يمكن الكتابة عن اللون الأبيض ملفاً متكاملاً، ويمكن الكتابة عن الأسود ملفاً كاملاً متكاملاً أيضاً، فهذان اللونان يدخلان في تفاصيل كل شيء في هذه الحياة. فأحدهما كناية عن النور والآخر هو تمثيل لغياب النور. ثم إن اللون الأبيض تتشكّل منه جميع ألوان الطيف بينما يمتص الأسود الألوان الأخرى أو يغيِّر بطبيعتها إذا ما أضيف إليها. واللونان هذان يمكن لكل منهما أن يعيش ويتواجد وحده، ولكنهما غالباً متحِّدَين في لعبة الضوء والظلّ التي لا يفلت منها أي كائن على وجه الكوكب الأزرق. الملف هنا لا يتناول أحد اللونين وحده، أي حالات الأبيض وحالات الأسود. بل يتناول علاقتهما ببعضهما، فهما لونان يتكاملان في صور كثيرة رغم التناقض الذي قد ينطوي على العلاقة التي تجمعهما.هنا عرض للأبيض والأسود بتناقضهما وباتصالهما وتوازيهما، وفي اشتراكهما بصناعة عالم الألوان، وتداخلهما في عوالم الحياة بتفاصيلها.
لطالما عُومل الأبيض والأسود كلونين نقيضين ونُظر إليهما كضدين، فالأبيض هو ألوان قوس القزح عندما تجتمع، والأسود لون واحد مسيطر يمتص سائر الألوان، أو يكون حيث ينعدم الضوء نفسه، وطوال التاريخ المعروف للبشرية بكل ما فيها من ثقافات وحضارات، كان يتم إسقاط هذين اللونين على أمور وأشياء لا حصر لها، بدءاً بالخير وكذلك الشر والليل والنهار والعدل والظلم إلى السعادة والحزن والغِنى والفقر والكراهية والحُب إلى الحياة والموت. وكأن نهاية الأبيض هي بداية الأسود أو العكس، أو لكأنهما رغم كل تناقضهما يكملان بعضيهما، فلا ضوء بلا عتمة، ولا ظلّ بلا شعاع، ولا سواد مطلق ولا بياض مطلق.
ولا نرى الألوان إلَّا لأنّ ضوءاً نزل عليها فتلقته عيوننا ومنها إلى خلايا محدَّدة في أدمغتنا، وفرّقتها إلى ألوان حسب موجات معيَّنة. ولا نرى الأشياء وأشكالها وألوانها إلَّا لأنّ ظلّاً تخلّلها أو عتمة، فتصنع حدوده بالنسبة لناظرها، وهذا ما يجعل من السهل رسم أي شيء بالأبيض والأسود، بواسطة التظليل، ويمكن رسمه ثلاثي الأبعاد أيضاً بحسب درجات التظليل المستعملة. إذاً نحن نرى أي شيء لأن الضوء والعتمة شكّلاه، أي الأبيض والأسود، ونرى لونه بسببهما أيضاً، وكأن هذين اللونين، اللذين لا يُعدَّان من الألوان لدى علماء اللون، يعملان في خدمة ما سنراه وما سيصل إلى أدمغتنا من صور يحلّلها الدماغ في سواده وبياضه هو نفسه.
فالدماغ أبيض وأسود في الأصل. وثمة جزء كبير منه أسود اللون، يشار إليه في التعريفات العلمية بالمادة الرمادية، وهو مؤلَّف من الميلانين العصبي، وهي الصبغة نفسها التي تعطي البشرة والشعر لونيهما. كما يحتوي الدماغ أيضاً على المادة البيضاء، وهي الألياف العصبية التي تربط المادة الرمادية ببعضها. إذاً مصفاة الألوان التي نراها في الطبيعة، أي الدماغ، بيضاء وسوداء.
لوحة جنازة في الثلج لفان غوغ مرسومة بتدرّجات الأبيض والأسود
والقلب نفسه، الذي يضخ الدم في أنحاء الجسم، ومكان العاطفة والحُب والأمان – الوظيفة التي منحته إياها الشعوب القديمة – هذا القلب يمكنه أن يكون أبيض لدى الشخص الكريم الصالح والمتفاني والمحب والمؤمن، فيقال إنه شخص قلبه أبيض، ويمكنه أن يكون أسودَ في الأشخاص البخلاء الأشرار الظالمين المكتئبين والكفّار، فيقال إنهم أصحاب القلوب السوداء. حتى في السحر والسحرة هناك الأبيض والأسود، وفي القروش حيث ينفع القرش الأبيض لليوم الأسود، وفي الأيام وفي الأحلام وفي تفاصيل الأخلاقيات اليومية، هناك منها البيضاء والسوداء.
