الفن في الغرب يحاول الآن أن يغطي – بواسطة الانحناءات المعقدة والدوائر المفلطحة – عجزَه الكامل، وفراغه الأخلاقي، وكذلك الوحشية المخيفة للثقافة الأوروبية والأمريكية الشمالية.
أثناء تجوالي في باريس، من “جامعة السوربون” إلى “موزيه كوي برانلي” (المتحف الذي كان الفرنسيون يريدون أن يسموه – في الأصل وبشكل عنجهي – “متحف الفن البدائي”)، مررتُ بمئات الصالات الفنية.
في تلك الأيام كان الغرب – كما وضحتُ في العديد من مقالاتي الأخيرة – منكباً على محاولة تدمير كافة البلدان والحكومات التي لا تزال تقاوم قبضته الفاشية على السلطة الكونية.
كان يتم تصنيع الحركات “المعارضة” بشكل مستمر في أمريكا الشمالية وأوروبا، ومن ثم يتم زرعها في فنزويلا والصين وأوكرانيا وروسيا وإريتريا وكوبا وبوليفيا والبرازيل وزمبابوي، وفي بلدان عديدة أخرى في كافة القارات. لقد تم حرف “الربيع العربي” عن مساره وتعميده بالدم، مع قيام الطغم العسكرية الفاشية المدعومة من الغرب باعتقال وقتل المعارضين والثوريين السابقين.
لم أرَ أي انعكاس لهذا الواقع في الصالات الباريسية!
في إحدى الصالات رأيتُ عدة كلاب معدنية مربوطة بحبال معدنية وبارزة في الفضاء … رأيت المئات من المواضيع الشعبية، من النقانق الإيطالية، إلى الفتيات العاريات، وصولاً إلى “فرانكنشتاين” …
في “رو مازارين”، كان مطلوباً مني أن أبديَ إعجابي بعدة علب قمامة سوداء وصندوق من الكرتون … وأشياء كهذه في العديد من صالات “كوي فولتير”، مع أنها كانت أكثر كلفة واحتشاماً.
كانت فرنسا في ذلك الوقت متورطة في جميع مستعمراتها الأفريقية السابقة تقريباً. كانت تلعب دوراً تدميرياً في القارة الأفريقية على غرار الولايات المتحدة.
ولكن لا يمكنك أن تتوقع أياً من هذا من خلال فنها التصويري – من خلال متاحفها وصالاتها الفنية!
كان كل شيء فارغاً حتى الثمالة … منتهياً … مستهتراً … ومحرجاً. لم تكن هناك أي أصوات معارضة مسموعة.
كنت غريزياً أتوق إلى الهرب من المشهد الفني الباريسي، كما كنت قد هربت قبل يومين – بالمعنى الحرفي للكلمة – من “الصالة الوطنية” في لندن، بعد أن شعرتُ أنني “محاصَرٌ” من قبل خوان دو فالديز ليل ولوحته “الحمل الطاهر للعذراء، بواسطة متبرعين اثنين”، ولوحة “بورتريه” لدون أدريان بوليدو باريخا الثري المتغطرس والتي رسمها خوان باوتيستا مارتينيز دي ماتزو.
كنت قد هربتُ، قبل سنتين، من بروكسل حيث كنت أتعثر أينما ذهبت ب “عمل فني عظيم” آخر – تماثيل الملك ليوبولد الثاني، بطل بلجيكي حقيقي أمرَ بذبح حوالي عشرة ملايين كونغولي في ببدايات القرن العشرين – أولئك الذين تم اتهامهم بالبطء في العمل في مزرعة المطاط التابعة للملك. تمثلَ الشكل النموذجي للقتل في قطع الأيادي، ولكن تم إحراق الملايين أحياءً بعد احتجازهم في أكواخهم. عندما يواجه المرء بمثل هذه الأفعال، لا يمكنه أن يشككَ برفعة وعظمة الثقافة المسيحية والأوروبية!
كما تُعتبَر تماثيل السير ونستون تشيرتشيل ولويد جورج، هذان الرجلان الطيبان الظريفان اللذان قتلا الملايين من “أولئك العبيد” في الشرق الأوسط وأفريقيا، بمثابة جزء من روائع الفن الأوروبي، هذا عداك عن تماثيل العشرات من الوحوش البغيضة المسؤولة عن الإبادات الجماعية في الأمريكتين – التماثيل الموجودة في مدريد ولشبونة. ولا توجد هناك “غرافيتي” جدارية يمكن أن تضيف بعض اللون إلى تلك “الروائع” الرمادية والبرونزية، مثل كلمة “مجرمون”!
