الفاهم محمد
تتصاعد اليوم عشرات الأصوات، معلنة نهاية الميتافيزيقا وموت الفلسفة كتقليد فكري غربي، بدأ مع سقراط وبلغ أوجه مع هيغل. لقد خسرت الفلسفة في بداية الأمر العلوم التجريبية التي خرجت من تحت ردائها خلال عصر النهضة. ثم تمردت عليها بعد ذلك العلوم الإنسانية، في النصف الثاني من القرن الــ 19. هكذا فقدت الفلسفة كل أبنائها وأصبحت مثل تلك الأم الثكلى، التي لم يتبقّ لها سوى النحيب على مآلها.
يؤكد جاك دريدا من خلال مشروعه التفكيكي، أن الفلسفة ما هي في نهاية المطاف إلا جنس أدبي، وأن الميتافيزيقا دقت نواقيسها الأخيرة. كما نسمع ميشيل فوكو يصرح أن الدور الوحيد الذي يظل للفلسفة اليوم، هو تشخيص أمراضها، وفي أحسن الأحوال الدخول في نقد داخلي لتاريخها. أما ليوتار، فقد رفع عقيرته بشدة ضد ما أسماه بالحكايات الكبيرة، ومن بينها طبعاً الميتافيزيقا التي انتهت وما عاد بالإمكان قيامها.
وإذا تجاوزنا الفضاء الفرنسي، فالأمر لا يختلف كثيرا ـ وان كان أقل حدة ـ فهذا ريتشارد رورتي في أميركا، يصرح بصيغة تقترب في حدتها من مناخ فلسفة الاختلاف. لقد انهارت في نظره تلك العقلانية القوية الواثقة من نفسها، لصالح عقلانية ضعيفة، كشكل من أشكال المعرفة الثقافية، التي تعبر عن مصالح قومية معينة، دون ادعاء تمثيل الحقيقة الإنسانية العامة، أي دون الطموح إلى تأسيس تلك المفاهيم الكبيرة التي عكفت عليها الفلسفة منذ سقراط.
ربما نجد الصيغة الأكثر اعتدالاً عن موت الفلسفة في ألمانيا، وبالضبط عند يورغن هابرماز الذي يكتب عما بعد الميتافيزيقا، فرغم كونه متشبثاً بالتقاليد الفلسفية الأنوارية التي يعتبر أنها ما زالت ناقصة لم تكتمل بعد، إلا أنه لا يستطيع أن يضمن مع ذلك نجاح مشروع فلسفة الفعل التواصلي، دون القيام بنقد صريح لهذا التاريخ الفكري.
زمن النهايات
ينبغي الإشارة إلى أن فكر النهاية هذا، يأتي ضمن مناخ فكري عام، كثر فيه الحديث عن النهايات: نهاية الإديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الإنسان، بل وحتى نهاية العلوم الحقة… وهي نهايات تتباين من ناحية منطلقاتها وغاياتها الفكرية، بسبب الطموح النقدي الذي أكلته حماسته المفرطة أحيانا، كما هو الشأن بالنسبة للبنيوية والتفكيكية. وأحيانا أخرى بسبب الإغراءات الإيديولوجية الملفَّعة خلف تأويلات نظرية متسرعة، كما هو الحال بالنسبة لأطروحة نهاية الأيديولوجيا والتاريخ.
تلكم نهايات جريئة، فهل أصبح الفكر المعاصر مجرد بيانات تأبينية نتلوها فوق المقابر؟!. هل أضحت الفلسفة صلاة جنائزية نرددها في وباء النهايات هاته؟ كيف السبيل إلى التفلسف في زمن موت الفلسفة؟
نعتقد أن الحديث عن موت الفلسفة لا يمكن أن يكون إلا فلسفياً. مثلما أن الحديث عن ميلادها كذلك، لا يمكن أن يختزل إلى مجرد عمل تأريخي وضعي، يتتبع الوثائق وينقب عنها. إن ميلاد الفلسفة وموتها مسألة فلسفية في العمق. إن كل ما يمكن أن يقال أو يثبت عن الفلسفة، لابد أن يقال ويثبت في اتجاه تاريخها وداخله، فميلاد هذا الشيء الذي ندعوه فلسفة لم يكن أبدا ابتكاراً من طرف عقول نيرة، امتلكت عبقرية التساؤل {إرنست رينان مثالا}. بل هو ميلاد يدخل في صلب تاريخ الوجود، وبالتالي في صلب تاريخ الحقيقة. الشيء نفسه يقال عن ادعاء النهاية هذا. فهل اكتمال الفلسفة معناه اكتمال زمن البحث عن الحقيقة والمعنى والغاية، باعتبارها مثل لا يمكن العثور على أي أمل لتأسيسها، وبالتي انتهاء عصر المساءلة، هذه المساءلة التي بلغت أوجها في حقبة الحداثة والتقنية. أم أن نهاية الفلسفة يحمل معنى آخر، وهو أن ما تم التساؤل عنه يصعب حمله إلى الفكر، أي يصعب قوله بلغة الميتافيزيقا، بما هي لغة تقوم أساسا على البرهنة والحساب والمنطق، وبالتالي ينبغي استنهاض الفكر والبحث عن لغة جديدة، قادرة على قول ما يستعصي قوله، وهذه هي مهمة الفكر الذي ينبغي أن يحل في زمن نهاية الميتافيزيقا.
