الفنان الفوتوغرافي الرائد جاسم الزبيدي ( رحمه الله )
لم أجد في حياتي رجل يناضل ويكافح بكاميرته من اجل الطفولة .. ومن اجل الحياة … والإنسان ،
كما رأيت عند فنان الثورة والحرية جاسم الزبيدي . رجل حمل كامرته كما يحمل المقاتل سلاحه وغادر مع الفدائيين ليشاركهم عرسهم في عملياتهم القتالية وحتى يوثق تأريخ نضالهم في التحرير.. ويوثق معهم الشهادة في العمليات البطولية وآخرها عملية – أم العقارب – عام 1975 . ثم حط رحاله مع الثوار الاريتريين وواكب مسيرتهم النضالية فكان يقيم معهم وينام في العراء معهم ، ويرتحل معهم على البغال … كانوا يحملون البندقية والقضية … وكان يحمل الكاميرا والأمل والحلم الكبير .. حلم كسر نير عبودية الإنسان للإنسان .! ذاك الحلم لم يفتأ يفارقه أو يزيغ عن فكره رغم أزيز الطلقات وانفجار القنابل والعطش والجوع في القفار . لم تكن الثورة همه الوحيد … بل كانت الطفولة جل همه ، حيث لاوطن سعيد بلا طفولة سعيدة هانئة .. ( هكذا كان يقول ) . كان يسعى كي يؤسس فوتغرافا إنسانيا من صميم الواقع المر للطبقة العاملة المسحوقة .. فوتغرافا يناجي المشاعر الإنسانية .. ويمتلك القلوب قبل العيون التي تتأثر بمظاهر الترف والبريق الفوتوغرافي .. يحمل بين طياته هموم الإنسان وأحلام الطفولة وبشاعة المحتل وقوة الإرادة .. فنا يختلف عما كان يعرض في صالات العرض العربية والأوربية. فكيف كان يوفق لذلك ؟؟ كان جاسم الزبيدي رحمه الله فنانا متواضعا ، ودودا ، ذو خلق عال ، حين يبدي رايه بموضوع يتعلق بالفوتغراف فأنه يتحدث كالناسك المتعبد لهذا الفن .. وأذ ما تناول موضوعا حياتيا يحمل طابع التفكه ، فهو ضاج بضحكته المجلجلة المتميزة ، بالإضافة لهذا كله فهو من عشاق التصوير بالأسود والأبيض .. بل كان ذو حس مرهف إزاء تذوقه للضل والضوء !! كان يشرح لي كيف يتذوق الضل والضوء فيقول : انا اشعر بالضوء ينساب من الأعالي كقصيدة الاهية تغازل الأشجار والشوارع ووجوه النساء والأطفال فأحس بطعمها وحلاوتها ورقتها .. فيأتي الظل ليضيف من عتمته القسوة .. والأمان.. والحب ! يبتسم جاسم الزبيدي ليضيف : الله خلق كل هذا الحب وهذا الطعم العجيب من شهد الضوء والظل فكيف لا نتذوقه . كان جاسم الزبيدي شاعر، رقيق بصوره ، حساس بدلالات مواضيعه .. كلماته الكاميرا والعدسة .. حروفه وجوه الأطفال والمناضلين ، ووجوه الناس التي خطت بعرق الهم والأحلام المنطفئة !! حيث كان من الممكن لاي شئ ان يؤثر بهذا الفنان الذي يحمل بين جنبية قلبا عاطفيا رقيقا ، كان محبا للخير .. للناس ، بل حتى للذين يحملون له البغضاء . امتلك جاسم الزبيدي تلك الرؤيا الفوتوغرافية وذاك النبوغ وذاك الحس من تربيتة ، حيث ترعرع في عائلة كادحة تناضل لأجل تربية أبنائها وتنشئتهم فكان رحمه الله في أيام شبابه مغرما بالصور التي تعرضها الاستوديوهات في واجهاتها الأمامية في مدينتهم الصغيرة . فأذكر انه كان يقول لي :- كانت الصور المعروضة تسحرني .. فأقف دقائق طوال أحدث نفسي كيف بالإمكان نقل الحياة على ورق ؟ وما هو ذلك السحر ؟ . وفي ريعان شبابه اشتغل بتلك المهنة التي أسحرته وسلبت لبه .. ثم افتتح أستوديو صغير في مدينته محافظة ديالى – بعقوبة – اسماه ( ميسلون ) فكان أسلوبه في ذلك الوقت فيه شئ من الغرابة بالنسبة للمصورين الآخرين اذ كان يصور وجوه الناس والفقراء والفلاحين والعمال ويعرضها على جدران الأستوديو … وكان يشعر بالسعادة حين يرى الفرحة بادية على وجوه زبائنه الكادحين المسحوقين… كان يريد إن يقدم لهم شئ أي شئ كي يمسح جزء بسيطا من آلامهم وهمومهم .. وكان أيضا يحس ان عدسته أوفت بواجبه الإنساني اتجاه هؤلاء الناس الذين يشاركونه العيش على هذه الكرة الأرضية . من خلال هذه الرؤيا الشمولية للواقع الإنساني المرير الذي كان يواكبه الفنان جاسم الزبيدي تولدت لديه ثقافة فوتوغرافية وتكوين للمشهد الدرامي الفوتوغرافي وعمق الإحساس الفني والاجتماعي وصدق التعبير ، فصارت الكاميرا رفيقته .. بل وحبيبته الأولى والأخيرة !! فكان لايحملها إلا وهي مغطاة بقماش نظيف جدا ، ومعبئة داخل حقيبتها .. واذ ما أراد ان يخرجها من الحقيبة … فكأنه يحمل طفلا صغيرا بين يديه ! وفي مطلع الستينات ومن خلال علاقاته اكتشف بعض الصحفيين عن إمكانات جاسم الزبيدي المتقدمة برؤيته للمشهد الصحفي … فعرضوا عليه فكرة العمل بالصحافة … فعمل وأسس قسم التصوير الصحفي بمجلة ( إلف باء ) . فصار همه اكبر وحلمه أوسع بأن يكون هناك وطنا واحدا بلا أسوار تحده . فكان الاستعمار بالنسبة إليه يعني الفقر والجوع والظلم والتخلف وقتل الطفولة … لذا سعى إن يقدم للعالم العربي والعالمي معنى النضال ومعنى التحرر ,, ومعني إن يكون الإنسان أنسانا حرا . لم تعد الصحافة ترضي طموحه الكبير فحمل كإمرته ورحل مع الفدائيين الفلسطينيين.. والاريتريين …… ونقل للعالم صوره التي هي همه وقضيته.. من خلال معارضه التي أقامها في لندن .. وباريس .. وروما .. وبعض البلدان العربية . معارض تحكي قصة شعب.. وقصة وطن .. وثورة .. وحياة .. وطفولة ضائعة .! فكانت إعماله صرخة مدوية .. وعدسة وثقت .. ونور لينطفئ . – في عام 1967 شارك في معرض المعركة الأولى .. قضية فلسطين – وفي عام 1968 أقام معرضه الأول ( قصة شعب ) عن الشعب والثورة الفلسطينية – عام 1970 أقام معرض (الإنسان والموت والثورة ) عن نضال الشعب الاريتيري والثورة ضد الاحتلال الإثيوبي – عام 1975 أقام معرضا عن ( إبطال أم العقارب ) لمجموعة فدائيي فلسطين – وعام 1976 معرض ( عمان الشعب والثورة )عن الشعب العماني – عام 1977 و 1978 معرضا عن الشعب الفلسطيني ( وثيقة من تل الزعتر ) – عام 1980 و 1981 معرض ( أطفال بلا طفولة ) بيروت – عام 1982 و 1983 معرض ( الوطن والحياة ) – وفي عام 1987 أقام معرض ( الوطن .. التحدي .. الحضارة ) – وأخيرا في عام 1991 أقام معرض ( 25 عاما دفاعا عن العراق وفلسطين والثورة العربية ) – وفي عام 1991 عمل مع مكتب رعاية الطفولة والبيئة في الأردن ، ثم عاد للعراق وكان ينوي إن يقيم معرضا عن أطفال العراق مابعد الحرب …. لكن الموت حال دون ذلك . لو تتبعنا مسيرة الفنان جاسم الزبيدي لوجدنا إن جل همه كان ينصب بالإنسان .. والتحرر.. والثورة .. وقضايا الأمة .. والطفولة . أي انه كان ذو وعي وثقافة إنسانية شمولية.. لم تشغله أبدا تفا هات الحياة ومباهجها. والأرض.ان الفوتوغرافي جاسم الزبيدي عام 1940 وتوفي عام 1991 وكانت حياته ينبوع دائم مذاقه أبدا حب الناس .. والأرض .. والطفولة.