من النهر إلى البحر
سعد القاسم
26 شباط/فبراير 2019م
شهدت صالات دمشق في الأسابيع الماضية عدداً من المعارض اللافتة للتقدير، منها معرض الفنانة هالة المهايني في صالة المركز الوطني للفنون البصرية، ومعرض الفنان إبراهيم حميد في صالة فاتح المدرس، ومعرض النحات يامن يوسف في الصالة ذاتها، ومعرض الفنان علي مقوص في صالة تجليات، ومعرض الفنان عدنان حميدة في صالة عشتار، ومعرض الفنان مجد حناوي في صالة المركز الوطني للفنون البصرية. وسنتوقف في السطور التالية مع معرضي إبراهيم حميد، وعلي مقوص، على أن تكون لنا وقفة مع باقي المعارض في وقت لاحق.في المرسم الذي استضافه لسنوات كثيرة عمل فيها برعاية الفنان المعلم فاتح المدرس، أقام إبراهيم حميد معرضه الفردي الأحدث الذي عرض فيه نتاج المرحلة الأحدث من تجربته، وفيها يؤكد على جانب البحث التقني للحصول على تأثيرات بصرية بغير الألوان التقليدية، دون أن يغيب عن مسار تجربته المشبعة بألوان الفرات والبادية وصورها، وبالحكايات الشعبية وأساطير الأرض المسكونة بحضارات البشرية الأقدم من تل براك مروراً بآثار السومريين والأكاديين والبابليين والأشوريين، وصولاً إلى إبداعات التدمريين. فما بين مدينة الميادين الغافية على ضفاف الفرات، وباديتها الممتدة وكأن لا نهاية لها، تفتحت عينا ابراهيم حميد في أواخر الخمسينات على ترقب صورة أبيه القادم من أعماق البادية، فكانت السماء بحجم قامة الأب القادم بعد طول انتظار، وظلت مساحتها الصغيرة ملازمة لكل اللوحات التي صور فيها الطبيعة والحياة، على طريقته، كما هو حال حكايات الجدات عن وحش النهر الذي يفتك بمن يتجرأ على الخوض في مياهه الصاخبة.كان التحاق إبراهيم حميد بقسم التصوير في كلية الفنون الجميلة خياراً لم يدرك مدى صحته إلا بعد زمن اكتشف فيه عشقه للخط واللون، وقدرته على إعادة خلق الصور الوفيرة الثرية المحفوظة في أعماق خياله وذاكرته البصرية، وكان النجاح، المعنوي والمادي، الذي لقاه مشروع تخرجه دلالة حاسمة على صحة خياره، ومرشداً لتجربته في قادم الأيام. حيث كانت الخطوة الأكثر أهمية في مرسم الفنان المعلم فاتح المدرس الذي تختزل تجربته الفريدة الوطن السوري بكل جغرافيته وتارخه الحضاري، والذي جاء إليه إبراهيم حميد في رحلته الطويلة إلى دمشق التي فتحت أبواب كنوزها للشاب القادم من أقصى الشرق فأتاحت لموهبته أن تشي عن نفسها، ومن ثم أن تمتلك سريعاً مكانتها المرموقة في المشهد التشكيلي السوري.في الجهة المقابلة تفتحت عينا علي مقوص في منتصف الخمسينات على مشاهد الطبيعة الساحرة المتبلة في قريته الجبلية الوادعة المطلة على الساحل السوري، فبقيت مشاهد الحياة الريفية محفوظة في ذاكرته، يتقدمه المنزل الريفي التقليدي الذي ولد فيه حيث تجتمع تحت سقف واحد أدوات الحياة المنزلية البسيطة إلى أدوات العمل الزراعي، وبعض المواشي التي تعين العائلة الصغيرة على الحياة. وحين بدأت موهبته تفصح عن نفسها استحضر من ذاكرة الطفولة مشاهد الجموع البشرية المكتظة حول المزارات والأشجار المباركة، والتي نفذها بواقعية حريصة على التفاصيل الصغيرة من أغصان الأشجار الكثيفة إلى تباينات أشكال الزوار وحالاتهم والتي تشكل مجتمعة نسيجاً بصرياً متجانساً يملك قدرة تعبيرية كبيرة ومناخاً نفسياً طاغياً ظل حاضراً في أعماله جميعاً.تخرّج (علي مقوص) عام 1978 من قسم التصوير في كلية الفنون، لكن أعماله أوحت دائماً بأنه قد درس في قسم الحفر لأنها بقيت تكشف على الدوام عن حسٍ غرافيكي مرهف أكده إنجاز كثير من أعماله الأشهر بالأبيض والأسود، بدءاً من تلك التي صورت موضوعاً وحيداً برؤى مختلفة، أو في تلك التي اتجه فيها إلى تصوير مشاهد الطبيعة أو المزاج الإنساني بحس انطباعي تجريدي وغزارة في درجات اللون لا تفتقد ذلك التميز الغرافيكي، وصولاً إلى لوحاته الأحدث ذات الوفرة اللونية التي ينمو فيها معاً التوجه التعبيري مع الخبرة الغرافيكية.تحفل السيرة الذاتية لعلي مقوص بالكثير من العلامات البارزة، فإلى جانب إقامته لعدد غير قليل من المعارض الفردية، ومشاركته بالكثير من المعارض الجماعية أشرف على مرسم الفنانين الشباب في العاصمة العمانية مسقط ما بين عامي 2001 و 2004 وأقام احتفالية لوحة وقصيدة مع الشاعر أدونيس. واليوم يقدم معرضه الأحدث تحت عنوان (ومضة عشق لروح نذيرنبعه) بالتزامن مع الذكرى الثالثة لرحيله، وتعبيراً عن التقدير العميق له.. إنساناً وفناناً معلماً.في تلك المسيرة الحافلة بالتميز الإبداعي يمتلك علي مقوص الشجاعة لمغادرة مرحلة في أوج نجاحها، ليتابع رحلته الدائبة في مجاهل التجديد، وليقدم كل مرة ما يؤكد أصالة تجربته وعمقها وتفردها.
* ت: عبد الله رضا
http://thawra.sy/in…/saad_elkasem/164714-2019-02-25-23-22-02