وكأن اسكندنافيا كلها كانت تنتظره، وهو داخل منزله الصغير الغارق في ضجيج الصمت على أطراف مدينة سويدية كئيبة تلتحف الصّقيع كعباءة وتلتهم الظّلمة كخبزها اليومي الطازج.
استيقظ نرويجي قد جاوز منتصف العمر مغرورقة عيناه دموعاَ بالفطرة حتى في ومضات الفرح القليلة، واتخذ جلسته أمام حاسوبه الشخصي. كانت الساعة تشير إلى الرّابعة والنصف صباحاً عندما شرع يحاصر ضجره من خفّة الوجود التي ما لبثت تقرع أجراسها في رأسه بطباعة كلمات خارجة عن أي نص ممكن، تراصفت معاً كثورة غاضبة في مواجهة عتو خداع الذات، فتمادى معها وتمادت معه قبل أن يسترده منها أطفاله الثلاثة الذين استيقظوا وارتفعت أصواتهم مطالبين بالحصول على إفطار. لم يكن ذلك النرويجي الذي نعرف الآن أن اسمه كارل أوف كنوسغارد روائيّاً، ولم تكد حياته الرتيبة الرائقة تختلف عما فيها من الملل والتفاهة عن حياة أي موظف مكتبي من الطبقة الوسطى في أوروبا المعاصرة، لكنه وجد نفسه مدفوعاً ولعدة أشهر تالية للانخراط في ذات الطقس السحري لتطريز منمنمات من حروف ينسجها بأدوات الضجر ليستعين بها على مقارعة ضجره الذاتي الخاص، قبل أن تستعيده من وهم الحقيقة إلى حقيقة الوهم أصوات أطفاله الجائعين من جديد.
هذا الطقس اليومي أنتج نصاً غريباً عجيباً يتلاعب بقواعد اللغة ليلقي بأكوام المتناقضات على صعيد واحد، ويستخرج من حصار الرّوح بالمألوف والعادي والمبتذل تراجيديا مشوّقة، وينحت من فوضى المصادفات أقداراً محتمة لا بدّ منها، فيقول تماماً كل ما لا يجب أن يقال حين يراد للبشر أن يتعايشوا في مشوار حياتهم القصيرة العبثيّة. وقد حدث أن تآمرت الوقائع التي لا منطق فيها على نقل هذا النص إلى كتاب منشور باللغة النّرويجيّة المحليّة صنّف أدبياً كرواية سرد ذاتية ما لبثت أن أثارت الانتباه بوصفها تجربة استثنائيّة في وصف حياة غير استثنائية، وبوحاً ذاتياً لا تحتمل صراحته، لا سيما أنها حملت عنواناً شديد الألفة «كفاحي – كما نص الفوهرر الألماني الراحل» في استعمال غير مألوف مطلقاً في مجتمعات أوروبا ما بعد الحرب الكونيّة الثانية.
كنوسغارد وجد نفسه مدفوعاً للاستمرار في ممارسة روتينه اليومي عن وصف الضجر الاسكندنافي، حتى استيقاظ أطفاله الجائعين، تحديداً بعد النجاح غير المتوقع للكتاب وضغوط الناشر المتزايدة عليه. وهكذا صدر جزء ثان تلاه ثالث إلى أن قرر التوقف عن الكفاح بعد جزء سادس صدر أخيراً سماه «كفاحي – النهاية» وظهرت ترجمته الإنجليزيّة الشهر الماضي.
وللحقيقة فإن الأموال والشهرة تدفقت عليه كما لُجة بحر هائج، وتداولت الدوائر المعنيّة بالثقافة اسمه على نطاق واسع كمرشح نجم لجائزة نوبل للآداب، وانتشرت أعماله كما النار عندما تتسابق في التهام الهشيم حتى قيل إن كل بيت نرويجي يمتلك ولو نسخة من أحد أجزاء سداسيته، وأن نرويجياً واحداً على الأقل من كل تسعة قد قرأها، بينما أعلنت بعض أماكن العمل هناك أنها ستخصص أياماً في الأسبوع ينبغي للموظفين فيها التوقف عن الثرثرة والجدل حول «كفاح» كنوسغارد. لكن كل ذلك لم يكن يتسبب لصاحبه سوى بمزيد من الألم والضيق والخجل الشامل، ليس فقط لأنه رجل لا يحب الأضواء، ويمقت المجاملات والاستعراضات الفارغة المرتبطة بها، بل لأن صراحته التي تشبه السذاجة كانت تنتهي به إلى فقدان علاقاته الاجتماعيّة واحدة تلو الأخرى بما فيها زوجته التي تركته بعد الجزء الثاني من السداسيّة، واختارت اللّجوء التطوعي إلى مصحة نفسيّة للتعالج من التجربة، وهو الآن شبه متيقن من أن أطفاله سيقاطعونه حالما يتمكنون من قراءة «كفاحي» بمفردهم.
