Saad Alkassem
الجلاء كلمة وصورة
سعد القاسم
16 نيسان/أبريل 2019
منذ تحررت سورية من الاحتلال الفرنسي أضحت معركة ميسلون بوابة كل حديث عن جلاء قوات العدوان الفرنسي عن سورية، كما أصبحت رمزاً وطنياً تتمثل فيه معاني الكرامة والتضحية فكُتب عنها ما لا يحصى من نصوص المديح قد يكون أشهرها عربياً، قصيدة أحمد شوقي في تمجيد بطلها يوسف العظمة، ومن أبياتها:
مشى، ومشت فيالقُ من فرنسا تجرُّ مطارف الظفر اختيالا
ملأن الجوَّ أسلحةً خفـافًا ووجـهَ الأرض أسـلحةً ثقـالا
أقام نهارَه يلقي، ويَلقــى، فلما زال قرصُ الشَّمس، زالا
فكُفِّنَ بالصوارم والعوالي، وغُيِّبَ حيث جالَ وحيث صـالا
وكما شوقي نظم كثير من شعراء العربية قصائد مديح في ميسلون وبطلها، تتقدمها قصيدة عمر أبو ريشة التي تحولت إلى أهم أغنية وطنية منذ غنتها سلوى مدحت بلحن فيلمون وهبه أواخر أربعينات القرن الماضي، وأعادت غناءها بعد سنوات طويلة ربى الجمال ومن ثم كثير من المغنيات السوريات وأحدثهن غادة حرب. كانت (عروس المجد) دائمة الحضور في الإذاعة السورية على امتداد أيام حرب تشرين التحريرية عام 1973، ورسخت في الذاكرة الجماعية بلحنها البارع وكلماتها ذات الأثر العميق والإيقاع الشعري المؤثر، وخاصة المقطع الذي يحكي عن معركة ميسلون حيث يقول:
كمْ لنَا من ميســــــــــلون نفضَتْ
عن جناحيها غبـــارَ التــــــــعبِ
كمْ نبتْ أســـــــــــيافُنا في ملعبٍ
وكبتْ أجيادنا في ملـــــــــــــعبِ
شـــــرفُ الوثبةِ أنْ تُرضيَ العُلا
غُلِبَ الواثــــــــــــبُ أمْ لم يُغْلَبِ
فهذا المقطع منح الشرف لا لتحقيق الإنجاز، وإنما لإرادة التصدي للعدوان مهما بلغت قوة المعتدي، ليضع بالتالي مبادرة يوسف العظمة والرجال الذين قاتلوا معه في أعلى درجات القيم الإنسانية. وهو ما كان في وقائع الحدث، فيوسف العظمة كان يدرك تباين القوة بينه وبين العدو الفرنسي، وكان يعلم أنه لن ينتصر على الأرض، لكنه كان ينشد انتصاراً معنوياً يحول دون أن يُقال أن جيش الاحتلال الفرنسي دخل سورية دون مقاومة، وإلا لاحتلت صفحة التاريخ، بدلاً عن صورته، صورة العملاء الخونة الذين ربطوا أنفسهم مكان البغال التي جرّت عربة الجنرال الفرنسي إلى دمشق.
وفي الفن التشكيلي كانت معركة ميسلون موضوع إحدى لوحتين عن الجلاء صورهما الفنان الرائد سعيد تحسين، والثانية لوحة (الاعتداء على المجلس النيابي)، والتي ربما لم تعرف لوحة سورية من وفرة الاستشهاد بها ما عرفته هذه اللوحة ففي كل مرة تطل بها ذكرى الهجوم الوحشي الذي نفذه الجيش الفرنسي على مبنى البرلمان السوري لا يجد العاملون في الإعلام بحوزتهم سوى صورة اللوحة التي رسمها الفنان الرائد سعيد تحسين في عام الجريمة ذاته (1945) والمحفوظة في المتحف الحربي بدمشق، لترافق موادهم الصحفية والتلفزيونية. غير أن ثمة لوحة مغمورة لفنان رائد آخر تتعلق بتلك المرحلة تستحق التوقف عندها، إنها لوحة تحمل عنوان (يوم لم يكن لدينا جيش) للفنان الرائد ميشيل كرشة، وقد أتيح للجمهور مشاهدتها قبل بضع سنوات فقط خلال معرض استعادي للفنان أقيم في المتحف الوطني بدمشق وكانت كشفاً بمعنى الكلمة لأنها ردت اتهاماً ظالماً قديماً عن ميشيل كرشة، وأضافت للحياة الثقافية السورية عملاً على درجة عالية من الأهمية الفنية والتاريخية والرمزية. في لوحته هذه ينحو ميشيل كرشة (الانطباعي) صوب التعبيرية الرمزية حيث يتخيل مشهداً رمزياً لنهاية الاحتلال الفرنسي لسورية فيحشد في القسم الأيسر من لوحته جنود الجيش الفرنسي يتقدمهم الجنرال (غورو) وضباطه وكبار المستثمرين، وفي آخر الحشد جنود المستعمرات. ويجمع في القسم الأيمن أرامل سوريات متشحات بالسواد وبينهم أطفال. وبين المجموعتين قبر يخرج منه طيف شهيد. في هذه اللوحة ذات التأثير الوجداني القوي كشف ميشيل كرشة عن إدراك مبكر عميق لضرورة وجود جيش وطني قوي يرد المخاطر عن البلاد أياً كان نوع هذه المخاطر وأياً كان مصدرها.
