تقرير/ هديل عطا الله
في كل يوم تتدفق عَشرات من الصور حول العالم؛ ويتمنى المرء لو أنه كان حاضراً أثناء التقاط مَشَاهدٍ أقل ما يُقال في حقها أنها ساحرة؛ يحلم لو أنه يتجول في بقاعٍ “محظوظ” هو من يجوبها.
“مجلة ميم” انتقت عدداً من الصور نُشرت معظمها في موقع “ناشيونال جيوغرافيك” العالمي؛ لتضعها تحت مجهر التحليل من قِبل مصورين عرب لهم تجربتهم الاحترافية في هذا المجال.
البصيرة مَكَمن الإبداع
عن مفهوم التحليل الفوتوغرافي بدأنا مع أنور الدرويش؛ الناقد الفني والمصور الفوتوغرافي والفنان التشكيلي والمُحكّم في عدد من المسابقات الفوتوغرافية.
نشأ الدرويش في عائلةٍ تحب التصوير فمن والده وعمه ورث هذا الشغف؛ وهو حاصل على عددٍ من الجوائز الهامة؛ وله عضوية في عددٍ كبير من المؤسسات المهتمة بالتصوير والفن والصحافة عموماً؛ كما حاز على عددٍ لا بأس به من الجوائز الرفيعة.
ويعمل “ضيفنا” حالياً في كلية الفنون الجميلة في جامعة الموصل؛ وسكرتيراً لتحرير جريدة (ظلال نينوى) التي تعنى بالثقافة والفنون البصرية عامة والتصوير الفوتوغرافي خاصة.
يستهل حديثه بالقول: “من باب الدقة فإن اللغة البصرية يُفضل معها استخدام كلمة “تحليل”؛ والتي تتناسب مع اللوحة التشكيلية والصورة الفوتوغرافية؛ فنقول “تحليل الصورة” بدلاً من “قراءة” الرؤية البصرية فيها.
ويرى أن التحليل يختلف عن النقد؛ فلكل مفردةٍ وظيفة تختلف عن الأخرى؛ موضحاً: “التحليل يستند إلى مُخيلّة الكاتب ورؤيته نحو العمل الفني مستعيناً بسعة الإدراك الفكري بالإضافة إلى الإحساس العالي بالثقافة البصرية؛ أما النقد فيعمل على إظهار نقاط القوة ويُعزز من قيمتها ويبين نقاط الضعف في العمل الفني ويعالجها وذلك وفقاً لأسس وقواعد أكاديمية ثابتة ومعايير معتمدة كعناصر الفن وأهميتها في اللوحة المرئية. والشرح في هذا المقام يطول”.
(لكن ماذا عن تحليل الصورة أستاذ أنور؟).. يُعطي جوابه لمراسلة ميم: “بطبيعة الحال تتباين الثقافات ويتوقف ذلك على المخزون المعرفي والذي بدوره يختلف من مُشاهِد لآخر ووفقاً للبيئة التي ينتمي لها العمل الفني؛ لا سيما إذا كان واقعيا أو تعبيرياً ومع ما يحتويه من مضامين فكرية وفلسفية ومدى ارتباطها بالموروث أو التقاليد الشعبية المتجسدة في الشكل المرئي وما يحمله هذا الشكل من رموز ودلالات فكرية قابلة للتأويل؛ ومن هذا المنطلق استطيع القول أن الثقافة البصرية وسعة الأفق والقدرة على فك هذه الرموز والدلالات هي ما يميز الكاتب المحلل عن المتلقي العابر”.
وعن تأثير المعالجات الفنية على عفوية الصورة الفوتوغرافية؛ يتحدث: “هذه البرامج المتخصصة مثل الفوتوشوب التي تُستخدم في تعديل الصور بعد التقاطها مطلوبة بل ضرورية احياناً لكن وفق ضوابط محدودة على أن لا تخرج هذه الصورة عن روحها الفوتوغرافية الخالصة؛ ويتوقف ذلك على الشروط التي تحددها الجهات المعنية أو اللجان المشرفة على بعض المعارض والمسابقات؛ فلربما تُشرّع هذه اللجان حرية العمل والمعالجة متجاوزة بذلك الضوابط والمعايير؛ كما يحدث اليوم في الكثير من الأنشطة الفوتوغرافية وفي هذه الحالة اختلف مع ذلك تماماً؛ فللصورة الفوتوغرافية خصوصيتها كعملٍ خالص ونقي؛ إلا إذا كان هذا العمل يدخل في الإطار الرقمي ويرتبط بالتقنية”.
