وظيفة الفن وغايته
أ. صالح بن أحمد الشامي
تاريخ الإضافة: 11/5/2015 م
إن «التعريف» هو خلاصة مفهوم التصور الكلي للشيء، وبناء على اختلاف التصور لا بد أن يختلف التعريف، وإذا كنا لم نستطع الوقوف – فيما سبق – على مفهوم واضح للفن، فيحسن بنا أن نطرق ميدانًا آخر، هو: وظيفة الفن وغايته، علَّنا نجد فيه بعض الإِيضاح لما نريد.
والوظيفة والغاية هما جزءان في عملية التصور، فالوظيفة هي التي تبين ميدان العمل، والغاية هي التي تحدد مسار الشيء حتى يصل إليها.
ونستطيع القول هنا: بأنا لا نجد لدى الكثيرين ممن تحدثوا عن الفن تفريقًا بين الوظيفة وبين الغاية، وقلة قليلة هي التي تحدثت عنه من خلال غايته، أو تحدثت عن غايته.
ولعل هذا راجع إلى ما فهمه الكثيرون عن الفن من أن غايته قائمة في ذاته، فاتحدت فيه الوظيفة والغاية، وهذا ما عرف بمذهب «الفن للفن».
ونحب أن نضع بين الأيدي بعضًا من تلك الآراء التي تحدث بعضها عن الوظيفة، وتحدث بعضها عن الغاية، وخلط بعضها الآخر فلم يفرق بينهما.
1- يرى «كانت» (1728 – 1804) أن وظيفة الفن: أنه يحدث قربى وتشاركًا بين الناس، فإذا اشترك الناس في حكم جمالي فهذا يرجع إلى وجود تنظيم مشابه لدى الأفراد جميعًا.
ولا غاية للفن عنده، إذ هو – كما يراه -: نشاط حر موجه إلى الذات لإِحداث بهجة جمالية منزهة عن الهوى والغاية المحددة[1].
ويلخص هذا بقوله عن الفن: إنه «غائية بدون غاية»[2].
2- ويرى الفيلسوف والشاعر الألماني «شيلر» (1759 – 1805) أن الوظيفة الجمالية للفن: هي أنها قوة كبرى كفيلة بالقضاء على حالة الاغتراب، ويترتب على هذا أن قيام حضارة كبرى – عنده – رهن بتحول الوجوه البشري إلى لعب لا إلى عمل[3].
3- ويذهب «هيغل» (1770 – 1831) إلى أن للفن هدفين:
هدف أساسي: يتمثل في تلطيف الهمجية بوجه عام، وفوق هذا الهدف يقع هدف تهذيب الأخلاق[4].
هدف نهائي: يقول بصدده: إذا كنا نريد أن نعزو إلى الفن هدفًا نهائيًا، فإنه لا يمكن أن يكون سوى هذه: كشف الحقيقة وتمثيل ما يجيش في النفس البشرية تمثيلًا عينيًا مشخصًا[5].
فالهدف يكمن إذن، في الكشف للنفس عن كل ما هو جوهري وعظيم وسام وجليل وحقيقي وكامن فيها[6].
وعلى هذا فإن أسمى مقصد للفن، هو ذاك المشترك بينه وبين الدين والفلسفة، فهو كهذين الأخيرين نمط تعبير عن الإِلهي عن أرفع حاجات الروح وأسمى مطالبه[7].
وأما وظيفة الجمال والفن – عنده – فهي أنهما: يهدئان من حزن حالتنا وتحيرات الحياة الواقعية ويقتل الزمن[8].
4- ويذهب الفيلسوف الوجودي الألماني «هيدجر» (1889 -؟) إلى أن مهمة الفن هي الكشف عن حقيقة الموجود[9].
5- وتذهب المفكرة الأمريكية «سوزان لانجر» (1895 -؟) إلى أن مهمة الفن تنحصر في التعبير عن بعض المعاني العميقة بطريقة رمزية لا تتأتى لأية وسيلة أخرى من وسائل التعبير[10].