رأس جبل الجليد مثال الأبيض الناصع
قلم الفحم الأسود يمكنه أن يخطّ على صفحة بيضاء بشطحات قليلة، لوحة أو لغة أو تشكيل، والقلم الأبيض على لوحة سوداء يمكنه الأمر نفسه، تنافرهما يصنع عملاً مشتركاً بينهما. كما هو حال الشر الأسود الذي لا يُعرَّف أو يحدَّد بلا تعريف الخير الأبيض. فبهذا يُعرف ذاك أو توضع الحدود متى يبدأ هذا لينتهي ذاك.لذا يمكننا القول إنه في البدء كان الأبيض والأسود، أو الأسود والأبيض. ليس أحدهما قبل الآخر، بل معاً في اللحظة نفسها، لأن لا وجود لأي منهما من دون الآخر.
بعض الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود باتت أيقونات تاريخية كصورتي دالي وكلاي
غياب الألوان، اجتماع الألوان
أدخل البشر الأبيض والأسود في تفاصيل كل شيء ومنحاهما صفات أبعد بكثير من بنيتهما الأصلية، فصارا الدليل إلى كل نقيضين. ففي العربية، الأبيض هو السّيف، واليد البيضاء تدلّ على الإنعامِ والإحسان، ويمكن لليد البيضاء أن تحمل السيف الأبيض وترتكب عملاً أسود، وقد يكون حمل السيف لفعل الخير الأبيض أيضاً، فالأمر يختلف بين وجهتي نظر القاتل والمقتول. ويقول العرب إن فلاناً أبيض الوجه أي مُتهَلِّل، نقي السرِيرة لا عيوب فيه، ولكن هذا لا يعني أنه أبيض فعلاً، فقد يكون المرء أسود أو أسمر أو أحمر اللون، لكن سريرته بيضاء. ويقول العرب امرأة حمراء، أي بيضاء، “لأن العرب لا تقول رجلٌ أبيض من بياض اللون، إنما الأبيض عندهم الطاهر النقي من العُيوب، فإذا أرادوا الأبيض من اللون قالوا أحمر”، بحسب قاموس المعاني.وموتٌ أَبيض هو الذي يأتي فجأة من دون أن يسبقه مرض يغَيّر اللون. وهناك الطاعون الأسود أو الموت الأسود، وسمي كذلك عندما اجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352م، وتسبّب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة. والخيط الأبيض ينبلج من وسط السواد، أي بياض الفجر وأشعَّته. ولكن في الطرف الآخر من العالم ينبلج الأسود بعد الغروب. فالخطان الأبيض والأسود في فجر أو في غروب يُحدِّدان من وجهة الناظر، ولا معطى قيمي يفاضل أحدهما على الآخر، فالأبيض يحتاج إلى الأسود لينبلج… والعكس. والفقر له حالان أيضاً، حال تتبلبل فيها الخواطر من الهمّ والغمّ وكثرة العيال وانكسار النفس، وهو الذي يبدِّد الذهن ويقتل النبوغ وهو فقر من ليس في بيته دقيق، وهو الفقر الأسود. أما الفقر الأبيض فهو حالة الإنسان الفقير لكنه خفيف المؤونة، راسخ الطمأنينة ولا يؤثر الفقر إلا على سطح جسمه، ومظهر لباسه، وأما خاطره فمستقر ثابت.
اللونان في الثقافاتاللون الأبيض في الإسلام يرتبط بشكل جليّ في كونه لون ملابس الإحرام عند أداء مناسك الحج في مكّة. وروى الترمذي وأبو داوود عن ابن عباس الحديث النبوي الشريف: “البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم”.
وارتبط اللونان الأبيض والأسود بالليل والنهار، وهما الفيصل في بدء الصيام في شهر رمضان المبارك، ﴿وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ سورة البقرة آية (187).
