قلت مرة في برنامج تلفزيوني أن حياتها تشبه فيلماً هندياً، ولم أكن أمزح. فقياساً إلى مكانة أبيها كان ينبغي أن تحيا مرفهة مترفة، فهو عزت باشا القاسم مدير الخط الحديدي الحجازي و يحمل رتبة فريق في جيش الثورة العربية، وهي، وشقيقها التوءم هاشم، آخر عنقود أولاده. لكن قبل أن تكتحل عيناها برؤية أبيها رحل (الباشا)، ولا أحد يعلم كيف اختفت أمواله وأملاكه لتعيش أسرته في فاقة مريرة. نادراً ما حكت عن المآسي التي عرفتها مع تفتح وعيها على الحياة والأيام القاسية التي عاشتها مع أمها وأخواتها ، وإن حكت، فبحزن نبيل غير حاقد يبحث عن بصيص الضوء في الظلام الحالك. فلا تتعدى حكاياتها عن القهر الذي عرفته في طفولتها أربع حكايات يصعب أن تواريها الذاكرة: يوم فصلوا شقيقها التوءم عنها ليضعوه في ملجأ للأيتام توفيراً لنفقات لا تقدر عليها أسرتها، ومع ذلك بقيت طوال حياتها تحمد الله على نعمته كلما غمست لقمة الخبز في الزيت والزعتر، مستعيدة تلك الأيام التي أجبر فيها الفقر أفراد أسرتها أن يقنعوا بتناول الزعتر مع الخبز المبلل بالماء، لتبتهج روحها وهي تتذكر فرحة الطفولة البريئة التي ارتسمت على وجه شقيقها حين فاجأته خلال إحدى (إجازاته) القليلة بشطيرة زعتر مع الزيت خبأتها له من فرصة نادرة دخل فيها زيت الزيتون إلى البيت الفقير إلا من الكرامة وعزة النفس… و الحكاية الثانية يوم امتدت نيران الموقد البدائي إلى ثوب شقيقتها الكبرى فالتهم شبابها، تاركاً في نفوس عائلتها حرقاً لا يشفى… ويوم أٌدخلوا أمها إلى الحجر الصحي بعد إصابتها بمرض رئوي معدٍ، وقاتل، ففقدت دفء الأم وهي لم تتعد السنة السادسة من عمرها… ويوم غادرت وهي في مطلع صباها منزل عمها، لتفقد في لحظة واحدة حنان زوجته التي عوضتها غياب أمها، وذكريات المدرسة وأحلامها الجميلة، وفرصة اللقاء بمن بقي من أسرتها في الأردن.
لم تترك السنوات القليلة التي عاشتها في كنف أمها ذكريات كثيرة، لكنها غرست في نفسها قيماً نبيلة بقيت مرافقة لها في كل لحظة من حياتها، وأوضح ما فيها الترفع عن الشكوى مهما بلغت قسوة الحياة، ترفعٌ هو في جوهره احترام للذات ورفضٌ للانكسار، واستجداء العطف، واحتفاءٌ ببارقة الأمل مهما صغرت أو بعدت. وخلافاً للمرات النادرة التي كانت الصور المؤلمة تثب فيها من أعماق ذاكرتها الثرية. كانت ذكرياتها دائماً تنتقي ما هو جميل في الحياة الإنسانية، وطبائع البشر. من لحظة فرح مختلسة من أيام البؤس، ومن كلمة تأنيب مُحِبة من عمها (رضا) القاضي النزيه الحازم الذي تولى رعايتها وتربيتها، رغم قسوة ما آل إليه بعد أن أقعده الشلل، فبقيت ذكرياتها عنه المفعمة بالرهبة والاحترام تفيض بالبهجة والمحبة والحنين، مسقطة كل ما هو مؤلم وجارح للروح.
حين توفي عمها(رضا) رأى عمها (نهاد) أن أمر رعايتها صار من واجبه هو، فانتقلت (رباب) من عمّان إلى دمشق لتعيش مع عائلته.ولتصبح بعد أشهر قليلة زوجة ابنه (عمر). من جهتها حرصت أن تكون الابنة الوفية لعائلتها الجديدة، وسرعان ما صارت موضع تقدير ومحبة وثقة الجميع بما أظهرته، رغم حداثة عمرها، من عقل راجح، وقلب محب، ونفس معطاءة، وقيمٍ أخلاقية صارمة ظلت ملازمة لها حتى اللحظة الأخيرة من حياتها. ولكن ما بقي أكثر إدهاشاً هو قدرتها على أن تكون ما هي عليه رغم صعوبة ظروفها… وإيمانها النقي، وعقلها المنفتح، وحرصها الدائم على اكتساب المعرفة حتى بعد انهيار حلمها باستكمال دراستها، فكانت منذ مطلع حياتها تقتنص دقائق الراحة القليلة، من أعبائها المنزلية الكبيرة، لتتابع قراءة صفحات من كتاب سياسي أو مجلة ثقافية..
عبارات الرثاء التي رددها أقرباؤها ومعارفها اجتمعت عند معنى الإحساس بالخسارة، فكيف الحال بمن عاش إلى جوارها كل عمره؟..
خسرت، مع المحيطين بها، حضورها الدافئ المشبع حناناً وإنسانية وحكمة ووعياً ومحبة ومعرفة ووطنية وعطاء..
لكن العزاء أن الله قد استجاب لدعائها بالرحيل قبل أي من أبنائها..
وأنها تركت في ضمائرنا ما لا ينسى من الذكريات الجميلة.. ودعاءها الأثير الذي لم تنقطع عنه يوماً:
«الله يحمي بلدنا من كل أذى »
قبل أن تبلغَ الخامسة عشرة من عمرها صرتُ ابنها، فشاء هذا الفارق الصغير بين عمرينا أن نكون صديقين بمدى أرحب كثيراً من الاحترام والمحبة التي تغلف العلاقة بين الابن وأمه، على الأقل منذ أن تفتح الوعي عندي واكتشفت كم من العمق والصفاء الإنساني تخفي وراء صمتها الجليل، وتواضعها النقي، فبقيت معجباً طوال حياتي بنبلها في التعامل مع الجميع، وهي التي نشأت يتيمة الأب، وترعرعت محرومة من عطف الأم وتوجيهها..