أما وظيفة الفن – في نظرها – فليست هي تزويد المدرك بأية لذة كائنة ما كانت، بل هي إحاطته علمًا بشيء لم يعرفه من قبل[11].
6- ويرى «هريرت ريد» (1893 -؟) أن الهدف الأسمى للفنان – مثله كمثل العالم – إنما هو تقرير حقيقة، كما أن الهدف الأسمى لتذوق الأعمال الفنية ليس هو الاستمتاع ببعض القيم، بل هو الوصول إلى التثبت من بعض الحقائق.
ويرى كذلك: أنه ليس ثمة معايير للحقيقة تنطبق على العلم وحده دون الفن، لأنه إذا كان للعلم لغته القائمة على العلامات، فإن للفن لغته القائمة على الرموز[12].
7- ويذهب «مالرو» (1901 -؟) إلى أن الفن وحده هو الذي استطاع أن يمنح البشر إحساسًا حقيقيًا بتلك العظمة التي طالما جهلوها عن أنفسهم.. فهو مظهر لسيادة الإِنسان في كل زمان ومكان.. فالفن ينقلنا من عالم القضاء والقدر إلى عالم الوعي والحرية. وهذا يعني: أن انتصار الإِنسان على الكون إنما يتحقق بالإِبداع الفني[13].
8- أما الفيلسوف الوجودي «كامي» (1913 – 1960) فيذهب إلى أن الفن يعلمنا أن أبعاد الإِنسان الحقيقية ليست بالضرورة هي البعد التاريخي وحده وإنما لا بد للإِنسان من أن يبحث أيضًا في نظام الطبيعة عن مبرر من مبررات بقائه!! وليس على الإنسان أن ينهي التاريخ أو أن يضع حدًا له، وإنما عليه أن يخلقه أو أن يبدعه على صورة ذلك «الحق» الذي أصبح يعرف أنه كذلك.
ومن مهمة الفن أيضًا أن يعلمنا: أن الإنسان لا يمكن أن يظل أسيرًا للعالم، بل هو لا بد أن يتمرد عليه.. لكي يعلو عليه[14].
9- ويذهب الفيلسوف المجري «لوكاتش» (1885 – 1971) إلى أن هدف الفن هو، تقديم صورة عن الواقع، ينحل فيها التناقض بين المظهر والواقع. الجزئي والعام، المباشر والتصوري،…الخ حتى أن هذين الجانبين ينصهران في وحدة تلقائية، داخل الانطباع المباشر للعمل الفني، وتقديم شعور بوحدة لا تنفصم[15].
تلك نماذج من آراء لا تحصى في بيان مهمة الفن ووظيفته، وواضح أن هذه الآراء لا تنطلق من أرضية واحدة، ولا تنبثق من النظرة إلى طبيعة الفن وحقيقته، بل انطلق كل فيلسوف من فلسفته التي هيمنت على فكره، فأخضع الفن لمعطياتها، وسخره في خدمتها. وهذا ما جعلنا نفتقد القاسم المشترك بين هذه الآراء.
لقد أصبح الفن – في علم الجمال – الدواء الناجع لكل أمراض الفلسفات، فكل فيلسوف يحاول أن يجعل له مهمة حل المعضلة التي يعاني منها مذهبه.
♦ فقد رأى فيه «شيلر» علاجًا وحيدًا للقضاء على حالة «الاغتراب» التي استفحل الشعور بها في أيامه.
♦ ورأى فيه «هيغل» الوسيلة الأخلاقية لتلطيف الهمجية، ولذا كانت مهمته – عنده – قرينة مهمة الدين والفلسفة.
♦ وذهب كل من «ريد» و«لانجر» إلى تحميل الفن مهمة العلم، وهي محاولة الوصول إلى الحقيقة والكشف عنها.
♦ ويرى فيه الوجودي «هيدجر» حلًا للمعضلة الوجودية، وهي الكشف عن حقيقة الموجود، بينما يرى فيه الوجودي الآخر «كامي» وسيلة مساعدة في تعليم الإِنسان: كيف يتمرد على العالم؟!.
