نقد النقد: قراءة نقديّة في واقع الكتابات النقدية)
د. عصام عبدالله العسيري
تطوّر نقد الإنتاج الفكري للنقاد في الثمانيات الميلادية من القرن الماضي في الغرب، وكان السبب في نقد النقد هو تصحيح مساره في الأساس ثم الفكر الإنساني إجمالا، وقد يكون أننا لم نبدأ بعد ذلك بشكل فعلي ومتداول لهذا النهج النقدي. في الحقيقة تعاني المملكة حاليا من نقص حاد في المتخصصين من النقاد الذين لديهم قدرة علمية في نقد الأعمال الفنية عموما والتشكيلية خصوصا، لذلك تقبل معظم الجماهير أي موضوع جمالي يعرض لها. واشكر فعلا كل التجارب والمحاولات التي قام بها كتابا وفنانون وصحافيون لتغطية الأخبار الفنية ودعم الفنانين الناشئين والإشادة بأعمال الكبار، ولكني بعد مراقبة طويلة لحركة النقد الفني أجد نفسي معترفا بأن الحركة النقدية في السعودية والدول المجاورة لها، تفتقر للدارسين والصادقين في التعامل مع الحركة التشكيلية لوصفها وتحليلها بوضوح وتصحيح مسارها وتسليط الضوء على أقوى الأعمال والتجارب وتوصيلها للأقليمية والعالمية من خلال وضعها تحت المجهر في المختبرات النقدية بإشراف عيون خبيرة وبصيرة بالحركة العربية والعالمية.
صدقاً، وبعد ملاحظة متأنية وجدت هناك تجاهلا واضحا للتجارب والأعمال الفنية البصرية الفريدة لأعظم فناني السعودية ودول الخليج العربي ومصر والسودان والعراق والشام وصغار الفنانين على حد سواء، حيث أنتج بعض فنانينا اعمالا تحمل قيما إبداعية وجمالية متميّزة تنطلق من رؤى فنية ومنابعا ثقافية غنية وتتعامل مع الواقع وتصفه بحس عال وتقدمه بإبداع وينتظروا من ينظّر ويقوّم تجاربهم بحرفيّة، في نفس الوقت قرأت مقالات نقدية كثيرة تجامل وتحابي وتقدم تجاربا فنية فقيرة من كل القيم وفنانون ليس لديهم رؤى وأفكار أو مفاهيم فنية و جمالية و فلسفية أو حتى تناقش مواضيعا اجتماعية مهمة، بل هي عكس ما يتوقعه القارئ تغازل بعض الفنانين المهوسون بالشهرة والتسلق والأضواء ولديهم استعدادا لدفع الغالي والثمين مقابل كتابات وإشادات من اي شخص لديه القدرة والمعرفة بأصول النقد الفني ويمتلك ادواته، وتبدأ العطايا غالبا بعزائم وهدايا رخيصة وتنتهي برحلات جويّة على الدرجة الاولى مع إقامة في فنادق خمس نجوم مقابل كلمات ليس لها قيمة علمية أو فنية عند القراء والمتخصصين، وكأن سوق النقد مثل بقية الأسواق يوجد فيه الرخيص ذو الخلفية الرديئة والغالي ذو الجودة العالية. وللمعلومية، لدينا “مستهلكين” – قراء وحضور معارض ومقتنين- غير قليل عددهم لديهم نظرة ثاقبة ولا ينقادوا لرأي الناقد وبلاغته ولا يُخدعوا بشهرة الفنان والبهرجة التي حوله ويحكموا على العمل الفني وكتابات النقاد من خلال العمل نفسه وما يحتويه من مضامين وقيم، لذا فبعضهم قد لا يقتنع بما يقرأ ويملك ادلة على حكمه الذي قد تكون على صحة اكثر مما كتبه الناقد.
في النهاية، انادي باستحداث اقساما علمية متخصصة في النقد الفني بالجامعات السعودية، وتعزيز النقاد الوطنيين بكافة الطرق وضمان استمرار إنتاجهم الفكري وتنميته. كما ارجو من النقاد الحاليين تسخير قدراتهم وخبراتهم ومكانتهم لخدمة الحركة التشكيلية بصدق، ودعم التجارب الفنية القوية والإشادة بها بشدة وإبراز ريادة الفن العربي وجمالية الفن السعودي وإبداع فنانينا، وتنظير تجارب عمالقة الفن التشكيلي السعودي بدون تحيّز ومساعدة الفنانين الناشئين المبدعين الذين يبحثون عن أماكن وفرص للنمو وذلك بوضع مرآة نظيفة توضّح لهم جميعا حجمهم الحقيقي من مختلف الزوايا فلا يعمّلقوا الأقزام أو يقزّموا العمالقة وان يحترموا اقلامهم، فقد يأتي يوم يندموا فيه على ما قد كتبوا، فلا يوجد أحد فوق النقد سوى من لا معقب لأمره سبحانه