نصوح زغلولة يحاور دمشق القديمة بعدسة أخرى تستضيفه صالة «أيام» في معرض جديد تستضيف صالة «أيام» في دمشق، معرضاً للمصور الضوئي السوري، المقيم في باريس، نصوح زغلولة، وهو واحد من أهم المصورين الضوئيين اليوم باشتغاله على المادة البصرية من موقع آخر، إذ يحول الملموسات والوقائع الى لوحات تجريدية. قدم لأعمال هذا الفنان، يوسف عبد لكي، وهنا نص المادة: هذه أعمال ستذكرها دمشق طويلاً؛ لعمقها ورسوخ بنيتها، إنها أعمال لا أثر فيها للعواطف السهلة ولاللتناول الفلكلوري للأمكنة، ولا للحظة العابرة، على أهمية اللحظة العابرة وقدرتها في أحيان عديدة على الكشف. لقد انتقل نصوح زغلولة عبر ثلاثة عقود من الجهد والتطلب المهني من الصورة “الراوية” الى الصورة “التجريد”. من الريبورتاج والمهارة والحدث، الى مهابة الصمت. بدأ شغفه بالصور وهو مراهق في أحياء دمشق، راح يتعرف على الآلة وعدساتها، ثم الأحماض والتظهير والغرفة السوداء، ساقه ذلك في وقت لاحق الى كلية الفنون الجميلة في دمشق، وسرعان مادرس فيها التصوير الضوئي، غير أن أشواقه وضعته أمام السفر في أوائل الثمانينيات، فدرس التصوير في المدرسة الوطنية العليا للفنون الزخرفية في باريس، وأثار لجنة التحكيم عند تخرجه لأنها اعتبرت أنه لم ير من عاصمة النور إلا وجهها الآخر: مسحوقي شوارعها. بعد ذلك راح يراكم آلاف الصور والأفلام وأطباق الطبع الملامس، وهو من كل حفنة أفلام لا ترضيه إلا صورة، ثم سرعان مايعتبرها غير جديرة بالتظهير وقاده تشدده المهني الى أن يرفض كل العروض لتنظيم المعارض لصوره، معتقداً ان اللحظة المناسبة لم تحن بعد!! خلال ربع قرن من إقامته الباريسية عمل على موضوعات متباينة، تناول الشارع بما يحفل به من تناقضات وبؤس وانهيار الى القعر العاطفي والإنساني كما نلمسه في وجوه العاطلين والمدمنين والمهمشين، وذلك على خلاف الصورة النمطية المترسخة عن العاصمة الباريسية تناول أيضاً مجموعة كبيرة من الموديلات العارية، التي لامس فيها الغنى البصري للجسد نائياً بعدسته عن مغزاه الجنسي، كما عمل على حيوانات حديقة جوسيو (Jussieu) فالتقط لحظات أليفة في حركة ووجوه الحيوان بعيداً عن الطرافات المعتادة في هذا الحقل. كما صور في حديقة اللوكسمبورغ (Luxembourg) السكينة التي يشعها الثلج في حواره مع كتل الكراسي السوداء الغرقة في بياض وحدتها، ولم يفته الحي اللاتيني حيث عاش أغلب سنواته هناك، فتناول المشاهد العريضة للحي، ولمحطات القطارات والمناظير العلوية للأمكنة الفسيحة والساحات، فاهتم بالمغزى الغرافيكي للمشهد أكثر من إغراءات التسجيل ثم البورتريهات.. وكما عمل نصوح على بورتريهات النساء التي عشق، كان يصور الواحدة مئة، مئتين ثلاثمئة صورة، يتطلع الى تعابير الوجه، الى ترجمة النموذج لأحاسيسه الخاصة. كانت رغبته الحقيقية هي القبض على مايخفيه القناع تحت الجلد الأملس. كان يكتفي بالفرجة دون أن يظهّر أو يكبّر الصور. ياللأنانية!. ثم كانت هناك رحلاته السنوية الى دمشق، في كل مرة كان يعود فيها محملاً