن قلب فريد ليتحمل مثل تلك الإساءة، فأصيب بأول أزمة قلبية فى آواخر ديسمبر 1953 وتوقف تصوير فيلمه عهد الهوى حتى يتعافى من أزمته الصحية، لتنتهى حكاية غرام معلنة بداية آلام القلب التى لم تنته بعدها أبدا.
فى 1956 جمع فيلم ودعت حبك لأول مرة بين شادية وفريد الأطرش، ثم فيلم إنت حبيبى 1957، فتوطدت العلاقة بينهما لتتحول إلى حب متبادل. لتبدأ حكاية غرام جديدة قال عنها فريد فى مذكراته: هبت شادية على حياتى كالنسمة الرقيقة“.
ولكن آلام القلب داهمت فريد فسافر إلى فرنسا لعرض حالته على الطبيب، واتصل بشادية من هناك ليخبرها أن تنتظره فى الأسكندرية ليتزوجا فور عودته من باريس، ولكن الزواج لم يتم أبدا، وعندما عاد فريد إلى القاهرة أوائل 1958 وجد شادية تزوجت من عزيز محمد فتحى زوجها الثانى.
خسارة فريد لشادية لم تكن عاطفية فقط، ولكنها خسارة فنية أيضا، بعد أن قررت شادية فسخ العقد بينها وبين شركة فريد الأطرش لانتهاء مدة التعاقد على تقديم فيلم جديد بانتهاء عام 1957.
بعد انتهاء حكاية غرام شادية ظل فريد فى مسار حياته المعتاد من العمل الدؤوب تقديم فيلم سينمائى كل عام حتى 1961 أول لقاء جمع بينه وبين الفنانة الشابة سميرة أحمد ووصف محمد بديع سربية -رئيس تحرير مجلة الموعد اللبنانية- علاقة فريد الأطرش بها فى كتاب “فريد الأطرش بين الحياة والفن” قائلا: “لاحظ الجميع أن الموسيقار الذى ظل فترة طويلة بلا حب، يبالغ فى رعاية سميرة أحمد والاهتمام بها“
ويضيف “سربية” أن فريد اكتفى بالتصريح لسميرة بحبه لها، ولم يلمح لها برغبته فى الزواج منها بينما وضعت هى الزواج شرطا لاستمرار العلاقة بينهما حتى أنها رفضت سيارة “سبور” أرسلها فريد هدية لها أثناء سفره إلى لبنان فى 1967، وتألم فريد لرفضها الهدية ولكنه انتظر حتى يعود إلى مصر ويتفاهم معها، لكن نشوب الحرب بين مصر وإسرائيل فى يونيو أجلت عودة فريد إلى مصر، فانقطعت العلاقة بينهما، وطوت الأيام معها حكاية غرام أخرى.
ظل فريد فى لبنان من 1967 حتى وفاته 1974 تقطع إقامته فى لبنان بعض الزيارات لمصر بينما زادت ارتباطاته الفنية فى لبنان، وظهور سلوى القدسى بطلة آخر حكايات غرام فريد الأطرش التى تعرف عليها أثناء إقامته فى بيروت وأعلن خطبته عليها ولكن القدر لم يمهله فرصة إتمام الزواج، ليتوفى فريد الأطرش فى 26 ديسمبر 1974 بلبنان ويعود إلى مصر بناء على وصيته ليدفن بجوار شقيقته وتوأم روحه أسمهان