رهانات وإمكانات
تتجلى معضلة الفلسفة لحد الآن في نقطتين أساسيتين: الأولى يعرضها الاتجاه المثالي الذي بدأ منذ اليونان وإلى غاية ديكارت وهيغل وهو الاتجاه الذي أراد أن يستخرج العالم والوجود بشكل عام من الذات، وهم في ذلك كانوا أشبه بذلك الساحر الذي يقف على خشبة المسرح ثم يرفع قبعته الطويلة لكي يستخرج منها مجموعة من الأشياء. لقد سقط الاتجاه المثالي كما هو معروف في نزعة إنكار الوجود وصَوْرنة (من صورة) الفكر. الثانية نجدها عند مجموعة من الاتجاهات مثل المادية والوضعية والوجودية… هذه الاتجاهات التي تؤكد أن الذات هي التي ينبغي استخراجها من العالم، فهي بالنسبة إلى ماركس حبيسة شروطها المادية والاقتصادية، وبالنسبة إلى كومت مرتبطة بقانون الأحوال الثلاثة، أما بالنسبة لسارتر فهي ملتصقة بعصرها ملتحمة بظروفها التاريخية والاجتماعية. هذه الاتجاهات تنتهي إلى مزالق معاكسة لسابقتها، فقد انتهت إلى إنكار المعرفة وصَوْرنة الوجود. هكذا تحولت المعرفة مع ماركس إلى أيديولوجية محرضة على التغيير: ليس المهم فهم العالم بل تغييره. كما تحولت مع كومت إلى صيغ قانونية وضعية. أما بالنسبة للوجودية، فقد أصبحت المعرفة عبارة عن انفعال شعري صوفي أو أدبي يرفض أي تأسيس.
الشيء نفسه حدث بالنسبة للوجود، حيث اختزلته الماركسية إلى تظاهرات تاريخية، وحولته الوضعية إلى صيغ تبسيطية لترقي الوعي الإنساني، أما بالنسبة للوجودية، فالوجودي بما هو انفعال وانزعاج الأنا داخل العصر في ارتباط مع الظروف يحجب الوجود، أي أن التساؤل عن وجودي أنا يخفي التساؤل عن الوجود العام.
إن معضلة الفلسفة إذن، وكما يعرضها علينا تاريخ الفلسفة هي عبارة عن جهد كبير مبذول من أجل إعادة الاعتبار للوجود والمعرفة خارج كل صَوْرنة وخارج كل نزعة إنكارية.
كيف السبيل إلى تأسيس إمكانات جديدة للفلسفة دون التضحية بالمعرفة، وتحويلها إلى أيديولوجيا محرضة أو وصف وضعي، ودون التضحية أيضا بالوجود وتحويله إلى كلية عينية يعيشها الإنسان القلق بشكل لا يستطيع توصيلها إلى الآخرين.
إن آفة عصرنا كما يبين هيدغر هي نسيان الوجود، والذي يعني في الحقيقة نسيان كلمة الوجود لصالح لغة واحدة هي لغة الموجود. إن عصرنا إذن قام بتحويل حب الحكمة إلى امتلاكها والقبض عليها.لقد أراد أن يستبق التاريخ وأن يعثر على هذا المعنى النهائي للوجود في غياب الفعل الإنساني. لدى اليونان كان هناك إيمان أن كلمة الوجود لا يمكن أن تستنفذها كلمة الموجود. إنها ذلك العناد الواعي لتحويل ما لا يمكن التعبير عنه إلى لغة إنسانية مشتركة، حتى وان كانت هذه المهمة لا منتهية، حتى ون كان الصمت يجدد نفسه باستمرار. إن أكبر مشكلة تعترض الفلسفة الوجودية في جميع اتجاهاتها هي مشكلة التواصل، فقد تحولت الفلسفة مثلاً مع كيركيكارد إلى ابتهالات باطنية، ومع هيدغر إلى استحالة الكلام يقول بصراحة مقلقة في رسالة في النزعة الإنسانية: «إن الفكر الذي يحاول التفكير باتجاه حقيقة الوجود لا يحمل على اللغة». نعتقد هنا أن الفلسفة هي محاولة جادة لتجاوز الحياة الباطنية. إن السبيل الوحيد لاستمرارية الفلسفة هو الذهاب قدما في هذه الأنطولوجيا التي لا تنتهي أبدا، هذه الأنطولوجيا التي لا تنضب ولا ينهكها السؤال.
