حياتي الفنية ( مرحلة قبل موريتانيا ) : قصاصة من ذكرياتي الفنية رقم واحد
اذا كان يوم ميلادي هو 31 كانون الثاني 1945م تصور ذلك الزمن :
في زمن لم تكن فيه فضائيات – ولا تلفزيونات – وكانت وسائل نشر ونقل الاغاني الى جماهير سامعيها هي عبر الحاكي ( وهو الجهاز الذي كان يقرأ الاسطوانات الكبيرة ) والذي كان يعمل بالتعبئة الميكانيكية عن طريق نابض يشبه نابض الساعة القديمة حيث يشد النابض عن طريق عتلة يحركها صاحب الحاكي كلما ارتخى النابض ليعود للعمل من جديد –
ثم جاءت بعد ذلك الاذاعات بعد خمسينات القرن الماضي : اذاعة القاهرة وصوت العرب ولندن ودمشق – لكن الاجهزة المستقبلة ( المذياع ) والذي كان يسميه العوام الراديو – اقول ان جهاز الراديو كان نادرا عند اكثر الناس ففي كثير من القرى كنت لاتجد مذياعا واحدا اما في المدن فكنت لاتجد في الاحياء الفقيرة مذياعا الا عند الاغنياء – وكان الراديو اما ان يعمل على الكهرباء وهي غير متوفرة في القرى والاحياء الفقيرة في المدن – او ان يعمل على بطارية كبيرة ناشفة ترمى بعد نفاذ الطاقة منها وهي غالية الثمن في حينه بالنسبة لعامة الناس –
او البطارية السائلة وهي متجددة التعبئة ؟ وهي اغلى منها بكثير ولابد من جهد ومال لتعبئتها كل مرة
قدمت بهذه المقدمة التي قد يظن البعض ان لا علاقة لها بحياتي الفنية ؟
كنت قبل قليل اشاهد طفلا على التلفاز عمره دون العاشرة – رائع في غنائه – هو الطفل الفنان عبد الرحيم الحلبي وقد نال عدة جوائز في عدة بلدان وهو من حلب ايضا – ذكرني هذا الطفل بنفسي مع الفارق الكبير بين زمني وزمانه –
فهو قد سمع منذ ولادته كل يوم الاغاني والموسيقى لأكثر من نصف يومه – عبر الاقنية الفضائية والاذاعات ووسائل التواصل والهاتف المحمول والمسجلات المتنوعة وعبر افراد اسرته وجيرانه واصدقائه اضافة الى الروضة والمدرسة ؟
اما انا فلم تكن كل هذه الامور متوفرة لي في زمني – الا المدرسة : ولحسن حظي كان معلمي للصفوف الاربع الاولى من الصف الاول وللصف الرابع الاستاذ المرحوم نزار كرزون يحب الغناء ويعطينا عشرات الاناشيد الضخمة ( كنشيد حماة الديار وهو النشيد الوطني لسوريا – ونشيد موطني – ونحن الشباب – وفلسطين نادت – وبلاد العرب اوطاني – وكنت احفظها مع زملائي واتغنى بها كلما انفردت بنفسي في كتابة وظائفي او في اي عمل اقوم به لوحدي او عند سيري في طريق ليس فيه حولي مزيد من الناس – لان الناس كانوا خجولين صغارا وكبارا – ولا احد يغني في الشارع ؟
وفي احد الايام اعطانا استاذنا وكنا في الصف الثالث الابتدائي وهو استاذنا في كل المواد حيث لم يكن التخصص قد وجد بعد – اعطانا نشيد سوريا التي في خاطري وفي فمي ( وهو نشيد ام كلثوم مصر التي في خاطري وفي فمي ) حيث غير كلمة مصر بسوريا ؟
لم يكن النشيد نشيدا حماسيا كتلك الاناشيد التي عددتها آنفا – بل كان نشيدا طربياً – فتلك الاناشيد الحماسية كانت تحفظ في درس او اكثر – اما هذا النشيد فقد كانت فيه فقرات يصعب اداؤها – فيكررها الاستاذ ويطلب منا تكرارها بعده – كان زملائي في الصف لا يستطيعون اداءها كما يجب – ومن بين الاصوات المتنافرة كان الاستاذ يسمع صوتا يؤدي افضل من الاستاذ وكنت اشعر اني اغني بشكل صحيح اضافة الى صوت نقي متمكن من الاداء الفطري – علما اننا كنا جميعا طلاب ذلك الصف بل وتلك المدرسة من نفس المستوى الاجتماعي المتوسط في حينه ورغم ذلك جميعنا لا يمتلك راديو ولم تدخل الكهرباء الى بيوتنا الا منذ عهد قريب بل كثيرون ليس عندهم الا ضوء الكاز –
كان هذا واقع مدينة اعزاز التي كنا نسكنها حينئذ ؟
كان الاستاذ يسمع ذاك الصوت النقي الذي يؤدي بشكل لا خطأ فيه – وبطريقة لا يمكن ان يؤديها هو نفسه – صار يجوب الفصل جيئة وذهابا بين المقاعد التي كانت على ثلاثة ارتال عله يحظى باصطياد صاحب الصوت الذي انفرد بالاداء الصحيح والجميل – ومن خلال تجواله وقف بجواري فجأة وقطع الترداد الدوري – حيث يغني مرة هو – وأخرى نحن – اي الطلاب ؟
وقال هذا انت اذن يا فريد ؟ قلت ماذا يا استاذ ؟ قال ليرددها من بعدي فريد لوحده ؟
وغنى الاستاذ المقطع الصعب يا سوريا ياعهد الوفاء ……الخ – ورددته بعده بشكل صحيح وبدقة متناهية وبصوت نقي جميل – واستطعت ان ادرك مدى ادائي – وكان الاستاذ موضوعيا عندما لم يغبن حقي حيث اعترف بانني اديت المقطع اجمل من الاستاذ بكثير وبصوت اجمل منه ايضا ؟
ربما كانت هذه الحادثة هي الدافع الاول في حياتي الذي اشعرني بتميزي الفني غناء او داء او حفظا ؟
والى حلقة قادمة في حياتي الفنية قبل موريتانيا وسيأتي دور موريتانيا قريبا – دمتم للفنان فريد حسن