د. انتصار البناء
كاتبة وناقدة من البحرين
على الرغم من تفاوت جودة الأعمال الدرامية العربية، التي يتركز إنتاجها وعرضها في شهر رمضان، وعلى الرغم من غلبة طابع الإنتاج الاستهلاكي في هذا الكم الغفير ، غير أن الاهتمام بتحليل ونقد الإنتاج الدرامي العربي، وفي هذه المرحلة تحديدا، يستحق منا دراسات مركزة، ذلك أن لكل ظرف تاريخي خطابه المعتمد وخطابه الضد. والدراما والفن عامة لن يخرجا عن كونهما أحد الخطابات (المُوَجّهَة) التي تسعى للتأثير والهيمنة لجهات متعددة بعضها شعبي وأغلبها ليس مستقلا عن السُلُطات الرسمية. بل إن خطاب الثقافة التلفزيونية كما وصفه عبدالله الغذامي، قد صار ” هو العلامة الدالة، وهو المكون الأخطر للذهنية البشرية في والوعي وفي التأويل “. وقد ازدادت كثافة وتأثير المكون التلفزيوني مع تراجع باقي المؤثرات الفكرية مثل الكتاب والندوات والحوارات.
والقراءة الثقافية للأعمال الدرامية تختلف عن التحليل الفني المتخصص، الذي يتولى مهمته نقاد الدراما والسينما الذين يجيدون فك خيوط الصناعة ذاتها، وإرجاع جماليات العرض أو هفواته إلى مصادره الأولى في بناء العمل تأليفا وسيناريو وتمثيلا وإخراجا ودعما فنيا من الاكسسوارات والموسيقى وباقي المؤثرات. القراءة الثقافية تعتمد بالأساس على تطور مفهوم القراءة الذي خرج عن إطار دراسة النصوص المكتوبة إلى أن صار هذا ” المصطلح يستخدم اليوم، بمعنى أوسع، لكي يشمل الأحداث والتجارب والأعمال التي تنتج حولها الكتابات والنصوص، بل وهو بات يشمل أي معطى كان، لكي يتصدر مفردات الخطاب المتعلقة بالفهم والتشخيص أو بالتقييم والتقدير “، ويرجع الفضل في ذلك إلى تطور الدراسات السيميائية والثقافية والاجتماعية وتجاوزها حدود التخصص وأطر الموضوعات المغلقة إلى البحث عن العلاقات بين المجالات العلمية والثقافية المتعددة والتخصصات المختلفة.
وفي هذا المقال سنركز على عملين دراميين من دولتين عربيتين تشهدان أزمات سياسية حادة تصل إلى النزاع العسكري المسلح الذي أعاق الكثير من مناحي الحياة الطبيعية، فكيف بمجال الإنتاج الدرامي!. العمل الأول هو المسلسل السوري “فوضى”. والعمل الثاني هو المسلسل اليمني “الدلال”.
مسلسل (فوضى) للمخرج السوري سمير حسين، وتأليف حسن سامي يوسف ونجيب نصير. يعرض طبيعة العلاقات الاجتماعية (المستجدة) في أحد أحياء الطبقة المتوسطة السورية الذي نزح إليه أفراد وعائلات مختلفة من مناطق سورية شتى تعرضت للقصف والتدمير. وقد دخلت تلك المكونات الاجتماعية في علاقات متشابكة أبرزت التباين في اختلاف الثقافات والمستويات الاقتصادية والاجتماعية. ومنها تباين النظرة الاجتماعية إلى المرأة، في سياق ظروف الحياة الجديدة القاسية بعد انهيار المنظومة الاجتماعية الحاضنة لبعض الشخصيات النسائية في المسلسل. والعلاقات الاجتماعية (المستجدة) في الحي قامت في جوهرها على علاقتي (التضامن والاستغلال)، وتحكمتا في تطور البناء الدرامي في العديد من أحداث المسلسل. وهما علاقتان فرضتهما ظروف الحرب والنزوح، ووقوع العديد من الشخصيات تحت وطأة الاحتياجات الماسة، وانكشاف القيم والطبائع الأصلية للكثير من شخصيات المسلسل.
