التصوير الضوئي» يوثق الجمال اللبناني
الأزقة والأدراج القديمة في دير القمر التي تعود إلى الإمارة المعنية والشهابية
لبنان – بيروت: مازن مجوز
يطل على المشاهد – القارئ بصورة من يعيد خلق الطبيعة ومظاهر الحياة والفعل الإنساني بآلة التصوير، وهو أمر ليس واردا على الصعيد الفعلي.. لكنه يتحقق عندما يتمكن المصور الفنان من قراءة كل ذلك من زاوية مختلفة، وبعين مختلفة، فكأنه يدخل إلى الأعماق فيرى ويظهر ما لم يكن ظاهرا بجلاء.
فالصورة أصبحت اليوم عصية ومنفلتة، حتى لو بدت محاكية للواقع، فليس هناك واقعية في الفن، بل رؤية خاصة للمصور تجاه الواقع، حيث ينصب عمله الفوتوغرافي في الحصـول على اللقطـة المثالية، وعلى «التصويب» مرات كثيرة، مقتربا ومبتعدا، موســعا أو مضيقا، وفي هذه الأثناء يجرب لقطات عدة متنوعة في الإضـاءة والظل، وفي زاوية العدسة والوضعية والخلفية ودرجة التمحيص.
ويقول المصور الضوئي كامل جابر الذي يعتبر أحد أبرز المصورين الضوئيين في لبنان في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الصورة لغة صامتة تنطق وتخطو بثقة، تخاطب الحياة بسكونها، فكيف إذا كانت ضوئية، تلهم الخيال وتتعدى إطارها بحدوده الأربع في تجسيد ثلاثي الأبعاد؟».
ويتابع جابر بأن قيمة الصورة الضوئية وعظمتها تأتي من عوامل عدة، منها طريقة التصوير وندرة اللقطة، وقيمة المكان التاريخية أو السياسية أو الاجتماعية المأخوذة فيها.
وجابر هو مراسل ومصور صحافي وإذاعي ميداني، صدرت صوره الفوتوغرافية في الصحافة اللبنانية والكثير من الصحف العربية العالمية، ومنذ 1993 تصدر صوره في الصحافة الأجنبية عبر وكالة «رويترز» التي كان مصورها في جنوب لبنان حيث التقط صورا استثنائية لمعارك يوليو (تموز) 1993 ويوليو 2006، والاعتداءات الإسرائيلية الأخرى، على مدينته النبطية خصوصا، وعلى الجنوب عموما، وكانت له صور خارقة عن احتلال بلدة أرنون وتحريرها فيما بعد.
وبالعودة إلى تعريف التصوير الضوئي نجد أنه مجموعة كبيرة من الخطوات الصغيرة التي شجع عليها الفضول والحاجة والرغبة الأزلية عند الإنسان لتثبيت الحدث ووقف عجلة الزمن. وقد كان لفناني أوروبا – في منتصف القرن التاسع عشر – صولات وجولات مع ما يسمى بـ«الإيميج» أي الصورة المنشأة، وقد نجحوا في تحقيق الكمال في الرسم الزيتي وصنع التماثيل.
وليس بمستغرب أن يبتكر الاسم من جذرين لاتينيين وهما: «فوتو» وتعني «ضوء»، و«غرافي» وتعني «رسم»، وقد قام بهذا الابتكار رجل يدعى سير جون هيرشل عام 1839، بيد أن التصوير لم يولد بل تطور عبر خطى التطور الضوئي والكيميائي.
وبالعودة إلى لبنان نلاحظ أن الأرمن هم من حملوا هذه الحرفة إليه عام 1900، حيث كانوا على بينة من عملية التصوير والاهتمام بالصورة.
وبعدها راح التصوير في بلد الأرز يتطور من الأسود والأبيض إلى الملون، حتى أصبح لبنان منذ سنوات يجاري أي تطور في التصوير الضوئي بفضل كوادر المصورين فيه، علما بأن جميع المستشرقين الذين زاروا العاصمة بيروت قبل عام 1900 وبعده هم من ساهم بشكل أساسي بتشكيل ذاكرة لبنان «الصورية» لافتقاره إلى الاستوديوهات آنذاك، وفق جابر.
