قام الأمير شكيب إرسلان سنة 1929 برحلة إلى بلاد الحجاز، وأثمرت هذه الرحلة عن كتاب “الارتسامات اللطاف في خاطر الحاج إلى أقدس مطاف”، لِما كان يتمتّع بثقافة تاريخيّة واسعة وذخيرة معرفيّة وفيرة. وقد ألقت هذه الرحلة الضوء على بلاد الحجاز، فالأمير قيّضت له لغته أن يدوِّن يوميات أدبيَّة حافلة بالجمال والروعة، ومكَّنته من استدعاء كلِّ ما في مخيلته من صور ومشاهد وانطباعات عنها ليرسم لنا في هذه الرحلة صورة ما رأى وسمع.
ذهل الأمير لدى وصوله إلى جدَّة بمنظرين، أحدهما البواخر الكثيرة في المرسى، فقد “يصل عدد الراسي منها في مياه جدَّة إلى خمسين باخرة، وتظن نفسك في هامبورغ أو نيويورك”. أمَّا المنظر الثاني فهو منظر مياه هذا الميناء الذي مهما طاف الأمير في بحار العالم فلن يرى بحراً “يشبه مياه بحر جدَّة في البهاء واللّمعان”. فكان الأمير كيفما نظر يمنة ويسرة، يشاهد خطوطاً طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدُّد الألوان وتألّق الأنوار من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنّابي وبرتقالي وأخضر، كأنَّها قوس قزح مستقيم في الماء، قد تشبه ذيل الطاووس منسحباً على وجه البحر يمتدُّ مئات الأمتار بعرض عشرات منها. ولكثرة “ما قضى العجب من هذا المنظر الذي لا تمله النواظر ولا تشبهه المناظر مهما كانت نواضر”، سأل عن هذا اللمعان الغريب وقد فسَّر له السبب بأنَّ قعر البحر هنا ليس ببعيد، وأنَّ فيه أضلاعاً ناتئة قريبة من سطح الماء وهي الشعاب المرجانية التي تشكل مأوى لأنواع كثيرة من أسماك البحر وأعشابه الملونة، فتنعكس مناظرها إلى الخارج ويزيدها نور الشمس رونقاً وإشعاعاً، كما أنَّ ملوحة البحر الأحمر الزائدة هي السبب في تكوُّن هذه الشعاب التي تكثر في هذا البحر وتنمو وتعلو حتى تقارب سطح الماء، ومنها ما يبرز عن سطح الماء فيكوّن جزيرة.
عمران جدَّة ورواشنها
شبَّه أرسلان بناء جدَّة ببناء القرون الوسطى، كما أنَّ نجارة الأبنية فيها راقية خصوصاً برواشنها التي تغطي الشرفات والمنقوشة بأجمل النقوش. وقد انتابه فرح كبير فور دخوله إلى جدَّة لأنَّها باب مكَّة المشرَّفة، ولشعوره بأنَّه ليس تحت أي سيطرة أوروبيَّة كما كانت حال جميع الدول العربية. “شعرت بأنَّني عربي حرٌّ في بلاد عربيَّة حرَّة، شعرت بأنَّني حرٌّ في بلادي وبين أبناء جلدتي، لا يتحكَّم برقبتي أحد بحجَّة انتداب أو احتلال أو سيطرة أو حماية أو وصاية أو غير ذلك من الأسماء المخترعة التي يراد بها تنعيم الفتوحات وتخفيف مرارتها في الأذواق. شعرت في الحجاز تظلّلني راية عربيَّة محضة حقيقيَّة، لا راية مشوبة بشعار مستأجر تحت قيادة من لا يرقب في هذه الأمَّة ذمَّة، وإنَّما ينظرون إليها كطعام للأمم التي تدَّعي عليها الوصاية وكمتمم لأسباب رفاهيتها ونعيمها”.
لم يجد الأمير الحرارة في جدَّة فوق ما تتحمَّله النفس، بل هواء البحر يرطِّب جو جدَّة وذلك بخلاف مكَّة المكرَّمة التي كان حرُّها شديداً. ومن فوائد الحرارة الشديدة في مكَّة المكرَّمة في أيَّام الموسم، أنَّها تقتل بشدَّتها جميع الجراثيم المضرَّة، فلا تجد في الحج شيئاً من الأوبئة السارية. وأسهب الأمير في الكلام عن المياه وأهميتها، وذكر القنوات والآبار التي شيَّدت منذ عصر الجاهليَّة لاستخراج المياه من وسط الصحراء القاحلة، كالعين التي أسالتها زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد، من مسافة أربعين كيلومتراً والمسمّاة عين زبيدة.
نزل الأمير شكيب في مكَّة المكرَّمة في منزل وكيل الشؤون الخارجيَّة، فؤاد بك، وبسبب انزعاجه من الحرارة المرتفعة أشار جلالة الملك إلى أن ينتقل الأمير إلى محلّة الشهداء بظاهر مكَّة المكرَّمة في مقصف بديع وأنيق في وسطه صهريج ماء عظيم. وفي وصف منطقة الشهداء سجَّل الأمير: “الشهداء هو المكان الذي يقال له في التواريخ الزاهر، بسيط أفيح تلعب فيه الرياح من دون معارض، وأهاضيب إذا أقبل الربيع تكلّلت بالأزهار، فسميّ من أجلها الزاهر. فيه مياه تجري في قني تحت الأرض منذ قديم الدهر، وبقايا قصور لأشراف البلد، ومقاه للسابلين على الطريق”.