وفي أحداث المسلسل تستوقفنا شخصيتان ذاتا علاقة خاصة بفلسفة المسلسل. الشخصية الأولى هي شخصية المحامي (راتب) الذي صمد على مبادئه القانونية طويلا ورفض كل التهديدات والمغريات التي كانت قد تجعله يخالف قناعاته. إلا أنه في النهاية رضخ تحت ضغوط شديدة لإملاءات أحد المتنفذين. وتبرز المفارقة في أن المحامي راتب استغل إمكاناته ونفوذه الجديدين الذي امتلكهما من علاقاته الجديدة بالمتنفذين؛ في خدمة أصدقائه وفي إعانة الكثير من المنكوبين من أهل الحي. وهذا ما يجعل العلاقتين المتناقضتين (التضامن والاستغلال) تجتمعان في شخصية واحدة في المسلسل شخصية المحامي راتب. لتطرح سؤالا يزداد إلحاحا مع تصاعد أحداث المسلسل: هل من الحكمة الاستفادة من العلاقة مع الفاسدين (الذين خربوا البلد) لخدمة الأشخاص المنكوبين من حلولنا؟!! وخصوصا في ظرف قاس واستثنائي مثل الحرب التي قد تسد أبواب ومنافذ السلوك الإنساني السوي!!. هل التضامن مع المحتاجين يبرر التطبيع مع الفاسدين؟!!
الشخصية الثانية هي شخصية فتحية التي يموت جميع أفراد عائلتها في قصف صاروخي، لتعيش هي بعد ذلك أزمة حادة ومعقدة مؤسّسَة على (التباس) أسباب أزماتها المعقدة هذه . حيث تتداخل ظروف حملها مجهول المصدر (اغتصاب جماعي حسب روايتها)، وعلاقتها بشقيقين أحدهما كان خطيبها السابق الذي اختفى في بداية المسلسل لأسباب أمنية ملتبسة، والثاني زوجها الحالي الذي تولى العناية بها بعد تعرض أسرتها للقصف. وتتطور شخصية فتحية بعودة حنينها لزوجها السابق ومحاولاتها المتكررة لاستمالته. مما يخلق ربكة وتشوشا في موقف المشاهد من شخصيتها. هل هي صادقة فعلا في تفسير مصدر حمْلها أم أنها عابثة؟ هل ظلمتها الظروف، أم أنها هي من يسعى لتعقيد حياتها وحياة الآخرين في ظروف بالغة التعقيد على الجميع؟ هل تستحق التعاطف أم الغضب لأنها بدأت تسبب مشاكل كبيرة للآخرين؟!!. شخصية فتحية هي تجلي لحالة الفوضى والاضطراب في مجتمعنا التي لا نعرف مصدرها.
الخطاب العام الذي يوجهه المسلسل أن ثمة أزمة في الأسرة، وفي بناء الأسرة وفي العلاقات الأسرية تمتد إلى العلاقات الاجتماعية في الحي والعمل وباقي العلاقات من الدرجة الثانية والثالثة. فالعلاقات الأسرية مفككة وتقوم على الفقد والقطعية والصراع وعدم التفاهم وعدم الالتزام تجاه الآخر. وحين تتفاقم المشكلات الأسرية، تحاول بعض الشخصيات مثل (المحامي راتب) تبسيط ما يحدث، بقوله (ما يحدث في البلد أكبر من هذا الكلام) والحقيقة أن المسلسل يريد القول إن (ما يحدث في البلد هو امتداد لهذه الفوضى في العلاقات الإنسانية).
والمسلسل تأليفا وأداء وإنتاجا وإخراجا حافظ على المستوى النوعي المتقدم للدرامي السورية الذي بلغ ذروته قبل الحرب. وكان للإبداع في التصوير، وتنقل حركة الكاميرا من المجاميع إلى الأفراد ومن الخارج إلى الداخل أثر بالغ في تحفيز المشاهد على التأمل ومزج الوجدان بالفكرة، وربط الأزمات النفسية بطبيعة الواقع المجتمعي. حيث إن ” الصورة قادرة على تحفيز القدرات التأويلية لدى المشاهد، والمشاهد سيغير من حيادية الصورة عبر المزاوجة بينها وبين مخزونه الثقافي والوجداني، ومهما بلغت الصورة من فنية وحرفية فإن عنصري الإخراج والمونتاج هما عنصران مهمان ليس في صناعة الصورة فحسب بل في تأويلها أيضا
المسلسل الثاني هو مسلسل (الدلال) للمخرج اليمني وليد العلفي. تميز المسلسل ببساطة الطرح مع عمق الغايات، وبطابع كوميديا الموقف من غير ابتذال، وجودة جيدة في الإنتاج والإخراج، وأداء عال من كثير من الممثلين. تدور أحداث المسلسل حول شخصية (دلال) وأخته يبيعان بضاعتهما بين القرى مما يساعدهما في معرفة طبيعة القرى ويمكنهما من دخول منازل وجهائها. ويتضح فيما بعد أن الدلال مخبر يعمل لصالح الأجهزة الأمنية دون علم أخته وقد ساعده عمله في كشف الكثير من جرائم تهريب المخدرات والآثار في البلد. ويكون عنصر المفاجأة في نهاية المسلسل هو كشف الأحداث عن الراعي الأساسي لكل جرائم الاغتيالات وعمليات التهريب، التي تمثلت في رجل أعمال قدمته الحلقات الأولى من المسلسل بصفته رجل أعمال (شريف ووطني)، ويخوض معارك وصراع مع شيخ القرية الفاسد. وتتحول مفاجأة المشاهد إلى صدمة حين تكشف الحلقة الأخيرة بأن شيخ القرية ليس إلا تابعا لرجل الأعمال صاحب العلاقات المريبة مع شخصيات سياسية في البلد وخارجها.