ويؤكد أن معالجات الصورة يجب أن تقتصر على التعديل اللوني؛ بحيث لا تخرج هذه الصورة عن واقعيتها في الحدة والتباين؛ والتي تأتي في سياق قطع أطراف الكادر لتعديل الميلان وحذف الشوائب غير المستحبة في الشكل المرئي؛ وخلاف ذلك تكون مبالغة أو إقحام غير مبرر”.
تُرى هل يصنع التدريب مُحكّمين جيدين للمسابقات الفوتوغرافية.. يجيب: “كلا.. لكن ربما تضيف الدورات التدريبية بعضا من الخبرة أو المعلومات التي يجهلونها؛ فللمُحكّم خبرة متراكمة يحصدها بعد أن يقطع شوطاً طويلا في دراسة منهجية أكاديمية متخصصة في هذا المجال؛ ناهيك عن تمتعه بالموهبة وقدرته على التمييز والفرز والانتقاء؛ وتبقى البصيرة مكمن الإبداع”.
ويُحبّذ الدرويش أن ينتمي المُحكّم إلى البيئة التي تقام فيها المسابقة وعلى وجه الخصوص إذا كانت محاورها الفنية مرتبطة بالواقع؛ وإلا سوف يكتفي بالشكل المرئي دون التعمق في جوهر العمل الفني وما يحمله من أفكار أو تأويلات مرتبطة بجغرافية المكان؛ ويختلف الأمر إن كان هذا العمل شمولي الفكر والإنسانية أي أنه لا يرتبط ببيئة محددة.
ما بين كدحٍ ولهو
وضعنا ستة صور تحت مجهر المصور البحريني اللامع فاضل المتغوي وهو مُحكّم دولي وحاصل على أكثر من 400 جائزة دولية وأخرى محلية، يحمل لقب إمتياز “الفِياب” من الفيدرالية الدولية لفن التصوير الفوتوغرافي؛ والتيجان الاربعة من إتحاد المصورين الدوليين.
ويُعد أول مصور بحريني يُحكّم في مسابقة أوروبية معتمدة من خمس منظمات دولية.
كما أن مسيرته الفنية غنية بالجوائز القيّمة فقد حصد عدداً من الجوائز الذهبية في أكثر من 136 دولة حقق فيها إنجازات مميزة.
إليكم التحليل التالي على لسان المصور المتغوي.
أرجوحة الصغيرات
يُقال بأن الخطوط المائلة في أي مشهد سرعان ما يقرأها العقل على أن هناك حركة وكسر للجمود؛ وإن عمل المصور “براساد أمباتي” جسّد هذه المقولة في عمله الذي يحتوي على فتيات صغيرات من قبيلة أكاهيل في تايلاند، إن تجميد اللحظة لإحدى الفتيات إذ تبدو هابطة من السماء تحملها أشعة الشمس؛ وميلان الخطوط الأرضية والأقواس؛ لدلالة على عين ثاقبة ترصد الذوق الرفيع. ودائما ما يبهرنا الصباح في إطلالاته.
ويقول صاحب الصورة: “من الرائع قضائهن وقتا ممتعا في الصباح الباكر؛ قلّما نرى في هذا الجيل من هم قريبين من الطبيعة هكذا”.
حصاد الفلفل
هذه الصورة التقطت في بنغلادش، حيث تقوم النساء بحصاد وفرز الفلفل الأحمر الحار وتجفيفه في الشمس. ويقول مصورها: “هناك ما يقرب من 100 مصنع، وأكثر من 2000 عامل يعملون يومياً؛ ويحصلون على نحو 2 دولار بعد 10 ساعات من العمل، وفي بعض الأماكن يحصلون على أقل من هذا الأجر”.
يقول فاضل المتغولي لــ “ميم” : “هنا شعور بطمآنينة وثبات لا يفقهما كثيرون ممن يشاهدون صوراً من هذا القبيل؛ إنه شعور غريب ينتاب النسوة ويظهر ذلك في الخطوط العمودية، إن مفهوم الخطوط في تحليل الصور له أبعاد كبيرة جداً في فهم تأثيرها على الإحساس البشري كما هي الألوان؛ فنحن بشر نتأثر بمحيطنا كما نؤثّر فيه، إن اللون الأحمر فيه حرارة تُشعِر المرء بالدفء ولو كان اللون الأزرق لشعرت بأمر آخر”.
