لتجربة جليل حيدر الشعرية نكهةٌ تأملية خاصة داخل جيل الستينات في العراق، على رغم أنها بدأت في بواكيرها وثيقة الصلة بسمات تلك الحقبة الضاجة بالاختلاف والخلاف معًا، بما ألقى ظلال الخطاب السياسي المباشر على قصيدته منذ أن ظهر عدد منها في مجلة «مواقف» صيف عام 1969، ومن ثم ظهور مجموعته «قصائد الضد» 1974 و«صفير خاص» 1977 حيث الميل إلى لغة احتجاجية، مشحونة بحدة إيقاعية واضحة. واستمر شيءٌ منها مع انتقاله من الصخب السياسي والانقلابات الدموية في بغداد الستينات، إلى صخب آخر ليس ببعيد في جذوره عند أقامته في بيروت أوائل السبعينات وهو الصخب الذي قاد إلى حرب أهلية شرسة، فلم تفترق تجربته كثيراً عن هذا السياق. فالأجواء السياسية والاجتماعية في بغداد ومن ثم بيروت كانت مشحونة بالحراك والضجة بفعل تداعيات الحرب الباردة وتأثيرها على الشعر. لكن انتهاء حقبة بيروت بعد الغزو الإسرائيلي ومنفاه الأوربي في «مالمو» السويدية منذ عام 1989، أتاحا له عزلة وبرهة ثريتين بالتأمل وهو ما انعكس على أعماله اللاحقة. فمع «طائر الشاكو ماكو» القصيدة التي نشرت أواخر الثمانينات وظهرت كديوان عن دار الجمل عام 1992 بدأ الخروج التدريجي من حالة الصخب. وشرعتْ قصيدته تتخلَّى تدريجياً عن حمولاتها القديمة إلى لغة أكثر صفاء ومعمار أكثر تقشفاً، وتتحول تجربته إلى الاسترخاء في رحلة عكسية إلى الداخل عبر الذاكرة واستعادة حياة يومية بسيطة طالما بقيت مبدَّدة في صخب الصراعات السياسية. هكذا أوجد البغدادي حيزاً آخر، يتناسب مع هويته في كونه ابنا أصيلا لتلك المدينة، في عوالم بغداد القديمة ومقامات المتصوفة. وقد انسحب من ساحات التظاهر، ومقاهي التحزب، أو على الأقل أعاد اكتشاف الثرثرات المنسية في تلك المقاهي، ومنحها بعداً إنسانياً لا تطغى عليه لوثة السياسة القديمة. وهو ما يتجلى بوضوح في ديوانيه الجديدين الصادرين حديثاً «أسد بابل» الهيئة السورية للكتاب و«كأن» دار سطور-بغداد وهما مجموعتان صغيرتان لا تشكل كل واحدة منها السبعين صفحة.
أثر الذكريات
في «أسد بابل» يقتفي أثر الذكريات التي أهملت طويلاً ويعيد الاستماع لما ترويه في «نحيب الشموع في دجلة» حيث طقوس انتظار الخضر على ضفة النهر وترقُّب شفاعته ونيل المراد، وحيث مراقد الائمة والمتصوفة إلى جانب الحانات والمقاهي من باب المعظم إلى باب الشيخ وحتى الباب الشرقي. هذا التقفي للأثر ليس في صحراء موحشة بل بحث في الضفاف الخصبة عن الينابيع الأولى وتقصى الجذور التاريخية للغابة التي تحولتْ إلى جدب وصحراء بعد أن صار عصرنا عصر «الديناصورات السياسيين»: و«ذقنا الثمارَ السامَّة لبُستانِ المعركة.» فقد كان: «يلزمُنا كثيرٌ من الغزو للعودةِ لأنفسنا/ يلزمُنا كثيرٌ من العودة لأنفسنا لنفهمَ الغَزْو».
وإذا ما كانت المسحة الصوفية نوعاً من تكريس التأمل، إلا إنه هنا ليس تأملاً رهبانياً في صومعة، إنما تأمُّلٌ مفتوح على الوجود والوجوه والأشخاص والأشياء، إنها خلوة إلى عالم الذات وليس عزلة وانقطاعاً عن العالم الموضوعي. وهي ليست اعتكافاً على كآبة، بل هي انقطاع عن التشوش والتشتت والاضطراب وتخطٍ سَلِسٌ نحو صفاء داخلي غزير بالذكريات والمشاهد، حتى وإنْ تجلَّتْ كما فيلم «بالأبيض والأسود» كما يقول. وتأمُّل جليل حيدر هو تواصل مع غائب، أو بالأحرى محتجب أكثر من كونه غائباً، هو الماضي الذي يحاول تكريسه واستعادته، وتأمله ليس ذهنياً مجرداً إنما استبطان وجداني ذو ذخيرة زاخرة. وهو بهذا المعنى يقظة الذكريات لا غيبوبة عن الحاضر: «كمن تقذفه موجة الى جزيرة معادية/ ايتها القطيعة اذكريني عند شوارد البال/كلما رنَّ خاتمٌ في صمتي» أو: «المحبة شوق والعناق صحارى وقطاع طرق» وأحياناً يوغل في رحلته تلك إلى ما هو أبعد من الماضي الشخصي نحو الماضي الجمعي، الذي سيكتسب هو الآخر بدعاً شخصيًّا ما، فيجوب فيافي التراث حيث الحنين إلى الصحراء والمدن القديمة تكريس آخر للتأمُّل فتلوح ظلال للمتنبي الجوال في الصحارى بحثًا عن مجد، وابن الملوح: الجوال في البراري بحثًا عن الحب، وأبي نواس جوَّاب المدينة بحثًا عن الحانات.