وتكمن أهمية حالة المفاجأة ثم الصدمة التي أدخل المسلسل فيها المشاهد، في مقاصدها الاجتماعية ومغازيها السياسية تحديدا. ففي بلد يعيش أزمات متعددة مثل اليمن يتبين يوما بعد يوم أن بعض صانعي الأزمات هم شخصيات كانت بعيدة عن الأضواء السياسية، أو أنها شخصيات لها حضوران، حضور إيجابي جلي وحضور خطير خفي. وهو ما يجعل الثقة بالواقع الجلي أمرا غير مضمون النتائج. فـ ” العنصر الأكثر أهمية سواء في مجال العلم أو في مجال تجربة الحياة هو “تخييب التوقع”: إنه شبيه بتجربة أعمى يصدم بحاجز فيعلم حينئذ بوجوده. فعندما نتأكد من خطأ فرضياتنا، حينئذ نجد أنفسنا وجها لوجه مع “الحقيقة” إن تفنيد أخطائنا هي التجربة الإيجابية التي نستخلصها من الواقع “. وتخييب الواقع هو أن يخيب ظنك مرات متكررة في حقيقة الواقع الذي تراه، لتتعلم من التجارب الخائبة أن لا مجال لثقة كاملة في هذا الواقع المباشر.
ومسلسل الدلال يقوم على خطاب نقدي أحد (بياناته) إبراز الصورة السلبية (للشيخ). والثراء الفاحش الذي يعيشه مقارنة بالفقر المدقع لباقي المواطنين. وأطقم الحماية الكبيرة التي ترافقه برغم تجرده من أي منصب سياسي. كما تطرح وقائع المسلسل الدور التقليدي (للشيخ) في التحكم في (رعيته) خارج أطر القانون وتدخله الشخصي في قضايا مثل توزيع الإرث لغير عائلته، ترتيب نتائج عملية الانتخابات، واستغلال موارد القرية لصالحه وصالح من يتبعهم من المتنفذين. واهتم المسلسل كثيرا بتسليط الضوء على نظرة (الشيخ) وتعامله التقليدي مع المرأة، سواء كانت زوجة أم أختا. فهو لا يؤمن بتعليم المرأة ولا بحقها في الميراث ولا بحقها في اختيار الزوج وغيرها من جوانب التعامل التقليدي شديد القتامة في التعامل مع المرأة. والجوانب السابقة تعد الجوانب الاجتماعية والثقافية والسياسية الجريئة في الخطاب الذي يحمله المسلسل، في مجتمع مازال تقليديا، ومازال يرزح تحت صراعات خطيرة.
الخطاب الآخر الذي حمله المسلسل هو الخطاب الجمالي حيث أبرز المسلسل بشكل مبهر الزي النسائي التقليدي الجميل. والطابع المعماري اليمني والطبيعة اليمنية الأخاذة بصورة منتقاة ومدروسة. وكأن مخرج المسلسل يريد أن يقول إن الطبيعة اليمنية والإنسان اليمني أجمل من الحرب ونكباتها. تلك المشاهد الجمالية للطبيعة والأزياء جعلت في المشاهد يدرك أن ثمة تباينا بين الواقع الجميل ومعطياته البديعة، وما يصنعه الإنسان من خلل يخلق كل هذا التشوه الذي يراه شاخصا أمامه. والرؤية الإخراجية التي قام عليها المسلسل في المراوحة بين أحداث المسلسل والمناظر الجمالية؛ ساهمت في تعزيز استيعاب المشاهد لهذا الكم المتناقض من الأفكار في خطاب المسلسل، إذ ” إن تتابع الصورة وتغيراتها ستساعد على تقديم إمكانات دلالية متنوعة من جهة ومتضاربة من جهة أخرى، وهذا الكم من المعرفة المصاحب للصور سيجعل العالم كله في متناول يد المشاهد، حتى لتكون العين أمام لوحات كونية تختصر الوجود البشري كله. ”
مسلسل فوضى السوري ومسلسل الدلال اليمني هما رسالتان فنيتان أن الحياة أكبر من الحرب وأن الفن وسيلة للعيش وللتعايش مع ظروف الحرب القاسية. والفن وسيلة للانسجام مع هذا العالم الذي قد يفقد نظامه ويستبدله بنظام أكثر
فوضوية. والإنسان العربي قادر على العمل والإبداع والإحساس بالجمال وبالآخر تحت ضغط كل الظروف
مراسل المجلة عمار أحمد الكدس