صور الفنان المعلم محمود حماد جرائم الفرنسيين في سورية من خلال واقعة قصفهم لدمشق في لوحة غير شهيرة رغم أهميتها الفنية والتعبيرية، وهناك أيضاً لوحة ثانية عن معركة ميسلون قد تكون أشهر وأهم ما صور عنها، وهي اللوحة التي تحمل توقيع الفنان عاصم زكريا وقد سمع من جده لأبيه الذي قاتل فيها الكثير عن تفاصيلها، هذه اللوحة التي تنتمي إلى المدرسة الرومانتيكية (الرومانسية) تنطلق من الرواية الشعبية السائدة التي تحوّر وقائع وتلغي غيرها لتكرّس، تشكيلياً، صورة متخيلة تبرز شجاعة وبسالة المواجهين لعدو لا نراه، فيحتل رسم يوسف العظمة قلب اللوحة شاهراً سيفه وحوله فرسان وخيول ترتفع فوقهم راية الجيش السوري، غير أن هذه اللوحة رغم أهميتها الفنية التاريخية تكرّس ذلك التصور غير الدقيق الذي روجته الرواية الشعبية عما حدث في ميسلون، فيوسف العظمة لم يكن مجرد مقاتل مستعد للتضحية بحياته في سبيل إعلاء قيمة عليا، وإنما كان قائداً عسكرياً خبيراً وقديراً قاد القوات العثمانية في معارك كبيرة حاسمة، لم يتجه إلى ميسلون منتحراً وإنما مقاوماً وضع كل خبرته لصد العدوان بعد أن جمع ما استطاع من متطوعي الجيش الذي حله الملك فيصل إذعاناً لإنذار (غورو)، والذين شكلوا القسم الأعظم من المقاتلين في ميسلون، إضافة إلى بعض من المتطوعين الوطنيين المخلصين، ورغم ذلك استطاعت تلك القوة الصغيرة غير المتجانسة أن تلحق خسائر في الجيش الفرنسي مع بداية المعركة رغم تباين القوى، وكان لها أن تفعل أكثر لولا خيانة وغدر بعض القوى التي استعان بها جيش العدوان.
ويكاد الكفاح الوطني في سبيل التحرر من الاستعمار الفرنسي أن يكون حاضراً في كل الأعمال الدرامية التلفزيونية السورية التي تناولت تلك المرحلة، رغم كونها أعمالاً اجتماعية، لا تتعلق بالتوثيق التاريخي أساساً، غير أن التاريخ كان حاضراً بقوة كخلفية للأحداث الحياتية اليومية للسوريين بمختلف فئاتهم الاجتماعية، كما هو الحال في مسلسلات شهيرة مثل: أمانة في أعناقكم، دمشق يا بسمة الحزن، هجرة القلوب إلى القلوب، أيام الغضب، حسيبة، الداية، أبو كامل، حمام القيشاني، وقد يكون أحدثها ملح الأرض (ملح الحياة) وقد كتب نصه حسن م يوسف، وأخرجه أيمن زيدان وتدور أحداثه مع نهاية الانتداب الفرنسي على سورية مسلطاً الضوء على تواجد الإنكليز والفرنسيين في المنطقة، والظلم الذي أصاب السوريين بسببهم.. ولا يزال.
* اللوحة : محمود حماد – القصف الفرنسي لمدينة دمشق 1945
http://thawra.sy/in…/saad_elkasem/171683-2019-04-15-22-12-28