الصراحة في «كفاحي» لا تبدو أبداً نتاج روح متمردة ثائرة بقدر ما هي ممارسة فجّة لحريّة لا يصلها بشر كثيرون ولا هم حتى يرغبون بالوصول إليها، وقد أخذت كنوسغارد عندها لحظاتُ الأرق المزمن والدهشة الطفوليّة للرجل الواقف أمام تلك الهاوية العبثيّة المسماة الحياة. وهو يقول عن نفسه إنه «فاشل حدّ الفضيحة في ممارسة أهم طرائق العيش بالمجتمعات البشريّة والتي هي خداع الذّات». بينما وصفه صديق مقرّب بأنه «أقرب إلى جامع قمامة الأرواح». وعلى الرّغم من ذلك فإن كنوسغارد ينتهي بعد أن يصدم من حوله ويفضح أعماقهم وخفاياهم إلى أن كثيرين منهم يتقبلونه بعد ذلك ربما لأنه ينجح دائماً في الظهور من دون ادعاءات أو مبالغات كشخص ساذج.
لا يُخفي كنوسغارد أنه يشعر بالخجل والضيق مما يكتب، ولا يقوى على النظر في وجوه الناس الذين عرّاهم بكلماته، ويصاب بتوتر عميق عندما يبعث أي منهم بريداً إلكترونيّاً إليه فتخونه شجاعته عن فتحه، لكنه لا يفهم مطلقاً لماذا لا يمكنه التغاضي عن كل تلك الرداءة التي تُلم بأرواح البشر كما يفعل الناس العاديون في المجتمعات المعاصرة، فينتهي دائماً إلى وصفها بالكلمات.
يصف النقاد الأدبيون النص الكنوسغاردي في «كفاحي» بأنّه قريب من رواية «البحث عن الزمن المفقود» لمارسيل بروست. لكن الروائي النرويجي يجد أنّه أقرب أدبيّاً للآيرلندي جيمس جويس صاحب الرّواية الشهيرة، التي لم يفهمها أحد إلى اليوم «يوليسس». ولعل واقعيّته المفرطة مع قدرته على نحت المنمنمات تجعله مبتدع واقعيّة سحريّة بنفسِ اسكندنافي على نسق واقعيّة ماركيز الأميركية – اللاتينيّة. لكن تلك المقارنات لا شك معنية أكثر بالروحيّة التي تتحكم في فضاء النص لا في أسلوب الكتابة ذاته، إذ إن جملة كنوسغارد لا علاقة لها بقوانين الكتابة المتعارف عليها، وهي تبدو أحياناً – على ذمة بين ليرنير في مجلّة «لندن بوكس ريفيو» – وكأنها قوائم تسوّق طويلة بلا داع أدبي تفتقد للعمق، وتوظف كليشهات لزوم ما لا يلزم. ومع ذلك فإنه يمكنه أن يصف هباءة في قماشة مزركشة منسوجة بطول عشرين سطراً على نحو يدفع بقارئه عندما يرفع عينيه من دفتي الكتاب لرؤية العالم بشكل مغاير تماماً لم يتسن له إدراكه من قبل. وحتى عنوان كتابه – الذي أثار الجدل لتطابقه مع عنوان هتلر المشهور – لا تبدو له أي علاقة مباشرة بنص الكتاب اللهم ربما في الجزء المتمم للسداسيّة، حيث يفرد مقالة صغيرة عنه تعليقاً على ربط جمهوره لعنوانها الرئيس بمذكرات الفوهرر، معترفاً بأن جزءاً من شعبيته المكتسبة نتيجة بوحه الذاتي المؤلم موازية لذات الحالة المدهشة التي أصابت الألمان عندما قرأوا «كفاحي» – بنسخته الهتلريّة – فتعاطفوا معه وتبعوه. والواقع أن كنوسغارد ليست له علاقة بالسياسة إلا من بوابة تقديم صورة شديدة السطوع عن ذلك الفخ الذي وقعت فيه البشريّة أيام الرأسماليّة المتأخرة، ففقدت روحها وتاهت بأروقة الضجر والادعاء والتكاذب.
نهاية «كفاحي» لا يبدو أنها تعني توقف كنوسغارد عن الكتابة، فلا شيء عنده يماثل توقعات المجتمع منه، ولا يُستغرب أن يقوده الضجر مجدداً لتمديد كفاحه بعد «النهاية» لنقرأ كيف كانت معاناته مع الوجود فيما تلاها. على أنه نشر أثناء كتابته للسداسية رباعية الفصول، التي هي نصوص تتخذ كل مجموعة منها اسم فصل من فصول السنة يصف فيها العالم كما نعيشه لابنته الصغيرة.
يقول كنوسغارد إنه لن يسامح نفسه أبداً عما اقترفه في 3600 صفحة من «كفاحي». ذلك تحديداً ربما سيكون كلمة السّر لدخول السداسيّة إلى بانثيون الكلاسيكيّات الهائل، الذي ليس فيه كتب لم تُغضب معظم الناس حول مؤلفيها، قبل أن تستحق سمة الأبديّة.