* * *
بصراحة، عشرة أيام من البحث عن فن أوروبي ذي معنى أنهكتني وأصابتني بكآبة لا تحتمل.
ذهبت إلى هناك لكي أبحث، مرة أخرى، عن الحقيقة، لكنني وجدتُ قروناً من الدعاية المتراكمة، طبقة فوق طبقة.
ربما كانت هذه محاولتي الأخيرة، بما أنني قد أمضيت سنوات وعقوداً في دراسة الفن الغربي، أتجول في أوروبا وأمريكا الشمالية، وأزور المتاحف والصالات الفنية وقاعات الموسيقى ودور الأوبرا، بالإضافة إلى كافة أنواع الأنفاق المزينة بالغرافيتي. وقد حان الوقت لأتقبلَ النتائجَ الواضحة، وأكرسَ وقتي لشيء أكثر أهمية.
بحثتُ عن اللطف، لكنني وجدتُ الاستفزاز، والخوف، والوحشية.
بحثتُ عن أجوبة لكل تلك الفظائع التي نشرتها الطريقة الغربية في التفكير … لكنني لم أجد سوى التماثيل واللوحات المتباهية، المكررة والمصنوعة حسب الطلب.
كان هناك القليل، القليل جداً، من الرسامين، من أمثال أوتو ديكس في ألمانيا، أو مَنتش النرويجي. فقد استطاع هذان الاثنان على الأقل أن يعبرا عن الخوف الرهيب الذي نشرته المسيحية؛ ونفاق وشذوذ العقائد الغربية.
في “صالة تيت للفن الحديث” في لندن، كان هناك معرض لفن الإعلان السوفييتي. وفي “مركز بومبيدو” في باريس زرتُ معرضاً ضخماً ومؤثراً لهنري كارتير- بريسون أكدَ لي مرة أخرى ان أحد أعظم المصورين الضوئيين في كافة العصور كان في الحقيقة ماركسياً وصديقاً مقرباً من الاتحاد السوفييتي والصين الشيوعية.
لكن هذه مجرد استثناءات بالطبع، وكان معظمها أشبهَ بصدىً من الماضي. فمن المعروف أن الفن الغربي تفجرَ لثلاثة قرون بعد الحرب العالمية الثانية في محاولة للانضمام إلى الإنسانية … نعم، تفجر، لكنه أحرق نفسه بسرعة، بسرعة فائقة! فسرعان ما عاد الخواء وانعدام الروح.
مع عودة العالم إلى الحالة السابقة من الصراخ نتيجة الألم؛ ومع عودة الكولونيالية الجديدة إلى قتل الملايين من الرجال والنساء والأطفال في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط (ولكن أيضاً في أماكنَ أخرى مثل فنزويلا ومصر وأوكرانيا)، استمر الفن الغربي فيما برع فيه على مدى قرون طويلة – تصوير الخراء الصرف، وحسب الطلب فقط.
سواء تكلمنا على الكنيسة، أو العرش، أو التجار، أو الآن الشركات متعددة الجنسيات أو الحكومات المحافظة – فإن الفنانين الأوروبيين والأمريكيين الشماليين مستعدون لخدمتهم بإخلاص طالما أن الأموال تتدفق إلى جيوبهم! وهم مستعدون للتنافس على هذه الأموال، وحتى لذبح بعضهم البعض.
إنهم متحمسون، و “قادرون تقنياً وفنياً” على تقديم أي شيء من شأنه أن يوقف عجلة التقدم، ويغطي على كل تلك الجرائم التي يرتكبها الدين والتجارة والدولة. إنهم مستعدون لتحويل مهنتهم إلى سلاح فتاك، لتضليل الناس ومنع وعيهم من التفتح والتفكير العقلاني والتعاطف، و سلبهم حتى من الحب ومن الغرائز الإنسانية الأساسية الطيبة والمشاعر.
الأضواء المشعة، والتراكيب الفنية الضخمة المليءة بالقش البلاستيكي والأضواء المتقطعة للمعاتيه – هذا هو جوهر الفنى الأوروبي الحديث.
المليارات من الناس الذين يموتون من الجوع ويعيشون في الزواريب والمجارير لا يشكلون أية أهمية. فهم لا يدفعون – ولذلك فهم غير موجودين.
تُرجم عن (“كاونتربنتش”، 21 – 23 آذار/مارس 2014)
الجمل