راعي الإبل
يعيش هذا الرجل الهندي لحظة وادعة مع أحد جِماله؛ وذلك خلال مشاركته في أحد معارض الجمال، إذ تستقطب ما يقارب 200000 زائر من داخل الهند وخارجها.
يقول المتغولي: “يبدو الانسجام الروحي عالياً، إنها الأرواح تتلاقى وتنفر في علم اللاوعي بين البشر؛ والغريب أن الشعور نفسه يمكن أن يتقاسموه مع الحيوانات أيضا، إن انسجام الناس مع أنعامهم ليس بالأمر الجديد فقد عرفه الانسان منذ أمدٍ بعيد؛ وقد احتفظت بها رسوم الكهوف والمنحوتات الصخرية والبرونزية لأناس عشقوا حيواناتهم، وهناك بعض الحيوانات والطيور تمتاز بهذا القرب وتوثقت علاقة ابن آدم مع الخيل والجِمال على وجه التحديد، والراعي الهندي أنموذج لارتباط يتجلى في أجمل هيئة.
طائر تحت المطر
في هذا العمل يضع المصور الشهير “المتلقي” في جوٍ شاعري سحري وكأنه في عالم الأحلام؛ وفقاً للمتغوي؛ والذي يتضح من خلال اللون الأزرق والسكون، فالأزرق من الألوان الهادئة والتي تؤثر علينا بطريقة غريبة؛ ومن العوامل القوية التي وضعت العمل على سلم الصور الناجحة في الالتقاط: الضوء والظل وتساقط المطر.
مزارع مع زوجته
التقطت في قرية قديمة بالصين لمزارعٍ مع زوجته تحت الأشجار في الصباح الباكر.
يبدي المتغولي إعجابه بوعي المصور للضوء ودراسته للمشهد، “في الضوء رسائل أمل لفجرٍ جديد؛ إن الضوء والظل في المشهد الفوتوغرافي عوامل رئيسة لايصال أي رسالة ويكفي أن يضع “صاحب العدسة” العنصر الرئيسي في مساحة من الضوء والمتبقي من المشهد في الظلال، هنا يكمن التباين والذي يبرز بطرقٍ عدة كالألوان والأحجام وغيرها.
حامل الطوب
هذه الصورة لعاملٍ مهاجر من الهند يحاول موازنة الطوب فوق رأسه؛ حيث يعمل في مصنع في مدينة لاليتبور بنيبال؛ ويستطيع العمال حمل نحو 16 طابق من الطوب فوق رؤوسهم في كل مرة.
يعقبّ ضيفنا البحريني “صورة تحكي قصة، أحيانا إبراز جزء من موضوع كافٍ لسرده ولا يحتاج إلى تفاصيل، حسناً لو رأينا “قنينة” حليب في مكان ما ستعرف فوراً أن طفلاً وأماً يعيشان هناك؛ وستتساءل تُرى كيف تسير حياتهما، وكذلك الأمر في حال هذا العامل المهاجر إلى نيبال هروباً من الفقر؛ يتجشم عناء العمل بصبر؛ إنها صورة ناطقة لا تحتاج إلى تفسير”.
حيوية وقِيمة جمالية
ننتقل إلى المصور العراقي عبد الرضا عناد وهو مؤسس ورئيس مجلس إدارة منتدى فن الفوتوغراف؛ وله عضوية في اتحاد المصورين العرب؛ وكذلك في الاتحاد الدولي لفن الفوتوغراف “الفياب”.
وسيرته المهنية حافلة بمعارض شخصية شارك فيها على مدار سنوات طويلة؛ ولديه معارض مشتركة في العديد من الدول العربية و الأجنبية؛ كما حاز على العديد من الجوائز المحلية و الدولية.
وعناد مدربٌ و محاضر في مجال التصوير الفوتوغرافي والصحفي في العديد من الدورات التدريبية و الورش الفنية للمصورين الهواة و المحترفين منذ عام 2008 .
وعلاوة على ما سبق هو عضو لجنة تحكيم في العديد من المسابقات المحلية والعربية.
يقول في مستهل حديثه: “تعمل الصورة منذ انطلاقتها الأولى على توثيق حركة الناس ورصد توجهاتهم؛ فآلة التصوير تُسجل من مَشاهد الحياة اليومية ما يمكن أن يُشّكل لحظةً خالدة في الذاكرة الفردية أو الجمعية للأشخاص أو الشعوب؛ ناهيك عن تأثيرها المباشر في الرأي العام المحلي والعالمي في تغيير الاتجاهات والأفكار عبر الصور المُلتقطة.