بيد أن الهم السياسي لم يغب تماماً في شعر جليل حيدر، لكنَّهُ ارتدى غيابًا جمالياً، فعلى الرغم من أن كارثة احتلال العراق، هي البانوراما الخفية في الديوان إلا أنها تحضر بصيغ ذات نبرة شعرية لا صرخة شِعارية: «بغداد مشفى الأرمل/ أفعى تسلخ جلدها عند بئر نفط» لذا رأى فيها أدونيس: «القصيدة العراقية الأولى التي تكتب عن عراق الانهيار الحديث بعد بدر شاكر السياب وهي القصيدة الأولى التي تكتب المنفى العراقي، الأولى بإطلاق!» بينما كتب فاضل العزاوي: «قصيدة تفيض شعرية وتمتلئ بالرموز. وكلُّ مقطع يحلينا إلى ما هو ابعد منه.» وهكذا فإنَّ «أسد
بابل» المصور في التمثال وهو رابض على إحدى فرائسه، لم يعد له ذاك الزئير، فهو يبدو هنا راكعاً ويئنُّ جريحًا، وفي دمعة كبيرة في عينيه تحضر بغداد «الحلاج» و«الجنيد» و«أبو حنيفة» من خلال التأمل في الظلال وليس الإصغاء للصخب: «دع الطبل والتفت إلى الظلال/ حيث تركتها لأبد لم يُفهم عماه» .
قصيدة الصفحة الواحدة
قصيدة جليل حيدر قصيدة الصفحة الواحدة، فما أن تجاوز ذلك الحد حتى تتجه إلى الشعر والغناء والتداعي. ولهذا يفصل قصيدته إلى مقاطع. أو إلى نشيد متعدد الفصول، إذ يبدأ ديوانه الآخر «كأنْ» بقصيدة نثرية طويلة نسبياً هي عنوان المجموعة سماها حركة شعرية، لكنها في الواقع لا تنطوي على عناصر الزخم الفيزيائي للحركة، بل البعد الإيمائي الذي لا يخلو من تجريد موحٍ وتزويق دقيق، حيث تمثل جانب التأمل بصفاء بعيداً عن الغرضية، منذ عنوانها القائم على أداة تشبيه بلا مشبه ولا مشبه به، في صلة وصل بين عالمين يتأرجحان بين الذاكرة والنسيان. إنها نوع من المقارنة الموصولة والمدمجة، بينما يستغني المجاز والاستعارة داخل القصيدة عن تلك الصلة الظاهرة، إلى اقتران ذاتي بين المشبه والشبه به، ليغدو عالم الواقع لدى جليل حيدر قريناً لعالم الحلم عبر استخدامات بلاغية في الصورة. فلا يعود الخيال جامحاً ومنفصلاً تماماً عن الواقع، بل هو محكوم بالحلم، ومهما بلغت غرابة الحلم فإنه، في نهاية المطاف، لا ينفصل عن كونه الجانب الآخر المكبوت وغير المرئي من الواقع اليومي: «كلَّما قالتْ: حبيبي/ يقعُ الطائرُ من قلبي/ مع رمَّانةٍ تنفرطُ على سجَّادةٍ نظيفةٍ.» هذه الحلمية ترتبط بحسٍّ سريالي: «شعراء سرياليون هزُّوا شجرتي/ هطلتْ هواتفُ نقَّالةٌ وتذاكرُ سفرٍ/ وشيوعيون أناروا غرفاً مظلمة لمستأجرين يحملون الأقفالَ لا تماثيلَ لهم» وفي تذكارات «المحب البغدادي» يستعيد مشهدية ستينية بديلاً جمالياً وألقاً عن حاضر كالح، في مقارنة أخرى بين انقلاب 1963 البعثي الدموي، وما سماه «دموية الوقيعة» 2003، وبين مشهدين للشاعر في شبابه وشيخوخته حيث: «جليلٌ يحملُ جليلاً على مَضَضٍ/ كأنه يواسي مريضاً أو يتشفَّعُ لمهزوم».
هكذا يلجأ إلى فضاء بغداد الأبيض، من قبل أن يلوثه دخان الحروب، فيبصره عبر نظارة «منعم سعيد» ويستدعيه في الفلولكور الغنائي البغدادي «يا نبعة الريحان» وفي أنوثة كرادة مريم، قبل أن تتحول إلى ثكنات وأسيجة كونكريتية. هكذا يصبح البحث عن «القداحة السجائر» بديلاًربما يضاهي البحث عن مفهوم الثورة، والمعنى في القصيدة، والحقيقة السامة، وليست السامية!: «كَمَنْ يَتلفَّتُ على قطارِهِ المتأخِّرِ ويبحثُ عن القِدَّاحة».
يصبُّ جليل حيدر مادته الشعرية برقِّةٍ على رغم فداحة المشهد، ويترسل في تجواله في الأنقاض متحدياً وعورة المسير، في شعر بغدادي مشحون بذاكرة بعيدة عن المدينة ومكابدات المنفى حيث الظهور الكابي للحياة، ولافتاتُ سود على أسوار المنفى. وعن العراقي «الذي صدَّقَ كلَّ الوُعودِ وتخلَّتْ عنهُ السموات فجأة» فركَنَ إلى «هاوية بين النأي والبلاد»