على ماذا كانت الدعاية الأوروبية تنتقد الفن السوفييتي أو الصيني؟ تحضرني كلمات مثل “الرقابة” و “الخوف”!
متحف “اللوفر” … متحف “البرادو” … “الصالة الفنية الوطنية” … ماذا تضم هذه المتاحف سوى مجموعات من الحفلات الجماعية الفاسقة التي تحتفي بالخضوع، والعبودية، والجبن، والتي لا يمكن أن يتخيلها المرء في أي مكان آخر على هذه الأرض؟
لوحات اللوفر: شاهدتُ، بشيء من الرعب، الطفل يسوع وهو يحبو في كل لوحة تقريباً … ثم عمليات الصلب وبالطبع القيامة … كل ذلك بشكل متكرر يبعث على الخوف.
صورة للطفل يسوع بوجه بالغ شاذ، يزحف على الأرض، بينما يراقب البالغون بإعجاب وخنوع. وهناك صور لبعض المسوخ الدينية والسكاكين مغروزة في رؤوسهم … هناك ملائكة غريبة الشكل تطير، تتساقط من السماء، تتصارع وتهدد بوجوهها اللئيمة.
هناك كاردينالات، وأساقف، وبابوات. وهناك أرستقراطيون، وملوك، وحكام، وتجار أثرياء كان بمقدورهم استئجار “فنانين كبار”. كل ذلك العهر الإبداعي؛ كل تلك اللوحات المنتجة تحت الطلب، والتي تشكل جوهرَ الثقافة الأوروبية؛ جوهرَ الفن الأوروبي!
تجولتُ مع والدتي من قاعة إلى قاعة. “تقنية رائعة”، قالت بسخرية. نعم، وافقتها الرأي، تقنية رائعة بالفعل … ولكن ماذا عن المادة!
“كل السلطة في تلك القرون كانت مركزة في أيدي الكنيسة”، علقت أمي. “كانت الكنيسة أقوى بكثير من العرش والأرستقراطية. وبالطبع وظفت الكنيسة أمهرَ الرسامين، من أمثال كارافاجيو، وليوناردو دافنشي، ورافاييل. ومن الطبيعي أنهم كانوا جاهزين وسعداء للعمل لدى الكنيسة، لأن الكنيسة كانت تدفع لهم بسخاء، ولأنها كانت ’تحميهم‘، وتضمن لهم عدم إحراقهم مثل البقية، وإنقاذهم من التعذيب والقتل … طبيعي، لم يكن الفنانون يدعون إلى التمرد، ولم يكن هناك أي تنوع فكري، ولا أي نقد للنظام، أو لوحشية العقيدة المسيحية نفسها …”
في تلك السنوات والقرون، قتلت المسيحية عشرات، بل مئات الملايين من البشر، من الناس البريئين في كافة أصقاع الأرض.
قامت بتمويل “البعثات” إلى ما يسمى الآن أمريكا الشمالية واللاتينية، إلى أفريقيا، إلى الشرق الأوسط، وإلى كافة أنحاء آسيا تقريباً.
تم تدمير أمم بأكملها، وثقافات عظيمة لا تعد ولا تحصى، وشعوب كانت تتمتع بثقافات أكثر تقدماً، مثل “الإنكا”؛ شعوب أجبرت على تدمير هوياتها، من خلال تدمير المعابد والمساكن، ومن ثم استخدام الحجارة لتشييد الطنائس والكاتدرائيات المنتصبة لإرضاء الغزاة المسيحيين القساة الغلاظ.
أين تم توثيق هذا كله؟ بالطبع يمكننا أن نراه في المدارس الفنية العظيمة: في كوزكو البيروفية وكويتو الإيكوادورية … ولكن في الغرب؟
أين ترى في متحف “البرادو” في مدريد تلك التماثيل واللوحات التي تصور الوحشية المسيحية؟ أين هي تلك المئات والآلاف من الأعمال الفنية التي تصور الفظائع التي ارتكبتها المسيحية: تعذيب الناس لأيام وأسابيع، وكسر عظامهم على العجلات، والأدوات الحادة التي كان يتم إدخالها في الفروج والمؤخرات، وحرق الرجال والنساء على الخوازيق؟ كل ذلك لكي يعترفوا أنهم “خطاؤون”، أنهم “أشرار”؟ فهذا مبرر لقتلهم دون أي رحمة أو ندم.
أين هم أولئك الفنانون الذين تجرؤوا على تصوير نتائج الحملات الصليبية – الوحشية والنهب المرتكبين باسم الصليب؟ لا يمكنك أن تراهم في أي مكان – فقد كانوا جميعاً يتناكحون مع الكنيسة التي كانت تدفع لهم وتعمل على إفسادهم!