في بحر مرمرة بالقرب من مدينة اسطنبول
نضعها بين يدي المصور العراقي فيقدم التحليل الآتي: “يعرض لنا المصور صاحب المُنجز التقارب بين الإنسان و بيئته المحيطة بشكل عفوي في مشهد قد يبدو متكرراً، و دائما ما تسجله أنواع مختلفة من الكاميرات ومن بينها كاميرات الهواتف النقالة أثناء تنقل الناس عبر البحر؛ إلا أن المصور التركي هنا تسنى له اختيار زاوية تصوير متميزة أضفت إلى المشهد الفوتوغرافي حيوية كبيرة؛ و ساهمت في إظهار البناء العام للمشهد بشكل جيد و أظهرت الترابط بين حركة اليد و منقار النورس حين التقطَ فتات الخبز؛ لندرك رمزية السلام والأمان والسَكينة؛ ومما عزز من القيمة الفنية للمشهد الاختيار الصحيح لتوقيت التصوير؛ وعلاوة على ما سبق فإن ثمة قيمة جمالية في الترابط بين مقدمة الصورة ووسطها وخلفيتها من خلال التأثير الذهبي المتوهج الذي يجذب عين المتلقي فوراً؛ إذن يميل المشهد بشكل عام إلى البساطة والعفوية في تسجيل اللحظة الزمنية المناسبة”.
شروق الشمس فوق جبال الدوليميت الإيطالية
تقول مصورة هذا المشهد الأخّاذ: “استيقظت الساعة الرابعة صباحًا لخمسة أيام متتالية للحصول على هذه اللقطة؛ دعني أخبرك؛ لقد استحق الأمر جهدي”.
يعقّب عبد الرضا عناد: “استطاعت المصورة قراءة المكان بشكل متميز؛ فقد وضعت الخطوط الرئيسة لبناء التكوين بشكلٍ مناسب؛ وبفضل مثابرتها تمكنت من توثيق هذه اللحظة؛ متيقظة لأهمية الزمن؛ وهكذا أوجدت توافقا بين المكان و الزمان فأظهرت جمال الطبيعة؛ و مما يعزز من سحرها التأثير المتميز “للانعكاس المُمّوه” أسفل المشهد؛ إلا أن ما يؤخذ على صورتها افتقادها للحيوية التي إن توفرت ستعزز من القيمة الفنية للمشهد؛ على سبيل المثال لو مر قارب صغير أو طير أو أي شيء يمكن أن يظهر على الضفة بجوار البناء الذي يتوسط المشهد.
بشكل صريح ممكن أن نقول: نعم هذا المشهد وبكل عناصره الظاهرة يستحق الجهد المبذول من أجل توثيقه”.
راعي الخراف
بطل الصورة راعي يقف مع قطيعه خارج قرية بَران في ترانسيلفانيا؛ الواقعة وسط رومانيا. حيث تزدهر الحياة الزراعية والبرية في المنطقة التي تحدها جبال الكاربات من ناحية الشرق والجنوب؛ لقد أبدى الرجل فرحًا حقيقيًا بأن يستمع أحدٌ إلى قصته.
حول الصورة التي نختتم بها “جُعبتنا” يقول عناد: “ليس بعيداً عن قريته يسوق الراعي قطيع خرافه عبر الجبال والحقول؛ وفي كل صباح تتكرر اللحظة الزمنية نفسها؛ حتى أن أيامه تتشابه كلها على هذا المنوال؛ مشهد فوتوغرافي يجسد حياة الراعي حاملاً بين طياته اهتمام الانسان بمصدر رزقه؛ قد يبدو الرجل متعباً باتكاءه على عصاه التي يقود بها قطيعه أو ربما تعينه عند المسير لكبر سنه”.
ويتابع التحليل: “في لحظة يتوسط فيها أغنامه بنظرته الحادة يبدو وكأنه يُحاور المتلقي فيمنح التكوين قوة في بناء المشهد؛ وقد منحت نعومة الإضاءة هدوءا يتيح للعين حرية الحركة بين تفاصيل وعناصر ومكونات المشهد في أبعاده الثلاثة؛ و ما يُعاب على الصورة ضيق المساحة والقطع غير المرغوب به في مقدمة الصورة و كان من الأفضل أن يمنح المشهد مساحة أوسع.