بيتٌ تتوزع فيه اللوحات المرسومة بدفء الألوان الخشبية والزيتية؛ كان الأب لا يكتفِي بالرسم فحسب؛ بل اقتنى حينها كاميرا كبيرة ليوثق عبر تقنية الفيديو ذكريات عائلية لا تقدر بثمن؛ لم يكن ذلك الأب يعرف أن ابنه ماجد سيكبر ولا يقف عند طموح عادي حملَ فيه لقب “مهندس” بل قاده شغف الهواية إلى أن يحصل على أكثر من 100 جائزة دولية في التصوير الفوتوغرافي؛ لتنشر المجلات العالمية أفضل صوره؛ ومن ثم يدخل إلى عالمٍ أكثر اتساعاً ومغامرة وهو العمل الخيري في إفريقيا.
أسفار ومشاغل منعت المصور الكويتي العالمي ماجد سلطان الزعابي من أن يجري الحوار مع “مجلة ميم” إلى أن تمكنت مراسلتها من اقتطاع بعضٍ من وقته لتعيش أجواء قصته.
ثوانٍ معدودة
منذ الطفولة، كان ماجد يعشق الحاسوب؛ حتى أنه اشترى أول جهاز حاسب آلي عام 1992؛ وكان الوحيد في المرحلة الثانوية الذي يملكه، بالرغم من محدودية دخل والده في ذاك الحين، إلا انه لم يبخل عليه بأي شيء؛ ولطالما شجعه على إحراز الأفضل؛ يستهل كلامه بابتسامةٍ وتواضع قائلاً: “أبي هو الرجل الملهم بالنسبة لي؛ كان مدمناً على مشاهدة القنوات العالمية المختصة بالحياة البرية؛ وأنا اعتدتُ على مشاركته هذه المتعة؛ وأذكر أن بيتنا كان مليئاً بالطيور. أحنّ كثيراً لتلك المرحلة لأنها ساهمت في تأسيس شخصيتي”.
ويتطرق إلى الدافع الذي جعل فؤاده يوّلي وجهته نحو التصوير : “عند انتهائي من الثانوية العامة بتقدير امتياز اخترت هندسة
الحاسوب؛ كنت أهوى تصميم الجرافيك أيام الدراسة الجامعية وأذكر جيداً أني أحياناً كنت أحتاج لشراء بعض الصور من الانترنت لإكمال بعض التصاميم، وبطبيعة الحال هي مُكلفة بعض الشيء.
كنت حين أصمم مواقع الانترنت، لا أحب أخذ الصور من غوغل بدون استئذان؛ وللحصول عليها بدقة عالية اشتركت في إحدى المواقع وكنت أدفع اشتراكا شهريا؛ فقلت: لماذا لا ألتقط هذه الصور بنفسي بدلاً من شرائها؟ وفعلاً اشتريت أول كاميرا صغيرة كانت “4 ميجا بكسل”؛ وهكذا وُلدت هوايتي منذ تلك اللحظة؛ إلى أن نشرت بعض الصور في إحدى المنتديات؛ وحازت على إعجاب الكثير من المشتركين في المنتدى؛ مما شجعني على القراءة والتبّحر أكثر في هذا المجال”.
ثمة صفات نضجت في شخصية “ضيفنا” المهندس المصور بفضل هذه الهواية؛ يختصرها على النحو التالي: “الدقة والصبر والتمتع بأبسط الأشياء في لحظة التقاط صورة حدثٍ معين في الحياة البرية؛ فقد أنتظر ما يقارب الثلاث ساعات وقد لا يحدث الشيء المراد؛ وإن حدث فإنه لا يتعدى الدقائق، وقد تكون ثواني ولكنها ثوان رائعة من فرحة الظفر بهذه اللقطات النادرة لبعض الحيوانات عند الافتراس مثلاً أو عند اختباء أطفالها؛ والتي نادراً ما تظهر في مكان مفتوح إلا عند انتظارها لمدةٍ طويلة؛ لقد أصبحت شديد الصبر والتأمل والهدوء بعد دخولي هذا العالم العجيب”.
سبحان من علّمها
بابتسامةٍ لا تعرف الغروب يتحدث عن فلسفته الخاصة في الصورة المميزة: “في تصوير الحياة البرية أعتمد على الانتظار والتخيل؛ أذكر ذات مرة أننا كنا منهمكين في تصوير “أنثى فهد ” مع صغارها الخمسة في مكان مزدحم جداً بالسيارات والمصورين والأعشاب؛ كان الصغار يخجلون من الظهور مما اضطرنا للانتظار لساعات؛ وفي تلك الأثناء تخيلت بعض المشاهد، أو لنقل توقعتُ ما قد سيحدث بعد قليل؛ وللأسف أن 90 بالمئة من هذا الخيال لا يتحقق، وإن حدث فما نسبته 90 بالمئة أنك لن تلتقط هذه اللحظة لأنها سريعة جداً ربما تصل لــ “ثوان معدودة”؛ تخيلي معي الفرحة التي أشعر بها عندما يحدث ما كنت أتخيله وألتقط له الصورة المثالية بعد انتظار ساعات طوال؛ حينها فقط أعود إلى الوطن مسروراً بإنجازي”.
