***********************************
يختلف السلوك من شخص إلى آخر ، وبالتالي لا يمكن التّنبّؤ بما سيصدر عنه حاضراً أو مستقبلاً من سلوك ويعتقد مهتمّون بوجود نظام يُحدّد ويُنظّم سلوك الأفراد إلاّ أنه معقّد وقد يستحيل اكتشافه ممّا يدفع بآخرين إلى الاعتقاد بأن إيجاد علم للسلوك خطأ جسيم ، وإلى جانب هذا وذاك هناك من يعتبر تحديد وتأطير وتنظيم السلوك الإنساني يتعارض مع الحرية والمسؤولية الأخلاقية . لكن من الضروري الاعتراف بوجود أسباب تؤثّر في سلوك الأفراد منها :
– الدّوافع الشعورية واللاشعورية ـ
– المصالح والمنافع الفردية ـ
– المصالح الانتمائية (الفئوية والطبقية) .إنّما وفي كل الأحوال نجد لثقافة المحيط الاجتماعي تأثيراً كبيراً ومباشراً في شخصية الفرد وسلوكه ممّا يجعل من التّعديل والتّقويم أمراً بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً . هنا يجب التّسليم بأن الخطوط العريضة للشخصية وملامحها الأساسية إنّما هي نتاج لما سبق وما مرّ به في الطفولة . وممّا هو مؤكّد أنّه لدى الأطفال دوافع نفسية غريزية أهمّها ما اتّفق على تسميته بـ دافع الكفاءة وما هو إلاّ الفاعليّة وهو أساسيّ محوريّ في النّموّ الجسديّ والنّفسيّ ، فما يُظهره الطّفل من غبطة بتحريكه ما يُصدر الأصوات لهو الدّليل على أنّه حقّق فاعليّته فبذلك محاولة منه لإثبات وجوده والسّيطرة على ما يُحيط به وفي هذا تنمية لقدراته الذّاتيّة نفسيّاً وجسديّاً . وبشكل عام نجد أنّ سلوكنا المعرفي أو الحركي أو الانفعالي أو الاجتماعي إنّما تدفع به محاولاتنا لإثبات فاعليّاتنا والتّأكيد عليها من خلال البيئة المحيطة بنا ،
وهنا تصحّ فكرة « بياجيه »: الذّكاء هو العامل الأساس للقيام بالنّشاط التّلقائي للبحث والاستدلال والاستكشاف ومحاولات الوصول إلى نتائج نرجوها ، وتتحقّق هذه الكفاءات بالارتكاز على النّشاط المعرفيّ ، فمن الضروري للطّفل أن يشعر بذاته إيجابيّاً من خلال جهوده الذّاتيّة الّتي تُحقّق نتائج ما . لذا يؤكّد على الدّور الكبير والأثر العميق للحاضن (والوالدان أهمّ الحاضنين) وهو مهمّ وفعّال ليشعر الطّفل بالثّقة وانعدام الشّكّ في قدرته على إحداث الآثار . ولذلك على من يقوم بالحضانة والرّعاية تعميق شعور النّجاح عند الطّفل ليثق بفاعليّته وهذا ما يدفع به ليصقل قدراته ويُنمّيها شيئاً فشيئاً ،و هنا نلتقي مع « إيريكسون » الذي تأكّد له أن الطفل يُحقّق ذاته إذا تحقّقت الثّقة المتبادلة بينه وبين المحيطين به فيشعر باستقلاليّته ممّا يؤدّي إلى تنمية إرادته فتتعزّز عندئذ روح المبادرة لديه وتختلف ظروف الحياة عند الوليد عنها عند الجنين ، فالولادة أوّل صدمة عنيفة يتعرّض لها حيث تختلف التّغذية عبر الحبل السّرّي عن الرّضاعة التي تتطلّب الامتصاص والبلع ما يوجب التّنسيق بين عمليّتي البلع والتّنفّس ، كما أن أجهزة جسم الوليد مسؤولة عن التّنفّس وضبط حرارة الجسم لكن الجنين لا يحتاج إلى التّنفّس وهو يتمتّع بدرجة حرارة ثابتة ، إلى جانب تعرّض الوليد للأضواء والملامسات والأصوات بعد أن كان مستقرّاً ينعم بالهدوء بعيداً عن هذه المؤثّرات الخارجيّة التي تضايقه . وتترك صدمة الولادة آثارها البليغة في اللاّشعور لتظهر مستقبلاً عند من يتعرّضون للشّدّات النّفسيّة من الخوف أو الاكتئاب أو الإرهاص فيلجؤون إلى اتّخاذ وضعيّة الجنين (النّكوص ) ما يعكس حاجتهم الماسّة للدّفء العاطفي والحماية والاستقرار والرّاحة النّفسيّة . أمّا إذا تمّ استدراك الأمر فيمكن للحاضن تجنيب الطّفل هذا مستقبلاً بتعزيز ثقته بنفسه وتمكين قدراته الذّاتيّة . وإنّ سلوك الرّضيع الذي يُظهر الاضطراب النّاجم عن ألم الجوع أو الخوف ممّا يُهدّد كيانه لهو الدّليل على أنّه يشعر وينفعل فهو شديد الحساسيّة . ومن الأسباب الرئيسيّة التي تترك العلامات البالغة في أعماق نفسه : التّناقض والتّباين بين حاجاته الأساسيّة الضّروريّة وبين ما تُمليه ثقافة الحاضنين له والمحيطين به من توقّعات لما يجب عليهم فعله والقيام به لتنمية الطّفل جسديّاً ومعرفيّاً وحركيّاً فيكون من ذلك ما يؤدّي إلى اضطرابات نفسيّة أو سلوكيّة ، لذا من المهمّ جدّاً معرفتنا لتلك الحاجات الأساسيّة للطّفل وهي :
-الحاجة إلى الرّاحة والطّمأنينة والابتعاد عن مثيرات الألم ـ
-حاجته إلى الدّفء العاطفي ( دفء الأمومة أوّلاً ) والتّعلّق بالمحيط ـ
– حاجته إلى الاستقرار وتنظيم العلاقة مع البيئة المحيطة والمحيطين فيه .
حاجته للنّشاط الجسديّ ولاستثارة مشاعره وأحاسيسه .
حاجاته الجسديّة العامّة (كالغذاء والإخراج ).
وبمعرفتنا هذه الحاجات تُلزمنا الضّرورة مراعاتها وتأمينها لتأكيد بناء الثّقة عند الطّفل فالثّقة حالة انفعاليّة تستثيره ليتآلف مع المحيط . وإنّ أعراض الاكتئآب أو الحزن وعدم الاستجابة أو اللامبالاة بالمؤثّرات أو فقدان الشهيّة مؤشّرات على انعدام أو تقهقر الثّقة عند الرّضيع . أمّا الثّقة بالمحيط فتعزّز ثقته في نفسه وفي قدرته وكفاءته ممّا يُساعده على تنمية شعوره بأنّه قادر على التّأثير بالمحيط وامتلاك زمام الأمور .
ولا يجب أن نكتفي بما لدى الطّفل من الدّوافع وإنّما علينا دعم دوافعه للاستطلاع والتّكيّف وتنبيهه بتأمين الظروف والمؤثّرات ليتكيّف مع المحيط أكثر فأكثر ، وهنا علينا أن ندرك أنّ أهم عامل في التّكيّف مع المحيط هو معرفته …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: العروبة العدد 15197 – 18 / 10 / 2018م
الكاتب: عبـَّاس سليمان علي