توثيق الذاكرة الإبداعية – 4
سعد القاسم
12 شباط/فبراير 2019
لا يمكن الحديث عن مبادرات توثيق الفن التشكيلي السوري المعاصر دون التوقف عند تجربة رائدة وطموحة ومهمة، وإن لم تتوفر لها فرصة الاستمرار، وأعني المشروع الذي أطلقه الفنانان محمد حسام الدين وحسان أبو عياش صيف عام 1988 تحت عنوان (فنانون تشكيليون سوريون)، وقد قام هذا المشروع على إصدار كتيبات صغيرة وملونة وذات طباعة ومظهر أنيقين يتناول كل منها بعض الفنانين التشكيليين السوريين الرواد.
بعض أهمية هذا المشروع جاءت من اعتماده على نقّاد وباحثين وفنانين مرموقين في إعداد نصوصه، ففي الكتيب الأول كتب الناقد طارق الشريف عن رائد الفن التشكيلي السوري المعاصر توفيق طارق وعن رائد الاتجاه الانطباعي فيه ميشيل كرشة. وفي الكتيب الثاني كتب عن سعيد تحسين فيما كتب الفنان عبد المنان شما عن صبحي شعيب، وفي الكتيب الثالث كتب النحات عبد الله السيد عن محمود جلال، وكتب الفنان غازي الخالدي عن عبد الوهاب أبو السعود، وكتب الناقد طارق الشريف عن خالد معاذ، وكتب الفنان عبد القادر أرناؤوط عن أنور علي أرناؤوط. وفي الكتيب الرابع كتب الفنان ممدوح قشلان عن رشاد قصيباتي، وكتب الناقد طارق الشريف عن رشاد مصطفى، وكتب الأستاذ حسن كمال عن عبد العزيز نشواتي، وكتب الأستاذ بشير زهدي عن زهير الصبان.
اعتمد المعدّان محمد حسام الدين وحسان أبو عياش على أرشيف المتحف الوطني بدمشق، وعلى مقتنيات مجمع اللغة العربية، والمجموعات الخاصة للفنانين الذين تم تناول تجاربهم، وقام وشارك في تصوير اللوحات الفنانان الضوئيان طاهر الجميعي، ومروان مسلماني، وبلغت الأهمية التوثيقية لهذا المشروع أن خطأ مطبعياً في الكتيب الأول منه (ضم صورة لوحة لميشيل كرشة إلى مجموعة صور لوحات توفيق طارق)، قد بنيت عليه كتابات نقدية عن التحول في أسلوب توفيق طارق، وهو خطأ شاع طويلاً قبل أن يتم تصويبه على صفحة (تكون الفن التشكيلي الحديث في سورية) الالكترونية التي سنعود إليها بعد قليل. وقد توقف مشروع حسام الدين وأبو عياش مع إصدار الكتيب الرابع منه عام في صيف عام 1998، أي بعد عشر سنوات على بدايته، وفي حين أن الكتيب الثاني صدر بعد عام من الكتيب الأول، والكتيب الثالث صدر بعد عامين من الثاني، فقد احتاج الكتيب الرابع إلى سبع سنوات من الانتظار، كما أشار المعدّان في تقديمه، حيث كان واضحاً، من التقديم ذاته، أن مشكلة التمويل قد لعبت الدور الأساس في عدم استمرار المشروع.
أدت الصحافة الدورية دوراً مهماً في توثيق الفن التشكيلي السوري، خاصة في المرحلة التي سبقت صدور المجلات التشكيلية المختصة وفي مقدمتها مجلة (الحياة التشكيلية) التي صدرت عام1980 ضمن مشروع ثقافي واسع رعته وأشرفت عليه الدكتورة نجاح العطار (وزيرة الثقافة آنذاك) وعرف بين المهتمين بالثقافة باسم (الحيوات) كجمع لكلمة الحياة، فقد تضمن في الفترة ذاتها إصدار (الحياة المسرحية) و(الحياة السينمائية) و(الحياة الموسيقية) وكانت جميعها مجلات فصلية تعنى أساساً بنشر الدراسات والأبحاث والمقالات المؤلفة والمترجمة في المواضيع التي تختص بكل منها. وقد لقيت المجلة منذ عددها الأول تقديراً واسعاً محلياً وعربياً، وسدت نقصاً تعاني منه المكتبة التشكيلية العربية، وتقتضي الأمانة الإشادة بالدور الأساسي الذي لعبه رئيس تحريرها الناقد طارق الشريف، والجهد غير العادي الذي بذله لإنجاحها. وفي عام1992 أصدرت نقابة الفنون الجميلة نشرة شهرية باسم (التشكيلي السوري) مثلت مفهوماً جديداً في فن العمل الصحفي سواء بحجمها الأقرب إلى حجم صحيفة، أم في شكلها الإخراجي المتطور الذي لم يستوعبه حتى بعض الفنانين التشكيليين، وقد بقيت تلك التجربة علامة فارقة في الصحافة التشكيلية رغم أنه لم يصدر منها سوى عددان. وقد تلت هذه التجربة مجلة (الفنون الجميلة) عام2003 التي رأس تحريرها النحات والناقد التشكيلي غازي عانا، والذي كان مشرفاً فنياً على سابقتها فوضع خبرته الكبيرة في مجلة كانت أهميتها أكبر من شهرتها..
ونصل أخيراً إلى العالم الالكتروني الذي يقدم مساهمة بالغة الأهمية في توثيق الفن التشكيلي السوري، بحكم ما يتمتع به من مرونة واسعة ومشاركة وانتشار تتيح استكمال المعلومة، وتصويبها، وأحد أهم تلك المواقع (اكتشف سورية) الذي ضم أكمل أرشيف للفنانين التشكيليين السوريين، وتوقف قبل وقت قصير للأسف. وموقع مديرية الفنون الجميلة، وصفحة (تكون الفن التشكيلي الحديث في سورية) The Formation of Modern Art in Syria على الفيسبوك، والتي يديرها الدكتور عبد الرزاق معاذ، والتي تمتلك انتشاراً واسعاً وتقديراً كبيراً من المهتمين بالفن التشكيلي السوري.
إن هذه المبادرات السابقة، مع أهميتها التي لا يمكن التقليل منها، ليست كافية مجتمعة لاستكمال قاعدة المعلومات حول الفن التشكيلي السوري المعاصر، خاصة وأن قسماً كبيراً للغاية من أعمال الفنانين السوريين لم يتم توثيقه، مع نمو حركة الاقتناء على حساب تراجع الاهتمام بالعرض.
وهي مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم الفنانون أنفسهم.