♦ ويرى فيه الشيوعي «لوكاتش» حلًا لمشكلة التناقض القائمة في النظرة الشيوعية.
وهكذا لم يعد الفن الذي نتحدث عنه ذا صلة بالجمال، بل أصبح شيئًا آخر في خدمة الفلسفة، بل لم يعد «الفن» واحدًا، بل هناك فن شيوعي، وآخر وجودي، وثالث برجوازي.
مقلدون:
وفي ختام هذا الفصل نحب أن نقف على رأي بعض الأقلام العربية حول هذا الموضوع.
يقول الكاتب توفيق الحكيم:
«ليس لنا أن نسأل عن غاية الجمال، ولا عن غاية الفن، ولا عن غاية العلم، إن الغاية لا تهم، إنما المعنى كله في الوسيلة، الحياة هي الطريق، العلم هو الطريقة، الفن هو الأسلوب أما الغاية فلا غاية»[16].
وهكذا ينفي وجود غاية للفن بل للحياة؟!!
ويخطو زكي نجيب محمود خطوة أوسع، فلا ينبغي أن نغفل الغاية وحسب، بل ينبغي أن لا تسأل عن المغزى. يقول:
«لا يجوز للناقد.. أن يسأل عن لوحة – مثلًا – قائلًا: ما مغزاها؟ أو ما معناها؟ لأنه لا مغزى ولا معنى في الفنون، إن الفن «خلق» لكائن جديد. هل نسأل عن جبل أو عن نهر أو عن شروق أو غروب قائلين: ما مغزى؟ وما معنى؟ أو هل ترانا ننظر إلى التكوين وحده معجبين أو نافرين؟.. وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا إزاء العمل الفني: لأنه خلق وإنشاء، وليس كشفًا عن أي شيء كان موجودًا بالفعل، ثم جاء الفن ليصوره… »[17].
ونلاحظ أن هذه الآراء شبيهة بتلك الآراء المترجمة التي مر ذكرها، فهي تقليد وسير على المنوال نفسه[18].
[1] دراسات في علم الجمال. مجاهد عبدالمنعم مجاهد ص 103و 101.
[2] فلسفة الفن في الفكر المعاصر. زكريا إبراهيم ص 245.
[3] دراسات في علم الجمال. مجاهد ص 114.
[4] المدخل إلى علم الجمال. هيغل ترجمة جورج طرابيشي ص 47 – 48.
[5] المصدر السابق ص 98.
[6] المصدر السابق ص 44.
[7] المصدر السابق ص 31.
[8] دراسات في علم الجمال. مجاهد ص 127.
[9] فلسفة الفن في الفكر المعاصر. زكريا إبراهيم ص 269.
[10] المصدر السابق ص 318.
[11] المصدر السابق ص 327.
[12] المصدر السابق ص 334.
[13] المصدر السابق ص 168 – 170.
[14] المصدر السابق ص 226.
[15] دراسات في علم الجمال. مجاهد ص 76.
[16] فلسفة الفن في الفكر المعاصر. زكريا إبراهيم ص 385.
[17] المصدر السابق ص 400 نقلًا عن (فلسفة وفن) لزكي نجيب محمود.
[18] إن عدم الاهتمام بالغايات قصور في العقل: يقول رجاء جارودي: إن ما نسميه اليوم (علمًا) ويجدر بنا أن نتواضع أكثر ونطلق عليه اسم (العلم الغربي) هو من نتاج عقل مشوه لا يطرح أبدًا إلا السؤال «كيف» ولا يسأل أبدًا عن «لماذا؟» كيف نصعد إلى القمر … والحال أن السؤال الضروري المحتم: لماذا نصعد إلى القمر؟
إن عقلًا لا يدرك حدوده – لأنه يرفض البحث عن الغايات .. – عقل عاجز.
أما الإيمان فهو العقل الذي لا حدود له. وهو العقل المدرك لبحثه عن الغايات..
[من محاضرة ألقيت في الرياض. جريدة الرياض عدد 6471 تاريخ 2/ 7/ 1406].