أين هي تلك اللوحات التي تصور الخزائن المليئة بالنفائس المنهوبة؟ ثم، أين هي صور ملايين الضحايا الذين تم تقطيعهم وفقأ أعينهم وتعذيبهم على الخوازيق وحرقهم أحياءً؟
تجولت ببطء عبر قاعات وردهات المتاحف الفرنسية والبريطانية والإسبانية والألمانية. ولم أر أي شيء على الإطلاق يصور الجرائم والإبادات التي ارتكبتها المؤسسة الأكثر شراً على وجه الأرض؛ المؤسسة الأكثر شراً عبر التاريخ – الكنيسة المسيحية.
هذه الكنيسة، هذه المؤسسة المخيفة التي طالما أرعبت وعذبت مليارات الناس في كافة أنحاء العالم، ولقرون طويلة، لا تزال – من الناحية “الأخلاقية” و “الفكرية” – تهيمن على البلد الأقوى والأكثر تدميراً على وجه الأرض: الولايات المتحدة الأمريكية.
كما لا تزال تشكل الجوهر الثقافي لأوروبا. حتى الآن!
في أوروبا، لم تعد غالبية الناس تذهب إلى الكنيسة ربما، ومن المحتمل أن الأكثرية لا يؤمنون بالعقيدة المسيحية … من المحتمل أنهم لا يؤمنون بالأديان، لكن “الثقافة” الأوروبية تتشكل من العدوانية والوحشية والقسوة التي تتميز بها الكنيسة المسيحية وعالمها.
هذا لا يعني أن “الناس اختطفوا الدينَ السَمح وحولوه إلى وحش” – الدين هو الذي غسلَ أدمغة الناس، أدمغة أمم بأكملها، وحولهم إلى قتلة متعصبين متشددين. ولكن حاولوا أن تتلمسوا مثل هذه الأفكار في لوحات متحف اللوفر …
لم أرَ أية أعمال فنية تشي بروح “التمرد” في أي من المتاحف الأوروبية.
شعرت بالعار. وشعرت بالرعب لهذا الجوهر المتناغم لمثل هذا الضعف والانهزامية.
كنت أتجول في اللوفر و “الصالة الوطنية” في لندن والخجل يعتريني مثل صبي صغير.
كيف يمكن لهذه الثقافة أن تنتقدَ الفنانين العظام في الصين أو روسيا أو أمريكا اللاتينية؟ كيف تجرؤهذه الثقافة الخنوعة والجبانة على توجيه النقد لأي أحد أو أي شيء على الإطلاق؟
هناك، في أمريكا اللاتينية وآسيا، يقف الفن شامخاً؛ إذ طالما كان طليعياً في جميع قضايا التغيير والتقدم!
حتى في إندونيسيا، الفنان العظيم في مرحلة ما بعد الحرب هو دجوكوبيكيك … صديقي دجوكوبيكيك … فنان سياسي “فضائحي” يتمتع بقلب يساري من الناحية السياسية، وجرأة وشجاعة لا متناهية … كان فيما مضى أحدَ سجناء الضمير في السجون المدعومة من الغرب في إندونيسيا الفاشية بعد سنة 1965 … رسامٌ خلدَ سوهارتو على هيئة خنزير ورئيسَ الوزراء السابق – ميغاواطي – على شكل دمية! وأمته الخانعة المغسولة الدماغ على شكل قطعان من القرود!
أين هم أولئك “المعلمون” الأوروبيون “الشجعان”؟ أين هم، اللعنة!
اللوحات التصويرية، واللوحات الجدارية، والإعلانات، والأغاني، والمسارح، ودور السينما – كلها تجاهد محاولة تحسين المجتمعات في العديد من أجزاء آسيا وأمريكا اللاتينية، وحتى في إفريقيا. انظروا إلى درجة الالتزام الاجتماعي التي يتميز بها فن أمريكا اللاتينية والفن الصيني! ثم انظروا إلى تفاهة وخضوع الفن في الغرب وابتعاده عن كافة قضايا الناس!
في فنزويلا والبرازيل، في الإكوادور وبوليفيا، في كوبا وتشيلي ونيكاراغوا، يقدم الفن الجمالَ والأمل؛ يبحث عن اتجاهات جديدة لمجتمعاته. ولهذا فإن الكثير من الأغاني التي يغنونها هناك تتميز بالعمق والشاعرية والكلمات المدهشة والموسيقا الجميلة. معظم تلك الأغاني “ملتزمة”.
الجمل – آندريه فلتشيك – ترجمة: د. مالك سلمان..