يمكن أن نعرِّف اللون الأسود بأنه الانطباع عندما لا تأتي أي أشعة ضوئية باتجاه العين. أي حين لا تتحفَّز أي من المستقبلات اللونية في العين بفعل الأشعة الضوئية. واللون الأسود هو غياب كل لون، وهو الظل، والعتمة والليل، اللامتناهي والسريّ ومثير الرهبة، رمز الفناء والموت والأسى في ثقافات شعوب كثيرة. والأسود هو لون أعماق الأرض، ولون أعماق الماء. وهو رمز الشتاء والماء والفوضى لدى الصينيين. وبعض الآلهة الوثنية عند اليونان والرومان.
الظلّ أسود أيضاً. هو عتمة يصنعها النور، سواد ينتجه البياض. الظلّ المعتم توأم كل شيء يقع عليه الضوء. ويعتقد بعض الشعراء أن الظل كائن حي لكنه يعيش في عالم موازٍ. وهنا أيضاً يمكننا العودة إلى النقيضين المتكاملين. كل عالم له ما يقابله، كما الشيء وصورته في المرآة. والأسود صورة الأبيض، والأبيض صورة الأسود، في عوالم الضوء المطلق، وفي عوالم العتمة المطلقة.
اليابانيون القدامى الذين كانوا مجبرين على الإقامة برضى أو إكراه في غرف مظلمة، اكتشفوا الجمال في الظل، وتواصلوا مع ظلالهم وصنعوا من عالم الظلال فنوناً جميلة. وفي أوروبا خلال العصور الوسطى، كانت تتم معاقبة ظل النبيل عوضاً عن جسمه كإجراء تحايلي يجنِّبه الأذى الفعلي. وبحسب ابن منظور في لسان العرب: يُقال للرجل إذا مات وبطل: ضحا ظله. يُقال ضحا ظله إذا صار شمساً. وإذا صار شمساً فقد بطل صاحبه ومات”. فإذاً، الرجل حي طالما أن ظله حي. أي طالما أنه يتمكَّن من الوقوف.
الأبيض والأسود في دب الباندا
أشارت دراسة أعدَّتها جامعة كاليفورنيا إلى أن للعلامات السوداء والبيضاء في جسم دب الباندا وظيفتين، هما التمويه والتواصل. فاللون الأبيض في الوجه والعنق والبطن والردف يساعد دب الباندا على الاختباء في الثلج، أما اللون الأسود في الذراعين والساعدين فيساعدها على الاختباء في الظل.وأوضحت الدراسة أن الألوان في رأس دب الباندا لا تُستخدم للاختباء من الحيوانات المفترسة، بل لها دور في التواصل. أما الأذن الداكنة فتساعد في نقل شعور الاستنفار للتحذير من الحيوانات المفترسة.
من يظلم الآخر؟بعض الوجوه الأخرى لكل منهمالم يكن الأبيض دوماً صاحب الثواب. ولطالما تبادل مع الأسود الدلالة الواحدة. ففي ملابس الحداد وطقوس الموت، وفي حين نرى أن المجتمعات الغربية اختارت الأسود للإعلان عن الحزن والخسارة، يحل الأبيض محل الأسود في هذه الوظيفة في الهند، فهو لباس المرأة التي فقدت زوجها، كما أنه لون غطاء الرأس التي تضعه المرأة في بعض المجتمعات العربية خلال حدادها على شخص عزيز، وهو أيضاً لون الكفن الذي يُلف به جسد الميت. والماء الأبيض في العين هو سبب ضعف النظر حتى العمى، والليالي البيضاء هي تلك التي جفاها النوم همّاً وقلقاً. كما يمكن للأسود أن يتموضع في أماكن ومفاهيم إيجابية وجميلة وخيّرة . فكم تغزَّل الشعراء بالعيون السود والشَّعر الأسود؟ وهو أيضاً لون الملابس عندما يكون الوقار هو المطلوب من هذه الملابس، ولون السماء التي تبرز منها النجوم متلألئة، ولون أشياء كثيرة مفيدة من حولنا مثل إطارات السيارات وأسفلت الطرق وصولاً إلى أغلى الأشياء مثل اللآلئ السوداء.
إضافة إلى ما تقدَّم، يمكن لبوصلة العقل أن تفقد الاتجاه السليم في التطلع إلى دلالات الأبيض والأسود. فالغراب مثلاً، تذكر الأساطير أنه تعرَّض للظلم بسبب لونه. لقد وُصف بأسوأ الأوصاف بسبب سواده. علماً أنه من أذكى الطيور، كما سبق وكشفنا في ملف حول الغراب، نشرناه على هذه الصفحات بالذات.