الانتقال إلى الطائف
يقول الأمير الرحّالة شكيب أرسلان أن مدينة الطائف مركز عظيم في بلاد العرب لأنّها لمكّة من قبيل لازم وملزوم، ولأنّ إقليمها من أجمل الأقاليم، وثمراتها من أشهى الثمرات، ولكونها متوسّطة في الجزيرة، الحجاز محيط بها واليمن جنوبيها، ونجد والعراق شرقيها والمدينة المنوّرة والشام شماليها.
وجاء وصف الأمير شكيب للطائف كما يلي: “أوَّل ما يدخل الإنسان إلى الطائف، بل أوَّل ما يطل على “لُقَيم” يشعر بالسرور وينشرح صدره انشراحاً لا يعهده إلّا في النادر من البلدان. أمَّا انفساح حدِّها، فإنَّها في بسيط من الأرض أفيح يسرح فيها النظر ما شاء وحولها بعض الجبال العالية ترى من بعيد، وهي مع هذا الانفساح والانفراج والاستواء في الأرض تعلو نحو ألف وستمئة متر عن سطح البحر، وأمَّا طيب النسمة فإنَّك تحسُّ فيها من الانتعاش وسعة التنفس ما لا تشعر به في مكان”.
وما مضى عليه في الطائف إلّا قليل حتى زال مرضه وزكامه، وصار الهواء يجري في رئتيه كأنَّه في الصحراء. وفور عودته إلى أوروبا وبعد المعاينة، أنبأه الأطباء أنَّ الزكام قد زال نهائياً من صدره، وكان الفضل لهواء الطائف.
أوَّل ما يستقبل الإنسان في مسيره إلى الطائف قرية لُقَيم، وهي قرية فسيحة الأرجاء، بيوتها متفرقة وحاراتها متراخية. أكثر البيوت خاص بالأشراف، منفردة ومسوَّرة، تحيط بها البساتين والمزارع، أكثرها كروم العنب. وعنب لُقَيم هو رأس عنب الطائف في اللّذة والحلاوة وكبر الحجم، فتحسبه جوزاً إذا رأيته. وزار الأمير عين سلامة، وهي حارة من حارات الطائف، جرَّ أمراء ذوو عون الماء منها إلى شبرة على مسافة نصف ساعة، وأحدثوا عليها بستاناً بديعاً تحوَّل إلى قصر. وقد أكَّد الأمير أنَّ هذه العين هي أغزر عيون تلك البلاد.
ويرجع الفضل إلى تسمية المنطقة بالطائف إلى الحائط المحدق بها ومنه قول أبي طالب عبد المطلب: “نحن بنينا طائفاً حصيناً”. وقد اهتمَّ الأمير كثيراً بالكتابات المنقوشة على الصخور، فنسخ ما قرأه في جبل السكارى في وسط الطائف وبعث به إلى برلين لتحليلها. فكانت من الخط الكوفي القديم، تعود إلى القرن الأول للهجرة وربما كان بعضها من زمن الجاهليَّة.
من هو الأمير شكيب أرسلان؟ وُلد شكيب أرسلان في 25 كانون الأول سنة 1869 في قرية شويفات التابعة لمنطقة الشوف من جبل لبنان. يتسلسل نسبه حتى يبلغ جدّ الأسرة التي اشتهرت به وهو الأمير إرسلان. تعلّم شكيب تلاوة القرآن وحفظ أجزاء منه. التحق بالمدرسة الأميركيّة في الشويفات، ثم بمدرسة الحكمة في بيروت، وكانت يومذاك مشهورة بإجادة تعليم اللغة العربية على أصولها وقواعدها. بعد ذلك درس الفقه الإسلامي في المدرسة السلطانيّة، كما أتقن اللغات الفرنسية والإنجليزية والتركية والألمانية فضلاّ عن لغته العربية الأمّ التي كان من عشاقها الكبار وكتّابها المرموقين حتى حاز لقب “أمير البيان”. عُيّن مديراً لمدرسة الشويفات لسنتين، ثم قائممقام مقاطعة الشوف فترة ثلاث سنوات، واختير نائباً عن حوران في سنة 1909. زار دمشق ومصر وسافر إلى الآستانة ثم فرنسا حيث تعرّف إلى الشاعر أحمد شوقي.
بعد الحرب العالميّة الأولى استقرّ في بلدة مرسين التركيّة القريبة من الحدود السوريّة. وبسبب السلوك المتعصّب للنخبة التركية هناك وتخلّيها عن العروبة لصالح نزعتها الطورانيّة نفر من تركيا وأخذ يدعو إلى وحدة عربيّة. وفي سبيل هذا الهدف القوميّ سافر إلى برلين وأخذ يكتب ويُجاهد بقلمه من أجل الإسلام والعروبة. وبعد ذلك انتقل إلى جنيف واستقرّ فيها. وفي 1922 شارك في الوفد السوري الفلسطيني للدفاع عن القضايا العربيّة أمام جمعيّة عصبة الأمم في جنيف، ثم أسسّ جمعيّة (هيئة الشعائر الإسلامية) في برلين سنة 1924 لتهتمّ بأمور المسلمين في البلاد الألمانيّة. وقد وضع أرسلان العديد من المؤلفات في حقليّ التاريخ والأدب، وكان نشاطه كبيراً كمحاضر مدافع عن قضايا العرب والمسلمين، ومشهوداً له في شتَّى المحافل.