إلقاء نظرة على أعمال الفنان العريق الفوتوغرافية في مجموعته التي تحمل عنوان «ذاكرة الجنوب.. عين وأثر»، يطرح تساؤلات محيرة، ومنها: «هل الفن كما قال أرسطو قديما هو محاكاة للطبيعة أم أن الطبيعة والحياة تحاكيان الفن كما قال أوسكار ويلد؟».
ويعد هذا الكتاب الأول لجابر، وهو موسوعي القطع، وقد بلغ عدد صفحاته 199، حافلة بالصور الفوتوغرافية، وأصدره عام 2005 في الذكرى السنوية الخامسة لتحرير الجنوب اللبناني من الاحتلال الإسرائيلي.
وقد حملت الصفحات تعليقات ومعلومات من التاريخ القديم والمعاصر باللغتين العربية والإنجليزية.
وقبيل نهاية ذلك العام أصدر جابر كتيب «إقليم التفاح – العين ترصد الذاكرة» بعده، وفي عام 2008 أصدرت وزارة السياحة كتاب «لبنان الجنوبي – عين تحاكي الجمال»، وهو كتاب مميز جدا عن الجنوب اللبناني ويقع في 240 صفحة، وقد فاقت تكلفته 25000 دولار – وحتى اليوم لا تزال الوزارة تعتمد على الكثير من مجموعات جابر – ثم تلاه في عام 2011 كتاب «إقليم التفاح – العين ترصد مقامات الجمال»، وأخيرا كتاب «الهرمل الجمال – ماء العين الزرقاء» كون هذه المدينة البقاعية تستحق دليلا إنسانيا وسياحيا موثقا بنظر مؤلفه.
وقد صنف هذا الكتاب على أنه أول موسوعة صور ضوئية عن مدينة الهرمل، وهذا ما أثار استغراب الكثيرين من زملائه، كونه ابن مدينة جنوبية تبعد عشرات الكيلومترات عن الهرمل.
ومن الملاحظ أن جابر حرص على ورود كلمة «العين» في عناوين الكتب الخمسة، كونها تعني الصورة والمشهد والضوء، وعلى تقديم الشرح الخاص بكل صورة.
ويرى جابر أن الصورة الضوئية هي صورة يتلقفها المصور بعينيه وفكره وأحاسيسه فيلتقطها، بعد أن يعيش خلف العدسة لحظات مصيرية لنقل الحدث، لا سيما في المناطق الساخنة والحساسة، كالجنوب اللبناني المكتوي بصور النار والدمار.
في المقابل ثمة صور مختلفة في هذه الأرجاء المفتوحة على السماء والبحر والجبال، المتنوعة بتضاريسها وطبيعتها، وما تحتضنه الأرض من آثار للحضارات والتاريخ، وفي ذلك يقول: «صور أرست علي سحرها، فجذبتني نحوها وكأنها أسرتي وعائلتي، حتى صرت أركض خلفها مخافة هروبها أو اندثارها أو انطوائها، من مكان إلى مكان، أفتش عنها بين تلال ومنبسطات، في أوقات الشروق والغروب لأحيل خيوط الشمس الذهبية إطارا جميلا وبهيا».
واللافت أن رصيد جابر من الصور الضوئية يزيد اليوم على 500 ألف صورة، وهو حاليا بصدد إصدار كتاب يحمل عنوان «وجوه من الزمن الجميل» يتضمن مقابلات قيمة مع أهم الشعراء والرسامين وأهل الفن والطرب في لبنان.
وفي الختام يبدي جابر أسفه على أن التسويق لهذا النوع من الفن من خلال كتبه يتطلب مبالغ مالية مرهقة، لكنه يؤكد استمراره في «شغفه» حتى النهاية.