بكدسة من الأفلام حول موضوع واحد، غير أنها كلها كانت مجموعات مصورة من الأحياء القديمة في دمشق، كأن تلك هي دمشق الوحيدة التي يعترف بأصالتها أو جاذبيتها، صوّر القيمرية وباب السلام والقشلة وباب توما في مشاهد ليلية واسعة، ورغم الضوء الخاص في هذه المجموعة فإنه سرعان ماعمد الى نسيانها، وأظن أنه سيعمد الى نسيانها طويلاً في مجموعة أخرى، صورّ المدينة القديمة من مآذن الجامع الأموي، ولا نستطيع أن نمنع أنفسنا من مقارنة أسطح الحي اللاتيني المغطاة بالتوتياء بأسطح دمشق المطرزة بالأطباق اللاقطة للقنوات الفضائية!! في مجموعة أخيرة تشكل الجزء الأساسي من معرضه الأول الذي يقام في دمشق نزل نصوح الى أرض الأزقة وفي هذه الأعمال يظهر كل ماراكمه المصور على مدى عقود من خبرة وإيجاز وتشدد غرافيكي. يثبت المصور عدسته في هذه المجموعة على حركة الظل والضوء في الأزقة القديمة لدمشق، وهو يبتعد عن كل مايخص المكان من مغزى فلكلوري أو حنيني، فلا نجد هذه الـ دمشق لاجدرانها المتكئة على بعضها، ولا مآذنها البديعة (على خلاف مآذن هذه الأيام الشاهقة، والفاقدة لكل جمال أو حساب معماري رصين) ولانوافذها المهلهلة ولانساءها المتشحات بأسود الستر ولادكاكينها الرابضة منذ قرون في بلهنية العادة. كل ذلك لانجده ربما لأن عدسة نصوح قد اتخمت منه في العقود الماضية، لذا نراها اليوم تتخفف من أحمالها وتمضي الى الجوهري في الصورة: الى متانة بنيتها وحساسية ملمسها وقدرتها على الإيحاء. هكذا نجد أنفسنا أمام صور تجريدية، الكتل تقترب من التجريد الاختصاري (Abstraction minimale) الكلمة فيها للأسود في حواره القاسي مع بياض ضوء الظهيرة. ظل أسود لجدار على اليمين يجيب دون وجل على ظل أسود لعمود كهرباء بالكاد نتبين ملامس الأرض أو الحجر المرصوف ولا نجد أسلاك الكهرباء بل سواد التواءاتها على الأرض كأفعى وقورة تدل الى عمق الشارع إنه حوار ظل مع ظل وصراع أسود شاهق مع فراغ، هكذا لانجد جداراً ولاحياً ولابشراً بل ظلالاً، كل ذلك في لعبة يصبح فيها الشيء ظله، والظل أصله، في لعبة توازن بين الكتل الكبيرة الصماء وهي تفتك بالمربع الأبيض، وعندما يرفع نصوح عدسته من الأرض الى السماء فإنه يحقق النتائج نفسها إذ لانجد في السماء إلا بضعة بقع بيضاء سابحة في سواد كثيف لا تشي بأية ترجمة توضيحية لفكرة الأسطح القديمة في علاقتها مع السماء الفسيحة إنه ولهٌ آخر بالسواد. لنا أن نسأل هل هناك دمشق في كل ذلك ؟! نعم نعم إنها هنا، بلحمها ودفئها وصوت أزقتها العميق ذلك أننا نحس حضورها الكثيف رغم أن لاشيء يظهر ذلك صراحة.. إنه سر من أسرار الفن الذي خالف العقل البارد، ويالها من مخالفة محقة حين تضمر الصورة الشيء ولا تقوله كحسون يزقزق على هواه، فنعرف أن الصباح أطل. الصورة هنا تتجاوز الثرثرة، توضيح الموضوع. لا يخص الصورة دمشق وحدها، بل تصبح رصداً للصفاء الذي يحل على المدينة تصبح احتفاء بالصمت. ها قد أتيح لدمشق أخيراً مصور يرضي أنانيتها، لايصورها، بل يجعلها موضوعاً للخيال. المصدر: تشرين |