وبالعودة إلى “الفهدة” واسمها “ملايكا” هي وأبناؤها الستة؛ إذ من النادر تصوير ست فهود صغيرة في صورةٍ واحدة؛ يعبر عن شعوره الغامر نحوها : “عشتُ أياماً جميلة جداً في عام 2015، وبعد عامٍ قُدرت لي العودة إلى نفس المحمية ورأيت عائلة الفهود من جديد؛ ولكنهم الآن أربعة حيث مات اثنان منها إثر هجومٍ الضباع مرة، ومرة أخرى من الأسود؛ وما إن رأيتهم يقتربون مني شعرت، حتى أنهم قد عرفوني من السنة الماضية؛ حيث اقتربت الأم من السيارة وقفزت فوقها هي وأبناؤها الأربعة ومكثوا فوقها ما يزيد عن الساعتين؛ شعرت بالخطر والخوف في بداية الأمر، ولكن بعد مضي قليلٍ من الوقت أحسستٌ أني أحد أفراد العائلة وقضيت معهم وقتاً ممتعاً لا أنساه طيلة حياتي”.
اعتاد ماجد البالغ من العمر (38 عاما) على الخروج في رحلات السفاري تحديداً إلى كينيا منذ عشر سنوات ليجد فيها الراحة الكبيرة من ضغوط الحياة والعمل.
عن السحر الذي يصنعه مفعول تلك الرحلات، يقول في هذا: “أجمل ما فيها أنها مليئة بالمغامرة بالرغم من أنها شاقةٌ بعض
الشيء، لتبدأ بالخروج قبل شروق الشمس إلى منتصف النهار ومن ثم العودة إلى الغداء والخروج مرة أخرى من الثالثة مساءً إلى غروب الشمس بشكلٍ يومي لمدة عشر أيام أو أسبوعين دون ملل؛ فشغف التصوير يجعلك دائماً متيقظاً ومستعدا للحظة الساحرة”؛ مشيراً أن رحلات التصوير للسفاري في كينيا تمتد منذ عشر أعوام ولا زال الشغف متواصلاً لعمل المزيد من الرحلات.
وفي حديثه عن أشد ما أثار استغرابه في عالم الحيوان؛ يعلق الزعابي: “غالباً ما نقول أن الحيوان لا عقل له أو أنه لا يمكن أن يُؤمن؛ لكن المتأمل لسلوكه يرى خلاف ذلك؛ حين ترى أنثى الأسد وقوتها في اللحاق بالفرائس فإنك لا تستطيع الاقتراب منها خوفاً من أن تكون أنت الفريسة؛ لكن لو نظرت كيف تحمل هذه الأنثى الصغير بين أسنانها وتمشي فيه دون أن تؤذيه ستقول: سبحان من علّمها”.
إذاً هكذا هو الأمر.. عندما تشاهد عظيم خلق الله لا تملك إلا أن تقول من أعماق القلب: “سبحان الله”.
وحول أعظم المشاهد التي استشعرَ فيها المصور الذي اُختير من بين 32 مصورا محترفا حول العالم في ذكرى احتفال مرور 100 سنة على شركة نيكون اليابانية لتجربة أحدث كاميرا تم انتاجها، يقول: “إن الهجرة العظيمة للجواميس التي تعبر سنوياً من دولة إلى أخرى في عدد يتجاوز مليوني حيوان في مشهدٍ مهيب وبغريزة قوية تعبر خلالها الأنهار متجاوزة التماسيح العاتية والأسود على الضفة الأخرى لتذهب إلى المراعي في أوقات معنية وتعود أدراجها إلى مكانٍ ثالث لتضع أولادها في دولة أخرى؛ وتستمر دورة الحياة؛ ومرة أخرى: يا سبحان من علمها”.
دمعة في حضرة النِعم
“فزتَ بأكثر من 100 جائزة دولية.. ما هي أكثر جائزة شعرت معها بفرح مختلف؟”
لا يتردد في الإجابة: “كانت جائزة ناشيونال جيوغرافيك عام 2008؛ بسبب أن الصورة نشرت في المجلة العالمية الأم؛ ولها مكانة كبيرة في قلبي لأني التقطتها في الكويت وليس في كينيا أو افريقيا؛ وهذه رسالة واضحة أن المصور يستطيع الوصول إلى العالمية بما يملك حوله من طبيعة وإن لم تكن غنية كما هو الحال في أفريقيا”.