نحن واليونان
إن الموقف من اليونان ينبغي أن تحكمه الاعتبارات الآتية:
أولا: لا يمكن النظر إلى اليونان كما لو كانوا لحظة من لحظات تعين الروح، والتي لن تبلغ كمالها المطلق إلا في الآتي من الزمان طبقا للنظرة الهيغلية. فليس اليونان مرحلة سيتم تجاوزها طبقا لمنظور تقدمي نمائي، يلغي فيه اللاحق السابق. بل إن اليونان هم الذين سيقولون الكلمة التي ما فتئ يتردد صداها في التاريخ.
ثانيا: لا يمكن النظر إلى اليونان كنقطة مرجعية، ينبغي علينا أن نعلوا التاريخ بشكل تراجعي حتى نعود إليهم، كما لو أنهم يمثلون تلك التجربة التي يكفي استنساخها لحل مشاكل الحاضر. أو كما لو أن جروح الحداثة يمكن معالجتها بالرقصات الجنونية لديونيسيوس/ نيتشه، أو ببخور الآلهة اليونانية الهاربة في سديم الوجود/ هيدغر.
لا يتعلق الأمر إذن بالنظر إلى تاريخ الفلسفة كتاريخ تقدمي نمائي {هيغل}، ولا بالنظر إليه كتاريخ استرجاعي نبحث في ذاكرته عما نسيناه في زحمة التقدم والحداثة {هيدغر}. إن هذا معناه أن ما نتعلمه من اليونان، هو أنهم ليسوا مجرد لحظة من لحظات التعين الأولى لمراحل الحقيقة، التي لم يبلغ فيها الفكر بعد وعيا مطلقا بذاته. كما أنهم في الآن ذاته ليسوا ذلك المعين، الذي يكفي العودة إليه لتفسير كل هذا الأفول الذي لحق الحضارة الغربية.
إننا نعتقد هنا أن اليونان كان لهم كامل الوعي بطبيعة اللحظة التاريخية التي يمرون بها. وأنهم قد أدركوا بالفعل أنها ليست مجرد لحظة بسيطة من لحظات التاريخ،، ولكنها منعطف أساسي وحاسم في تاريخ الوجود. وعاشوا بشجاعة وجرأة نادرة هذا الانفصال كولادة جديدة لتعين من تعينات الوجود. ونحن بدورنا في هذا المنعطف الحارق للألفية الثالثة نعيش مثلهم وبشكل مأساوي أكثر وضعية انتقالية استثنائية. ذلك أن الانتقال كما يمكن أن يعرف عادة هو عبور من نقطة إلى أخرى، تكون واضحة كهدف أو كأفق. أي وضعية نعلم وجهة سيرنا نحوها، وبالتالي نكون مهيئين لها. والحال أن وضعيتنا نحن ملتبسة وحساسة إلى درجة بعيدة. فإنسان اليوم يجهل تماما إلى أين يمضي، كما أن الأحداث والوقائع تتجاوزه باستمرار. انه إذن المنعطف نفسه الذي نمر به، نقصد أننا أناس هذا الزمان، ومن موقعنا التاريخي هذا الذي يوسم بكونه عصر الذرة وغزو الفضاء وهندسة الحياة، نحن شاهدون أيضا على ولادة تعين جديد من تعينات الكينونة، ثمة عالم جديد هو في طور الولادة والنشوء. من الواجب التذكير أننا لسنا أول الأقوام التي تعيش مثل هذه الوضعية الانتقالية، فالتاريخ مليء بمجموع اللحظات، التي كان فيها من المفروض على الإنسان أن يفكر في درجة الصفر الكونية مثل حضارة المايا والازتيك … إلا أن رجاحتهم خانتهم فانهاروا مع وثيرة التراجع الدوري للزمن.
إن الأعماق تضمحل لصالح السطوح، والأشكال تتغلب على المضامين، والينابيع الحية للفكر والسؤال، يتم تجفيفها بخراطيم المادة، وجنازير الرأسمال تدوس بلا هوادة على ما تبقى من منظومات القيم، ويوماً عن يوم يصبح الفجر مجرد جزيرة من الملح. غير أنه وفي كل مكان هناك أصوات مطحونة تئن، ولغة متلعثمة تبحث عن شكل لها يمكنها من قول ما يرفض الرأسمال سماعه. هنا بالضبط يكمن النبض الحقيقي للفلسفة: العثور على لغة لقول ما يستحيل قوله، لا سواء بلغة الميتافيزيقا، ولا بلغة الرأسمالية والتقنية. فإذا كان هناك من دور ما يزال ملقى على عاتق الفلسفة، فهو مساعدتنا على رفع درجة وعينا بخصوص هذا المنعطف حتى لا يكون مجرد قفزة في الفراغ.