أما حين فاز بالمركز الثاني في المكسيك في مسابقة “كوكب الأرض”، وهي من أكبر المسابقات العالمية، التقى فيها بأفضل المصورين العالميين من المحكمين في مجال الحياة البرية؛ يضيف:”لم أتوقع منهم هذا التواضع الكبير والأخلاق العالية علماً أنهم وصلوا في التصوير الفوتوغرافي إلى مراحل متقدمة للغاية”.
وفي سؤاله عن المصورين الذين يحرص على متابعتهم، يرى ماجد أن المميزين كُثر وعلى رأسهم:
“Paul Nicklen ،Bence Máté ، Jonathan Scott ، Nick Brandt”
أما أعمق نصيحة تلقاها ويعمل بها؛ فهي تقديم المعلومة وعدم البُخل بها؛ وأن يعطي السائل أكثر مما يتطلبه سؤاله؛ ومن خلال تجربته يبدو ممتناً للنتيجة: “بقدر ما تعطي الناس من المعلومات بقدر ما يأتيك الجديد منها”.
كانت نقطة التحول في حياته عندما التحقَ بــ “جمعية العون المباشر” لتوثيق مشاريع الخير؛ حينها عرفَ قيمة نعمٍ لا تُعد ولا تُحصى؛ قيمة الماء والعين والصحة والمسكن؛ يحرص بشدة على شرح هذه النقطة
“أخذتُ أنقل ما رأيته للناس في مجاهل أفريقيا؛ تأثرت كثيراً بالطفل مصطفى الذي لم ير النور منذ عشر سنوات بسبب عدم امتلاكه 100 دولار، وغيره آلاف ممن ينتظرون هذه العملية التي تستغرق 15 دقيقة فقط ليبصروا النور من جديد، شعرتُ بالألم إزاء الكثير من الأطفال الذين يسيرون ثلاث ساعات يومياً للذهاب إلى أقرب مكان للمياه؛ وقد تركوا الدراسة بسبب الرحلة اليومية للبحث عن الماء؛ أخذت أنقل هذه المشاهد والصور والقصص إلى من حولنا ليعرفوا قدر النعم التي منّ الله علينا بها”.
ومن أغرب ما حدث معه قصته مع جمعية العون المباشر، يحكيها مبتسما: “أردتُ الانضمام لصفوف العمل الخيري في عام 2005؛ فتقدمتُ للتطوع لديها لكن لم تكن لها حاجة بمصمم مواقع انترنت؛ ومرت الأيام وفي عام 2008، وبعد دخولي عالم التصوير الفوتوغرافي؛ تلقيتُ اتصالاً من “العون المباشر” تطلب مني التطوع في مجال التصوير لخدمة العمل الإنساني وكتب الله لي مرافقة خادم الدعوة الدكتور عبد الرحمن السميط رحمه الله”.
كانت فرحته لا توصف بأن حقق الله له ما حلم به من خدمة الإنسانية ولو بالشيء اليسير؛ وتحركت به مشاعر صادقة يفصح
عنها: “لا أستطيع أن أنسى الكثير من المشاهد كلما رأيت أولادي والنعمة التي نعيشها فلا أملك نفسي من دمعة حارة تحمد الله؛ عندما أتذكر مثلاً مشاهد في مجاعة الصومال الأخيرة لوالدٍ يحمل ابنته الصغيرة وهي تحتضر على يده ولا أدري أبَقيت على قيد الحياة إلى الآن أم لا؛ وأم مات طفلاها في الطريق ومات الثالث أمام أعيننا في المستشفى وعند زيارتها في اليوم التالي إذ بولدها الأخير يحتضر؛ وغيرها من الصور المؤلمة التي تغير مسار حياتك وطريقة تفكيرك”.
وبرفقة جمعية العون المباشر، زار العديد من الدول الإفريقية منها الخطيرة مثل زيارته لإغاثة السودان في دارفور؛ كما زار كينيا مراراً وبوركينا فاسو؛ وعاش معاناة المخيمات الطبية لعلاج العيون؛ ورقدَ في مستشفى الأمراض السارية أكثر من مرة؛ كما كانت له مساهمات أخرى في “الأمانة العامة للعمل الخيري” بتغطية أحوال اللاجئين السوريين في كل من حدود الأردن ولبنان؛ بالإضافة إلى قطاع غزة وقرغيزيا.
يختم حديثه بصفاءٍ يشع من عينيه: “أسعى لتوثيق العمل الخيري بصورة احترافية غير مسبوقة ننافس فيها العمل الخيري الغربي الذي سبقنا بمراحل عديدة؛ لأن الناس حين تتأثر بهذه الصور وتتبرع أشعر بالفعل أني ساهمتُ بشيء؛ كما أسعى لإصدار العديد من المطبوعات التي توثق الأعمال الخيرية مثل “كتاب دارفور” الذي يتناول الإغاثة في السودان بشكلٍ متسلسل للأحداث، وآمل إقامة معارض عالمية خيرية تعرض ما قمت بتصويره من أعمالٍ خدمت الإنسانية”.